بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحدث القرآن الكريم عن الوحي ومنزل الوحي اكثر من غيره من الكتب السماوية المقدسة كالتوراة والانجيل ، وحتى نجد فيه آيات تتحدث عن كيفية الوحي نفسه.
ويعتقد عامة المسلمين 1في وحي القرآن : ان القرآن بلفظه كلام الله تعالى انزله على النبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم بواسطة احد الملائكة المقربين.
هذا الملك الوسيط يسمى بـ « جبرائيل » و « الروح الامين » جاء بكلام الله تعالى الى الرسول في فترات مختلفة بلغت ثلاثاً وعشرين سنة. وكان على الرسول ان يتلو الآيات على الناس ويوقفهم على معانيها ويدعوهم الى ما فيها من المعارف الاعتقادية والآداب الاجتماعية والقوانين المدنية والوظائف الفردية.
وقام الرسول بأداء ما كان عليه نصاً بدون ان يتصرف في مواد الدعوة الالهية او يضيف عليها او ينقص منها او يقدم او يؤخر شيئاً من موضعه الذي وضعه الله تعالى فيه.
كتاب العصر والوحي والنبوة
أما الباحثون وكتاب العصر الذين لهم بحوث حديثة في الاديان والمذاهب ، فيعتقدون في وحي القرآن والنبوة انه :
كان نبي الإسلام نابغة عارفاً بالاوضاع الاجتماعية ، وسعى في خلاص البشرية من مهوى الوحشية والانحطاط الخلقي ورفعها الى اوج المدنية والحرية ، فدعا الناس الى اعتناق آرائه الطاهرة التي تجلت بشكل دين جامع كامل.
يقولون : كان النبي يحمل روحاً نزيهة وهمة عالية ، عاش في بيئة يسودها الظلام وتتحكم فيها القوة والاراجيف والهرج الاجتماعي ، وتتسم بحب الذات والسيطرة غير المشروع على الاموال ، وتتجلى فيها كل مظاهر الوحشية المقيتة.
كان النبي في ألم نفسي دائم من هذه البيئة الفاسدة ، فكان كلما بلغت الالام في نفسه الكريمة مبلغها يأوي الى غار في احدى جبال تهامة ، فيبقى فيه اياماً يخلو الى نفسه ، وكان يتوجه بكل حواسه الى السماء والارض والجبال والبحار والاودية والآجام وما وضعته الطبيعة تحت تصرف البشرية من سائر النعم ، وكان يأسف على الإنسان المنهمك في الغفلة والجهل ، الذي قد ابدل حياته السعيدة الهانئة بحياة نكدة تضاهي حياة الحيوانات الوحشية.
كان النبي الى حوالي اربعين سنة من عمره يدرك تلك المفاسد الاجتماعية ويتألم من جرائها بالالام النفسية ، فلما بلغ الاربعين من عمره وفق الى كشف طريق للاصلاح يمكن بواسطته ابدال تلك الحياة الفاسدة بحياة سعيدة فيها كل معاني الخير ، وذلك الطريق هو « الإسلام » الذي كان يتضمن ارقى الدساتير التي كانت تناسب مزاج ذلك العصر.
كان النبي يفرض ان افكاره الطاهرة هي كلام الهي ووحي سماوي يلقيها الله تعالى في روعه ويتكلم بها معه. كما كان يفرض روحه الخيرة التي تترشح منها هذه الافكار لتستقر في قلبه هي « الروح الامين » و « جبرائيل » والملك الذي ينزل الوحي بواسطته.
وسمى النبي بشكل عام القوى التي تسوق الى الخير وتدل على السعادة بـ « الملائكة » ، كما سمى القوى التي تسوق الى الشر بـ « الشياطين » و « الجن ». وقد سمى ايضا واجبه الذي املاه عليه وجدانه بـ « النبوة » و « الرسالة ».
* * *
الرأي الذي ذكرناه باختصار هو للباحثين المعتقدين بالله تعالى وينظرون الى الدين الإسلامي بنظرة فيها شيء من الانصاف والتقييم. اما الملحدون الذين لا يعتقدون بالله تعالى فانهم يعتبرون النبوة والوحي والتكاليف الالهية والثواب والعقاب والجنة والنار سياسات دينية بحتة ، وهم يذهبون الى ان هذه كلها اكاذيب قيلت لمصالح خاصة ضرورية في حينها.
يقولون : ان الانبياء كانوا مصلحين جاؤا ببرامج اصلاحية في اطار ديني. ونظرا الى ان الناس كانوا في العصور السالفة منهمكين في الجهل والظلمة والخرافات ، وضع لهم الانبياء النظم الدينية في ظل سلسلة من العقائد الخرافية تتمثل في مسائل المبدأ والمعاد.
ماذا يقول القرآن في الموضوع
تفسير الوحي والنبوة بالشكل الذي بيناه انما هو لاولئك الباحثين الذين اشتغلوا بالعلوم المادية الطبيعية ، فهم يرون ان ما يوجد في الكون لا بد ان يفسر بالتفسير المادي الطبيعي ، وتنتهي جميع الحوادث والاحداث عندهم الى الاسباب الطبيعية البحتة. ومن هنا فسروا التعاليم السماوية بتفاسير اجتماعية تتفق واتجاههم الطبيعي ، ونظروا الى تلك التعاليم كأحداث ظهرت لتفاعلات اجتماعية خاصة.
فهي أذا تشبه الاحداث التي ظهرت على ايدي بعض النوابغ امثال الملك كورش وداريوش والاسكندر المقدوني ، فكما لا تفسير لاعمال لو نسبوها الى الله تعالى والاوامر السماوية الا ما مضى فكذا لا تفسير لاعمال الانبياء الا ما ذكروه.
نحن لا نريد هنا البحث عما يتعلق بما وراء الطبيعة ، كما لا نريد ان نقول لهؤلاء الباحثين : ان لكل علم ان يبحث فيما يدخل في اطاره من مسائله الخاصة ، ولا يحق للعلوم المادية التي تختص بشؤون المادة وخواص آثارها ان تبحث عما يتعلق بما وراء الطبيعة نفيا او اثباتا.
لا نريد هذا ، ولكننا نقول : ان التفسير المذكور للوحي والنبوة يجب أن يعرض على الآيات القرآنية التي هي سند نبوة النبي الكريم ، لنرى هل يلتقيان معا أم لا يلتقيان؟
القرآن الكريم صريح في عكس التفسير السابق للوحي والنبوة ولا يلتقي معه في شيء من آياته. ولا بأس ان نقارن هنا مقاطع ذلك التفسير الموهوم مع ما جاء في القرآن ، فنقول:
١ ـ كلام الله تعالى
يقول التفسير السابق : كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يسمي افكاره الطاهرة التي كانت تنقدح في ذهنه بـ « كلام الله ».
ومعنى هذا التفسير ان تلك الافكار كبقية افكار النبي كانت نتيجة لما تدور في خلده ، ولكنها لما كانت طاهرة ومقدسة نسبت الى الله تعالى ، فيه منسوبة الى النبي بالنسبة الطبيعية ومنسوبة الى الله بالنسبة التشريفية.
ولكن القرآن الكريم يصرح في آيات التحدي بنفي كونه من كلام النبي او اي انسان اخر ، فيقول : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 2.
ويقول :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 3.
ويقول : ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ 4.
ويقول :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 5.
ويقول :﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ 6.
من الواضح البديهي ان هذه التصريحات لا تناسب كون القرآن من كلام الرسول وقد نسب الى الله تشريفا ، بل تثبت قطعا انه من كلام الله تعالى لا غير.
وبالاضافة الى هذا يسرد القرآن في مئات من اياته ما ظهر من المعاجز وخوارق العادة على يد الانبياء عليهمالسلام اثبتوا بواسطتها نبوتهم واستدلوا بها على رسالتهم. فلو كانت النبوة ذلك النداء الوجداني والوحي تلك الافكار الطاهرة ـ كما يقول التفسير المذكور ـ لما احتاج القرآن الى اقامة الحجة تأكيدها على نبوة الانبياء بسرد قصص المعاجز والكرامات.
وقد اوّل بعض الكتاب هذه المعاجز الصريحة بشكل مضحك ، الا ان كل واحد من القراء عندما يراجع ما قالوه في تأويلاتهم يرى ان مدلول الآيات القرآنية لا يتفق مع ما ذهبوا اليه من الآراء الخاطئة.
لا نريد في هذا البحث اثبات امكان تحقق المعجزة وخوارق العادة ، او التأكيد على صحة القصص القرآنية. بل نحاول القول بأن القرآن اثبت صريحا للانبياء السابقين كصالح وابراهيم وموسى وعيسى عليهمالسلام معاجز خاصة ، ولا يمكن حمل هذه القصص الا على خوارق للعادة. ولا نحتاج ـ كما قلنا ـ الى المعاجز في اثبات النداء الوجداني والفكر الطاهر.
٢ ـ جبرائيل والروح الامين
يسمى التفسير السابق روح الرسول الطاهرة التي كان دأبها طلب الخير والاصلاح الاجتماعي بـ « الروح الامين » ، ويسمى ما تلقيه الروح الزكية في روعه المبارك بـ « الوحي ».
ولكن القرآن الكريم لا يؤيد ما ذهب اليه هؤلاء ، لانه يصرح بأن وسيط الوحي يسمى بـ « جبرائيل » ، وعلى التفسير المذكور لا موجب لهذه التسمية بتاتاً. يقول تعالى :﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ... ﴾ 7.
نزلت هذه الآية في اليهود الذين سألوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عمن يأتيه بالوحي ، فأجابهم انه جبرائيل الملك ، قالوا : ذاك عدونا من الملائكة ولو كان ميكائيل لاتبعناك 8.
يرد الله تعالى في هذه الآية على اليهود ، ويؤكد بأن جبرائيل انما جاء بالوحي باذن منه عز شأنه ، فيثبت بأن القرآن من كلام الله تعالى وليس من كلام جبرائيل.
وواضح بأن اليهود كانوا اعداءاً لملك سماوي كان يأتي بالوحي من السماء ، وكان ذلك الملك غير موسى بن عمران ومحمد بن عبد الله صلى الله عليهما ، كما انه لم يكن روحيهما الطاهرة.
والقرآن نفسه الذي صرح في الآية المذكورة ان وسيط الوحي هو جبرائيل ، صرح في آية اخرى انه الروح الامين فقال : ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ ... ﴾ 9.
ويقول تعالى في موضع اخر بصدد التعريف بوسيط الوحي : ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ 10.
وهذه الآيات تدل دلالة واضحة على ان جبرائيل من الملائكة المقربين عند الله تعالى ، وهو ذو قوة عظيمة ومنزلة رفيعة وهو المطاع الامين.
ويصف الملائكة المقربين في موضع آخر بقوله : ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... ﴾ 11.
تدل الآية على ان الملائكة موجودات لهم ارادتهم ومداركهم واستقلالهم ، لان الاوصاف المذكورة فيها ـ كالايمان بالله والتسبيح له واستغفار للمؤمنين ـ لا تتوفر الا فيمن يتم له الاستقلال الكامل والمدارك التامة والارادة الخاصة.
ويقول تعالى في الملائكة المقربين ايضا:﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴾ 12
الى ان يقول : ﴿ ... وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ 13 .
ان المسيح والملائكة المقربين لا يعصون الله طرفة عين ، ولكن مع ذلك هددهم تعالى بالعذاب الاليم لو تلبسوا بالمعصية ، والتهديد من عذاب يوم القيامة المتفرع على ترك نوع من التكليف لا يصح الا بالاستقلال واردة.
ويتضح من الآيات المذكورة ان الروح الامين ـ الذي يسمى جبرائيل ايضا وهو الذي يأتي بالوحي الالهي ـ له استقلاله وارادته ومداركه ، بل يستفاد من خلال آيات سورة التكوير « مطاع ثم امين » انه يأمر وينهي في الملأ الاعلى وتطيعه الملائكة المقربون ، بل نرى في بعض الاحيان ان الوحي ربما يأتي على يد ملائكة يأتمرون بأوامره ، كما تشير الى ذلك الآيات الواردة في سورة عبس ﴿ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ 14.
المصادر
1. هذه العقيدة ناشئة مما يفهم من ظواهر الفاظ القرآن الكريم.
2. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 38، الصفحة: 213.
3. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 13، الصفحة: 223.
4. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 88، الصفحة: 291.
5. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 23، الصفحة: 4.
6. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 82، الصفحة: 91.
7. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 97، الصفحة: 15.
8. الدر المنثور ١ / ٩٠ ، ونور الثقلين ١ / ٨٧ ـ ٨٩ ، وغيرهما.
9. القران الكريم: سورة الشعراء (26)، الآية: 193 و 194، الصفحة: 375.
10. القران الكريم: سورة التكوير (81)، الآيات: 19 - 23، الصفحة: 586.
11. القران الكريم: سورة غافر (40)، الآية: 7، الصفحة: 467.
12. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 172، الصفحة: 105.
13. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 173، الصفحة: 105.
14. القران الكريم: سورة عبس (80)، الآيات: 11 - 16، الصفحة: 585.
تعليق