بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما هي طبيعةُ المرض الذي كان الإمامُ زين العابدين مُصابًا به في كربلاء؟
الجواب:
المُحرَز بل والمقطوع به أنَّ الإمام زين العابدين كان يوم عاشوراء مُصابًا بمرضٍ عارِض، وكان من الشدَّة بحيثُ منعَه من القتال، فهذا المقدار هو المتسالَم عليه بين المؤرِّخين والمحدِّثين من الفريقين، وأمَّا ما هي طبيعةُ هذا المرض فلم تتصدَّ الروايات لبيانه تفصيلًا، ولعلَّ منشأ ذلك هو عدم ترتُّب فائدةٍ تُذكر على العلم بما هي طبيعة المرض الذي عرَض على الإمام في كربلاء.
كان الإمام مبطوناً:
نعم أشارت معتبرة أبي الجارود عرَضًا إلى أنَّ الإمام كان مبطونًا، فقد أورد الكليني في الكافي بسندٍ معتبر روايةً طويلة عن أبي جعفر الباقر قال فيها: ".. ثُمَّ إِنَّ حُسَيْنًا حَضَرَه الَّذِي حَضَرَه فَدَعَا ابْنَتَه الْكُبْرَى فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ فَدَفَعَ إِلَيْهَا كِتَابًا مَلْفُوفًا ووَصِيَّةً ظَاهِرَةً، وكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مَبْطُونًا لَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّه لِمَا بِه فَدَفَعَتْ فَاطِمَةُ الْكِتَابَ إلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ .."([1]).
وورد أيضًا في كتاب النوادر لعليِّ بن أسباط قال: بعض أصحابه رواه أنَّ أبا جعفرٍ -الباقر- قال: كان أبي مبطونًا يوم قُتل أبوه صلواتُ الله عليهما، وكان في الخيمة .."([2]).
المبطون مَن يشتكي علَّةً في جوفِه:
فالإمام -بحسب ما أفادته معتبرة أبي الجارود ومرسلة عليِّ بن أسباط- كان مبطونًا، ومعنى أنَّه كان مبطونًا هو أنَّه كان يشتكي من بطنِه أي أنَّه مصابٌ بداءٍ في بطنِه، فالمبطون هو مَن به علَّةٌ في بطنه كما أنَّ المصدور هو من به علَّة في صدره، والمفؤود هو مَن به علَّة في فؤاده([3]).
فالإمام إذن -بحسب هذا المأثور- كان مصابًا بعلَّة في بطنِه، وأمَّا ما هي طبيعةُ هذه العلَّة فلم تتصدَّ الرواية لبيانه فإنَّ عنوان المبطون يصدقُ على مَن هو مصابٌ في معدته كما يصدقُ على مَن هو مصابٌ بعلَّةٍ في بعض أحشائه كالكبد أو الطحال أو غيرهما، فالعربُ تُطلق عنوان المبطون على كلِّ مَن أُصيب بداءٍ في جوفه، ولذلك تَعتبِر -مثلاً- المبتلى باستسقاء البطن مبطونًا([4]) رغم أنَّ هذا الداء لا ربط له بالمعدة بل هو عبارة عن تجمُّع سوائل في الجوف نتيجة خللٍ في وظائف الكبد أو الكُليتين أو هما معًا.
وعليه فالاستدلال بالرواية على أنَّ الإمام كان مصابًا في معدتِه بمثل الاسهال لا تصح، فإنَّ الرواية أفادت أنَّه كان مبطونًا والمبطون عنوانٌ واسع لا تتحدَّد به طبيعةُ المرض.
ذكر المفيد أنَّه مُصابٌ بالذرَب:
نعم ذكر الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد وتبعه الطبرسي في إعلام الورى وابن نما الحلِّي وصاحب السرائر([5]) أنَّ الإمام كان مريضًا بالذرَب -بفتح الراء- وهو كما قيل داءٌ يُصيبُ المعدة وأظهرُ آثاره الإسهال الحاد والمستصل وقد يكون عن غير اختيار، ولذلك عرَّفوا الذرَب بقولهم هو: الدَّاءُ الذي يَعْرِضُ للمَعدة فلا تَهْضِمُ الطَّعامَ، ويَفْسُدُ فيها ولا تُمْسِكُه([6]).
مناقشة ما أفاده الشيخ المفيد:
ولم أجد أحدًا من مؤرِّخي الفريقين غير الشيخ المفيد -ومَن تبعه- ذكر أنَّ الإمام كان مصابًا بالذرَب، والظاهر أنَّ ذلك كان اجتهادًا منه في تفسير معنى المبطون الوارد في معتبرة أبي الجارود والرواية الأخرى، خصوصًا وأنَّ كلمة المبطون تُستعمَل في الاصطلاح الفقهي فيما يُساوق أو يقترب من معنى الذرَب على خلاف ما عليه سعة المدلول اللُّغوي لكلمة المبطون.
ولو كان الأمرُ كذلك وكان قولُ المفيد أنَّ الإمام مصابٌ بالذرَب اجتهادًا منه في تفسير ما ورد في مثل معتبرة أبي الجارود فإنَّ النتيجة هي أنَّه ليس لدينا في الأخبار ما يصحُّ الاستناد إليه لإثبات دعوى أنَّ الإمام كان مصابًا بالذرَب لأنَّ ما أفاده الشيخ المفيد (رحمه الله) لم يكن سوى اجتهاد منه في تفسير معنى المبطون.
ولو كان ما أفاده الشيخ المفيد -من دعوى أنَّ الإمام مصابٌ بالذرب- خبرًا تلقَّاه ولم يكن اجتهادًا فإنَّه يكون ساقطًا عن الحجِّية والاعتبار لكونه خبرًا مرسلًا ليس له في الأخبار وكلمات المؤرِّخين ما يعضدُه فلا يُعتمد في مقابل معتبرة أبي الجارود عن الباقر ولا يصلح تفسيرًا لها.
المتعيَّن هو ما ورد في معتبرة أبي الجارود:
بل المتعيَّن طرحُ هذا القول والبناء على منافاته للواقع حتى مع قطع النظر عن معتبرة أبي الجارود، وذلك للقطع بأنَّ الإمام زين العابدين أكرمُ على الله تعالى من أنْ يبتليَه بهذا الداء في هذا الظرف العصيب حيثُ شحَّة الماء أو انعدامه وحصار الأعداء واقتيادهم له من كربلاء إلى الكوفة أسيرًا مكبَّلاً بعد يومٍ من مقتل الحسين ولك أنْ تتصوَّر الحال والهيئة التي يكون عليها المُصاب بالذرَب والإسهال المتَّصل في مثل هذا الظرف.
إنَّ الإمام زين العابدين أكرمُ على الله تعالى من أنْ يبتليَه بهذا الداء في مثل هذا الظرف العصيب، والرواياتُ الكثيرة المتصدِّية لبيان صفات المعصوم وما أكرمه اللهُ تعالى به خيرُ دليلٍ على ما ذكرناه([7])، فلعلَّ الشيخ المفيد (رحمه الله) لم يلتفت إلى لوازم هذه الدعوى أو أنَّه لم يقصد من الذرَب الداءَ الذي من آثاره الاسهال المستمِر، فلعلَّه قصد بعضَ ما يُصيب المعدة من أدواء، وهي كثيرة، ولا يترتَّب على الكثير منها إسهالٌ أو شبهه بل يتمحَّض أثرُها في الشعور بالآلام أو الإعياء والضعف العام في البدن، أو أنَّه (رحمه الله) قصد الذِرْب بكسر الذال وسكون الراء وهو كما أفاد الزبيدي في تاج العروس: دَاءٌ يكونُ في الكَبِدِ بَطِيءُ البُرْءِ ([8])، فلو كان شيءٌ من ذلك هو مرادُه فلا مانع من احتماله وأنَّه هو المقصود من معتبرة أبي الجارود التي أفادت أنَّ الإمام كان مبطونًا.
وخلاصة القول: إنَّ الذي نصَّت عليه معتبرة أبي الجارود عن الإمام الباقر ومرسلة عليِّ بن أسباط عن الإمام الباقر هو أنَّ الإمام زينَ العابدين كان أيام كربلاء مبطونًا، والمبطونُ هو مَن يشتكي علَّةً في بطنه، والمراد من البطن هو مطلق الجوف وما اشتمل عليه من أحشاء كما هو مقتضى ما نصَّ عليه اللُّغويون، وعليه فالرواية مجملة من جهة تحديد ما هي طبيعة الداء الذي أُصيب به الإمام في كربلاء، وأنَّ أقصى ما تدلُّ عليه الرواية هو أنَّه كان يشتكي من علَّةٍ في بطنه.
وأمَّا ما أفاده الشيخ المفيد (رحمه الله) من دعوى أنَّ الإمام كان مصابًا بالذرَب فإنْ كان يقصدُ أنَّه مصابٌ بالداء الذي يُصيب المعدة ويكون من أثره الإسهال المتَّصل فهو من سهو القلم قطعًا -والعصمةُ لأهلها- وإنْ كان يقصدُ من الذرَب ما يُصيب المعدة من أدواء فيترتَّب عنها آلام أو إعياء أو كان يقصد الداء الذي يُصيب الكبد فلا محذور من احتمال ذلك.
وأمَّا ما قيل من أنَّ المراد من الذرَب هو جراحٌ حادَّة أصيب بها الإمام لمشاركته في القتال قبل أنْ يرتثَّ فيمنعه ذلك عن مواصلة القتال فهذا القول لايصحُّ، وقد فصَّلنا ذلك في مقالٍ مستقلٍّ تحت عنوان: مشاركة الإمام زين العابدين في القتال يوم كربلاء؟
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
28 / محرّم الحرام / 1443هـ
[1]- الكافي -الكليني- ج1 / ص290، 291.
[2]- الأصول الستة عشر -تحقيق المحمودي- ص339، بحار الأنوار -المجلسي- ج45 / ص91.
[3]- لسان العرب -ابن منظور- ج9 / ص13، ج13 / ص54، أساس البلاغة -الزمخشري- ص52، غريب الحديث -ابن قتيبة- ج1 / ص100، ترتيب إصلاح المنطق -ابن السكيت- ص342، تاج العروس- الزبيدي- ج18 / ص61.
[4]- النهاية في غريب الحديث والأثر -ابن الأثير- ج1 / ص136، لسان العرب -ابن منظور- ج13 / ص53، تاج العروس- الزبيدي- ج18 / ص61.
[5]- الإرشاد -المفيد- ج2 / ص114، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص470، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص64، السرائر -ابن ادريس الحلي- ج1 / ص250.
[6]- لسان العرب -ابن منظور- ج1 / ص385،النهاية في غريب الحديث والأثر- ابن الأثير- ج2 / ص156. المسائل في الطب للمتعلمين - حنين بن إسحاق ت: 260ه - ص 493 ، شرح الأسباب والعلامات ( شرح نفيس الكرماني 619ه )- نجيب الدين السمرقندي-ج1/ 696 قال: الذرب : وهو انطلاق البطن المتصل . وقيل : هو أن لا ينهضم الطعام في المعدة والأمعاء ولا يغذو جميع البدن بل يستفرغ من أسفل فقط استفراغا متصلا وهو كثير الرطوبة وذلك بسبب ضعف الماسكة فلا يقدر على حمل الغذاء وامساكه أكثر من هذا القدر من الزمان وهو زمان الهضم . وسمى به لان الذرب في اللغة فساد المعدة، يقال : ذربت معدته إذا فسدت ؛ أو لأنه بمعنى الحدة يقال : لسان ذرب وسيف ذرب ، أي : حاد فسمى به لحدة البراز وسرعة حركته في الخروج ؛ أو لأنه بمعنى عدم البرء يقال : ذرب الجرم ، إذا لم يقبل الدواء ، فسمى به لصعوبة العلة وعظم الخطر فيها"
[7]- راجع في ذلك مثل صحيحة اسحاق بن غالب عن أبي عبد الله الصادق الكافي -الكليني- ج1 / ص204، ورواية زرارة عن أبي جعفر الباقر ج1 / ص388، ومعتبرة علي بن الحسن بن فضال عن الإمام الرضا من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج4 / ص419، عيون أخبار الرضا -الصدوق- ج1 / ص192.
[8]- تاج العروس -الزبيدي- ج1 / ص296.