المسألة:
ما رأيكم فيما أثاره البعضُ من نفي استحباب زيارة الأربعين وادَّعى أنَّ زيارة جابر الأنصاري لكربلاء يوم الأربعين لا أصل لها!! ثم شكَّك في إمكانيَّة وصولِه إلى كربلاء واستبعدَ أنْ يتهيأَ له ذلك في هذا الوقت القصير، فمتى وصلَ خبرُ مقتل الحسين (ع) إلى المدينة؟! ومتى انطلقَ منها إلى كربلاء ومتى وصل؟! وادَّعى أنَّ الإصرار على قضيَّة زيارة جابر رغم أنَّه لا أصل لها إنَّما هو لإضفاء بُعدٍ إلهيٍّ على زيارة الأربعين!!
الجواب:
أولاً: المستند في استحباب زيارة الأربعين:
ليس المدركُ للحكم باستحباب زيارة الأربعين هو زيارة جابر الأنصاري (رحمه الله) فإنَّه لا أحدَ من فقهاء الإماميَّة على الإطلاق يقولُ بحجيَّة قول الصحابي فضلاً عن فعله، وعليه فسواءً ثبتَ أنَّ جابراً الأنصاري زار الحسين (ع) يوم الأربعين أو لم يثبت فإنَّه لا تأثيرَ لذلك في ثبوت الحكم بالاستحباب أو نفيه، فكما أنَّ استحباب زيارة يوم عرفة أو يوم عيد الفطر ليس منوطاً بصدور الزيارة من أحدٍ من الصحابة أو غيرهم كذلك هو الشأنُ في زيارة يوم الأربعين، فالحكمُ باستحباب الزيارة يوم الأربعين إنَّما نشأ عن الأمر المولوي بالزيارة الثابت بالروايات المتواترة عن أهل البيت(ع) بل التي تفوقُ حدَّ التواتر بمراتب، هذا فيما يتَّصل بأصل الاستحباب، وأمَّا تأكُّد الإستحباب للزيارة في يوم الأربعين فمدركُه ومستندُه مثل معتبرة صفوان بن مهران الجمال(1) عن الإمام الصادق (ع) المؤيَّدة بما رواه الشيخ المفيد في المزار والشيخ الطوسي في التهذيب عن الإمام العسكري(ع)(2).وقد فصَّلنا ذلك في مقالٍ سابق بعنوان مستند زيارة الأربعين.
وبذلك يتَّضح فسادُ ما توهَّمه صاحبُ الدعوى من أنَّ الاستحباب لا أصلَ له لأنَّ زيارة جابر لا أصل لها بحسب زعمِه. هذا أولاً
وثانياً: زيارةُ جابر وثَّقَ لها أعلامُ الإماميَّة:
إنَّ ما ادَّعاه مِن أنَّ زيارة جابر يوم الأربعين لا أصلَ لها، هذه الدعوى لا تصحُّ، فإنَّ زيارة جابر (رحمه الله) للحسين (ع) يوم الأربعين قد أرَّخ لها الشيخُ المفيد، قال (رحمه الله) في كتابه مسار الشيعة مؤرِّخاً لِما وقع في يوم العشرين من صفر (الأربعين) قال: "وهو اليوم الذي ورَدَ فيه جابر بن عبد الله بن حزام الأنصاري -صاحب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ورضي اللهُ تعالى عنه- من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر سيِّدنا أبي عبد الله عليه السلام، فكان أوَّل من زاره من الناس"(3).
وأرَّخ كذلك لزيارة جابر للحسين (ع) يوم الأربعين شيخُ الطائفة أبو جعفر الطوسي(رحمه الله) في كتابه مصباح المتهجِّد، وأفاد أنَّ جابراً زارَ قبرَ الحسين (ع) يوم الأربعين من مقتله فكان أوَّلَ من زارَه من الناس(4). وأرَّخ أيضاً لزيارة جابر في هذا اليوم رضي الدين الحلِّي في كتابه العدد القوية(5).
والظاهرُ من مساق ما أفاده الشيخُ المفيد أنَّ قضية زيارة جابر في التأريخ المذكور من القضايا التأريخيَّة المُتثبَّت مِن وقوعها ولذلك أرسلها إرسال المسلَّمات عنده ولم يأتِ بما يُعبِّر عن تردِّده في وقوعها بل يظهرُ من مقدِّمته للكتاب أنَّ تواريخ الأيام التي رصدَها في كتابه مسار الشيعة كانت معروفةً ومتداولة في الوسط الشيعي جيلاً بعد جيل، قال (رحمه الله) في مقدِّمة كتابه مسار الشيعة: "فقد وقفتُ أيَّدك الله تعالى على ما ذكرتَ من الحاجة إلى مختصرٍ في تاريخ أيَّام مسار الشيعة وأعمالها .. ليكون الإعتقاد بحسب مقتضاه، ولعمري إنَّ معرفة هذا الباب، من حِليةِ أهل الإيمان، وممَّا يقبحُ إغفاله بأهل الفضل والإيمان. ولم يزل الصالحون من هذه العصابة (حرسها الله) على مرور الأوقات يُراعون هذه التواريخ، لإقامة العبادات فيها، والقرب بالطاعات، واستعمال ما يلزمُ العمل به في الأيام، المذكورات، وإقامة حدود الدين في فرق ما بين أوقات المسارِّ والأحزان .."(6).
فإنَّ الظاهر من تصدِّيه لكتابة هذا الكتاب المختصر هو رصدُ تواريخ الأيام والتي منها يوم الأربعين ليتم الإعتقاد بمقتضاها ثم اعتبر المعرفة لهذه التواريخ لإقامة العبادات فيها من حِلية أهل الإيمان وأنَّه يقبح بالمؤمنين الإغفال لها، وهذا اللحنُ من القول يُعبِّر عن تثبُّته من صحَّة ما رصدَه من تواريخ في هذا الكتاب، وكذلك يظهرُ من قوله: "ولم يزل الصالحون من هذه العصابة -حرسها الله- على مرور الأوقات يُراعون هذه التواريخ"، أنَّ هذه التواريخ التي رصدَها في كتابه وأرَّخ لها كانت متداولةً ومرعيَّة من قِبَل هذه الفرقة المحقَّة على مرور الأوقات التي سبقتْ وقتَه وزمانه وكذلك هي متداولة ومرعيَّة في زمانه، فهم لم يزالوا يُقيمون ما تقتضيه هذه التواريخ من مسارَّ وأحزان، وهذا معناه أنَّ مقصوده غير متمحِّض في أنَّ المتداول بين الشيعة هو كيفيَّة العبادة في هذه التواريخ بل يشملُ الأحداث التي وقعتْ فيها والتي يقتضي بعضُها المسرَّة ويقتضي بعضُها الحزن كما أفاد رحمه الله.
وعلى أيِّ حال فدعوى أنَّ زيارة جابرٍ لقبر الحسين (ع) في يوم الأربعين من مقتله لا أصل لها هذه الدعوى منقوضةٌ بما أرَّخ له الشيخُ المفيد (رحمه الله) وشيخُ الطائفة الشيخ الطوسي وكذلك رضي الدين الحلِّي -وهو مؤيَّدٌ بما رواه عماد الدين بن أبي القاسم الطبري- من أعلام الإماميَّة -في كتابه بشارة المصطفى(7)-، ولعلَّ صاحبُ الدعوى لم يطَّلع على ما أفاده هؤلاءِ الأعلام فزعم أنَّ زيارة جابر لا أصلَ لها!!
وثالثاً: إمكانيَّة وصول جابر يوم الأربعين:
وأمَّا التشكيك في إمكانيَّة وصول جابر لكربلاء يوم الأربعين من مقتل الحسين (ع) فجوابُه إنَّ عبيد الله بن زياد بعثَ رسولاً إلى عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة يُخبره بمقتل الحسين (ع) بعثه حين وصول رأس الحسين (ع) إلى الكوفة أي في اليوم الحادي عشر من المحرَّم وأوصاه أنْ يجدَّ في المسير إلى المدينة فلا يسبقُه بالخبر أحد وقال له: "لا تعتل وإنْ قامت بك راحلتُك فاشترِ راحلة"(8).
فإذا كانت المسافة بين الكوفة والمدينة المنورة عشرين مرحلة -كما ذكر أصحابُ المسافات-(9)، والمرحلةُ هي المسافة التي يقطعُها المسافرُ على الجِمال المثقلة بالأحمال في يومٍ واحد أي في نهارٍ واحد من الشروق إلى الغروب، فالمسافرُ من المدينة إلى الكوفة على الجِمال المثقلة يحتاج إلى عشرين يوماً ليصل، أما لو سارت الجمال المثقلة أكثر ساعاتِ الليل والنهار فإنَّ المدَّة سوف تتقلَّص إلى ما يقربُ من نصف المدَّة أي في وقتٍ لا يتجاوز الإثني عشر يوماً أو يزيد يوماً واحداً، ولو كان السفرُ بواسطة الخيل فإنَّ المدَّة التي يحتاجها المسافرُ للوصول من الكوفة الى المدينة لا تتجاوز العشرة أيام لو سار في النهار دون الليل أو العكس، ولو سار أكثر ليله ونهاره فإنَّه لا يحتاج للوصول إلى أكثر من سبعة أيام أو ثمانية على أبعد التقادير.
وعليه فإذا كان رسولُ عبيد الله بن زياد سافر في اليوم الحادي عشر أو حتى الثالث عشر فإنَّه سيصلُ الى المدينة على أبعد التقادير يوم العشرين من محرَّم لأنَّه كان خفيفاً وكان سيرُه حثيثاً كما أوصاه ابنُ زياد، وحيثُ إنَّ خبر مقتل الحسين (ع) قد شاع في المدينةِ وذاع فَورَ وصول الرسول -كما نصَّ على ذلك الطبري(10) وغيره- فإنَّ أمام جابرٍ بعد وصول الخبر بمقتل الحسين (ع) ثلاثين يوماً ليصل إلى كربلاء يوم الأربعين، فلو خرجَ جابرٌ مسافراً يوم الخامس والعشرين من محرَّم أي بعد وصول الخبر بخمسة أيام وسار نهاراً بواسطة الإبل المثقلة فإنَّه سيصلُ بعد عشرين أو واحدٍ وعشرين يوماً أي قبل يوم الأربعين بخمسة أو أربعة أيام، ولو جدَّ في المسير فإنَّه سيصلُ يوم العاشر أو الثاني عشر من صفر يعني قبل يوم الأربعين بثمانية أيام، ولو غُيَّرت الفروض التي ذكرناها زيادةً ونقصاً فإنَّ جابراً سيصلُ دون ريبٍ إلى كربلاء قبل أو يوم الأربعين.
وللإستئناس بما ذكرناه نُذكِّر بمسير قافلة الحسين (ع) من مكة إلى كربلاء، فقد كان خروج القافلة المُثقلة بالأحمال والنساء والأطفال في اليوم التاسع من ذي الحجَّة ووصلتْ إلى كربلاء يوم الثاني من محرَّم أي بعد اثنين وعشرين يوماً رغم أنَّ القافلة قد توقَّفت في أكثر منازل الطريق كما نصَّ على ذلك عموم المؤرِّخين الذين أرَّخوا لمقتل الحسين (ع)، فلو كانت رحلةُ جابرٍ إلى كربلاء قد استغرقت هذه المدَّة وكان وصول خبر مقتل الحسين (ع) يوم العشرين من محرَّم فإنَّ أمامه ثلاثين يوماً قبل يوم الأربعين فلو سار بعد يومين أو ثلاثة أيام من وصول الخبر فإنَّه سيصلُ قبل يوم الأربعين.
ولو فرضنا جدلاً أنَّ رسول عبيد الله بن زياد قد وصل بخبر قتل الحسين (ع) يوم الخامس والعشرين من محرَّم -وهو مستبعَد– فإنَّ أمام جابر للوصول يوم الأربعين إلى كربلاء خمساً وعشرين يوماً، فلو سار إلى كربلاء بعد يومين من وصول الخبر فإنَّه سيصلُ قبل يوم الأربعين بيومين أو سيصل على أبعد التقادير يوم الأربعين، هذا لو كان مسيرُه كمسير قافلة الحسين (ع) وإلا فسوف يصل قبل ذلك بأيام(11).
وبما ذكرناه يتَّضح بأنَّه لا وجه للتشكيك في إمكانيَّة وصول جابرٍ الأنصاري إلى كربلاء يوم الأربعين من مقتل الحسين (ع).
وأمَّا اتِّهامه لعلماء الإماميَّة بأنَّ حديثَهم عن زيارة جابر كان لغرضِ إضفاء بُعدٍ إلهيٍّ على زيارة الأربعين فهو أمرٌ يبوءُ بإثمِه إلا أنْ يتوبَ لربِّه ويثوبَ إلى رُشدِه، والله المُستعان على ما يصفون.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي-ج6 ص113-114، مصباح المتهجد -الشيخ الطوسي- ص788-790.
2- المزار -الشيخ المفيد- ص 53، تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج 6 ص 52.
3- مسار الشيعة في مختصر تواريخ الشريعة -الشيخ المفيد- ص 46.
4- مصباح المتهجد -الشيخ الطوسي- ص 787.
5- العدد القوية لدفع المخاوف اليومية -علي بن يوسف المطهر الحلي- ص 219.
6- مسار الشيعة في مختصر تواريخ الشريعة -الشيخ المفيد- ص 17-18.
7- بشارة المصطفى -محمد بن أبي القاسم الطبري- ص 124-126.
8- تاريخ الطبري -محمد بن جرير الطبري- ج 4 ص 356. مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص 74
9- معجم البلدان -الحموي- ج4 ص493، ج5 ص87، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق -الشريف الإدريسي- ج1 ص383، المسالك والممالك لأبي القاسم الإصطخري ص25، تاريخ الكوفة -السيد البراقي- ص126.
10- تاريخ الطبري -محمد بن جرير الطبري- ج 4 ص 356. الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 ص 123، الكامل في التأريخ -ابن الأثير- ج4 ص 88 .
11- للمزيد من البيان راجع كتابنا قراءة في مقتل الحسين(ع) ص 138-141.