بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
أودُّ أنْ استفسر عن صحَّة ما يُقال من إرضاع حليمة السعديَّة لرسول الله (ص) هل تمَّ ذلك فعلًا؟ وهل صحيح أنَّ هذه الدعوى من مفتريات الدولة العباسيَّة، وإذا كانت قد أرضعتْه فكيف يتمُّ ذلك وهي امرأةٌ كافرة؟
الجواب:
إنَّ إرضاع السيِّدة حليمة السعديَّة للنبيِّ الكريم (ص) من القضايا التأريخيِّة المُتسالَم عليها بين المسلمين، وقد نصَّت عليها مصادرُ الفريقين، فلا موجب للتنكُّر لها، نعم يُمكن التوقُّف أو النفي لبعض التفاصيل المذكورة في هذا الشأن، وأمَّا أصلُ إرضاع السيِّدة حليمة للنبيِّ الكريم (ص) فأمرٌ لا مُصحِّحَ لإنكاره.
ارضاع حليمةَ للنبيِّ (ص) أفادته العديدُ من مصادرنا:
ولتوثيق ما ذكرناه أشير إلى بعض مصادرنا التي نصَّت على إرضاع السيِّدة حليمة للنبيِّ الكريم (ص) فقد نصَّ على ذلك المسعودي (المتوفى سنة 346هــ) في كتابه التنبيه والإشراف قال: "ودُفع (عليه الصلاة والسلام) إلى حليمة بنت أبي ذؤيب -وهو عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن قصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن- لتُرضعه فأرضعته بلبن بنيها عبد الله، والشيماء وأنيسة بني الحارث بن عبد العزى .. وكان مقامه صلى الله عليه وآله وسلم مسترضعًا فيهم أربع سنين، فلمَّا كان في السنة الخامسة ردَّته حليمةُ إلى أمِّه آمنة .."(1).
ونصَّ كذلك على إرضاع السيِّدة حليمة للنبيِّ (ص) ابنُ شهراشوب في مناقب آل أبي طالب(2) والطبرسي في إعلام الورى(3)، والشيخ المفيد في الاختصاص(4)، وقطب الدين الروندي في قصص الأنبياء(5) والقاضي النعمان في شرح الأخبار(6) والكراجكي في كنز الفوائد(7) وقطب الدين الراوندي في والخرائج والجرائح(8) وابنُ حمزة الطوسي في كتابه الثاقب في المناقب(9) والمطهَّر الحلِّي في العدد القويَّة(10) والمشغري العاملي في الدرِّ النظيم(11) وغيرهم.
الاستدلال بمعتبرة الكليني:
هذا وقد أورد الشيخُ الكليني في الكافي روايةً معتبرةً من حيثُ السند وصريحةً في أنَّ للنبيِّ (ص) أختًا وأخًا من الرضاعة ليسا من قومه، فقد روى عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ وعِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّه عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ جَمِيعًا عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مُسْكَانَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ خَبَّرْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) بِبِرِّ إِسْمَاعِيلَ ابْنِي بِي فَقَالَ: لَقَدْ كُنْتُ أُحِبُّه، وقَدِ ازْدَدْتُ لَه حُبًّا إِنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) أَتَتْه أُخْتٌ لَه مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا سُرَّ بِهَا وبَسَطَ مِلْحَفَتَه لَهَا فَأَجْلَسَهَا عَلَيْهَا ثُمَّ أَقْبَلَ يُحَدِّثُهَا ويَضْحَكُ فِي وَجْهِهَا ثُمَّ قَامَتْ وذَهَبَتْ، وجَاءَ أَخُوهَا فَلَمْ يَصْنَعْ بِه مَا صَنَعَ بِهَا فَقِيلَ لَه: يَا رَسُولَ اللَّه صَنَعْتَ بِأُخْتِه مَا لَمْ تَصْنَعْ بِه وهُوَ رَجُلٌ فَقَالَ لأَنَّهَا كَانَتْ أَبَرَّ بِوَالِدَيْهَا مِنْه"(12). ورواه كذلك الحسين بن سعيد في كتاب (الزهد) عن فضالة، عن سيف بن عميرة، مثله(13).
فهذه الرواية المعتبرة تُشير إلى ما تناقلته كُتب الفريقين من أنَّ الشيماء بنت حليمة السعديَّة جاءت إلى النبيِّ الكريم (ص) بعد أنْ نصرَهُ الله تعالى في غزوة حنين على قبيلة هَوَازن والقبائل المتحالفة معهم وبعد أنْ غنِم منهم الكثير من الغنائم، جاءته الشيماء أُخته من الرضاعة فعرَّفت له نفسها فعرفها فقام إليها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه وأكرمها وأخذ يُحادثها فتشفَّعت في قومِها فقِبل شفاعتها فيهم وردَّ عليهم -كرامة لها- ما كان قد غنِمه منهم على تفصيلٍ ذكرته كتب الفريقين(14).
فمعتبرةُ الكليني تُشير إلى هذه الواقعة، وهي صريحة في أنَّ النبيَّ (ص) كانت له أختٌ من الرضاعة ولم تكن من قومه، فدعوى أنَّ النبيَّ (ص) لم يرتضع من غير أمِّه السيِّدة آمنة (ع) تُفنِّدُها هذه الرواية الشريفة الواردة عن الإمام الصادق (ع) كما أنَّها تدلُّ بمعونة ما أورده الفريقان أنَّ أُخته التي عنتها معتبرةُ الكليني هي الشيماء بنت حليمة السعديَّة، وأمَّا أخوه من الرضاعة فهو عبد الله بن الحارث بن عبد العزى بن سعد بن بكر بن هوازن، وهو ابن حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية نسبةً لسعد بن بكر بن هوازن.
الردُّ على الاستدلال بكفر حليمة:
وأمَّا الاستدلال على نفي ارتضاع النبيِّ (ص) من حليمة بأنَّها كانت كافرة فهو من الغرائب، إذ أنَّه لو كان المقصود أنَّها حين إرضاعها للنبيِّ (ص) لم تكن مسلمة فجوابه أنَّ تصنيف الناس إلى مسلمٍ وغير مسلم إنَّما وقع بعد المبعث النبويِّ الشريف ومجيء الإسلام، وأمَّا قبل المبعث فكان الناس عمومًا في جاهليَّة والمُدان منهم على عدم التوحيد هو العارفُ الجاحد، وأمَّا المستضعَف أعني الجاهل القاصر فهو معذورٌ عند الله تعالى، ولا ريبَ في أنَّ مثل السيِّدة حليمة لو لم تكن موحِّدة فإنَّها من المستضعفين شأنُها شأنُ أكثر الناس حينذاك على أنَّ من غير المُحرَز أنَّها لم تكن موحِّدة وعلى دين الحنيفيَّة كما هو عبدُ المطلِّب وسائرُ آباءِ النبيِّ (ص) والكثيرُ من أقربائه والعديدُ من غيرهم، أو تكون موحِّدة ولو بالمستوى الساذج الفطري، ولعلَّ ممَّا يُؤيِّد أنَّها كانت على الفطرة هو ما كانت تحكيه من كراماتٍ ظهرتْ من النبيِّ (ص) في صباه حين كان رضيعًا وبعدما نشأ قبل أنْ تُعيده إلى جدِّه عبد المطَّلب.
الجوابُ على الاستدلال بتحريم المراضع على موسى (ع):
وأمَّا الاستدلال على نفي ارتضاع النبيِّ الكريم (ص) من حليمة بما حكاه القرآن عن نبيِّ الله موسى (ع) وأنَّ الله جلَّ وعلا قد حرَّم عليه المراضع من النساء أي منعه تكوينًا من القبول بالارتضاع من غير أمِّه فذلك لا يصلح دليلًا على أنَّ الله تعالى قد حرَّم على عموم الأنبياء الارتضاع من غير أُمَّهاتهم، فإنَّ ما وقع لموسى (ع) إنَّما كان تدبيرًا من الله تعالى لحماية موسى (ع) من القتل حيثُ كان فرعون يُذبِّح أبناء بني إسرائيل كما قال تعالى: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾(15) فأوحى اللهُ إلى أمِّ موسى أنْ تضعه في تابوت وتُلقيه في اليم ليلتقطه آلُ فرعون فيُلقي اللهُ محبَّته في قلبِ امرأة فرعون فتُزيِّن لفرعون الاحتفاظ به واتِّخاذه ولدًا فيكون ذلك سببًا لحمايته من القتل، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(16) وقال تعالى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾(17) فكان الأمرُ بقذفه في اليمِّ وإلقاء اليمِّ له بالساحل والتقاط آل فرعون له وإلقاء محبَّته في قلبِ امرأة فرعون واتِّخاذهما له ولدًا كلُّ ذلك كان لغرض الحماية له من القتل، وكان امتناعه من قبول الرضاع من المراضع تدبيرًا إلهيًّا لردِّه إلى أمِّه: ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾ قال تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(18).
فلم يكن تحريمُ المراضع عليه بسبب أنَّ الأنبياء لا يرتضعون من غير أمَّهاتِهم كما توهَّم البعض وإنَّما هو تدبيرٌ إلهيٌّ خاصٌّ بموسى (ع) لردِّه إلى أمِّه رفقًا بها وتفريجًا لحُزنها وتبديدًا لخوفها عليه من القتل ورعايةً لضعفها عن الصبر على فراقه كما تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾(19) وكما قال تعالى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- التنبيه والإشراف -المسعودي- ص196.
2- مناقب آل أبي طالب -ابنُ شهراشوب- ج1 / ص32.
3- إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص45، 239، 285.
4- الاختصاص -الشيخ المفيد- ص187.
5- قصص الأنبياء -قطب الدين الراوندي- ص314.
6- شرح الأخبار–القاضي النعمان- ج3/ 217.
7- كنز الفوائد -الكراجكي- ص72.
8- الخرائج والجرائح -قطب الدين الراوندي- ج1 / ص21، 81، 82.
9- الثاقب في المناقب -ابنُ حمزة الطوسي- ص90.
10- العدد القويَّة -المطهَّر الحلِّي- ص119، 122، 123، 126.
11- الدرِّ النظيم -المشغري العاملي- ص59.
12- الكافي –الكليني- ج2 / ص161.
13- كتاب الزهد ص34.
14- التنبيه والإشراف -المسعودي- ص197، إعلام الورى –الطبرسي- ج1 / ص239، قصص الأنبياء –الراوندي- ص348، تاريخ اليعقوبي-اليعقوبي- قال: وجاءت الشيماء بنت حليمة أخت رسول الله من الرضاعة إلى رسول الله فحباها وأكرمها وبسط لها رداءه، وكلمته في السبايا وقالت: إنما هن خالاتك وأخواتك. فقال: ما كان لي ولبني هاشم فقد وهبته لك. فوهب المسلمون ما كان في أيديهم من السبايا كما فعل إلا الأقرع ابن حابس وعيينة بن حصن" ج2 / ص63، أنساب الأشراف –البلاذري- ج1 / ص93، السيرة النبويَّة –ابن هشام- ج4 / ص905، دلائل النبوة –البيهقي- ج5 / ص200، الإصابة –ابن حجر- ج8 / ص206.
15- سورة القصص / 4.
16- سورة القصص / 7-11.
17- سورة طه / 39.
18- سورة القصص / 12-13.
19- سورة القصص / 10.