بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) هو الإمام الثاني من أئمة أهل بيت العصمة والطهارة، والولد الأكبر والنتاج الأوّل للإقتران المبارك الذي جمع أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (عليهما السلام)، اللذين لم يكن لأحدهما كفو من الجنس الآخر بمقتضى الحديث القدسي الذي جاء به جبرائيل عن الله عزّ وجلّ إلى نبيه المختار وحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا محمّد، لو لم أخلق عليّا لما كان لفاطمة إبنتك كفو على وجه الأرض آدم فمن دونه). أطلّ على الدنيا في منتصف شهر الله "شهر رمضان المبارك "من السنة الثالثة للهجرة في المدينة المنوّرة في ظلّ الدولة الإسلامية الوليدة التي تحقّقت على يديّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)وقد فرح النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بولادته واختار له الاسم الذي لم يكن معهوداً من قبل عند العرب، ويروى بأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قبّله في فمه، ولهذه القبلة إرتباط بقضيّة إستشهاد الإمام (عليه السلام) على يد زوجته بطلبٍ من معاوية بعد الصلح المعروف. وقد منحه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ رعايته واهتمامه، وكان يحمله معه إلى كلّ النواحي والأماكن التي يتجمّع فيها المسلمون في المدينة، حتّى أنّه كان يحمله معه أحياناً أثناء صلاته بالنّاس في المسجد، وهذا كلّه يدلّ على العناية التي كان يتولاّها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في تربية ولده، وقد ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأحاديث في حقّ الإمام الحسن (عليه السلام) وأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) ما لا يدع مجالاً للشكّ في عظمة الإمامين، ومن تلك النّصوص، النّص الدّال على إمامتهما: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا). تربّى إذن في بيت الوحي والتنزيل، ينهل العلم الإلهي من مصدره الأساس، وتحوطه أمّه الزهراء (عليها السلام) بكلّ العطف والحنان النبوي الرسالي، ويشبه أمير المؤمنين (عليه السلام)بروح التضحية والفداء، لأنّ كلّ ذلك ضروري للشخصية التي ستقود الأمة بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)... عاصر مع جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الرحلة الجهادية المهمة من تاريخ الإسلام وصولاً إلى فتح مكة التي كان الدخول إليها إيذاناً بنهاية عصر الشرك والأوثان وبداية عصر عبادة الله الواحد القهّار. عاش الإمام (عليه السلام) الطفولة أسعد ما يمكن أن يعيشها طفل في العالم بين أناسٍ يختصرون في نفوسهم كلّ معاني الإنسانية، فارتوت نفسه الشريفة من تلك الينابيع الفيّاضة وهو ما زال حديث السن لم يكن قد تجاوز السابعة من عمره عندما رحل جدّه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم). وتتوالى الأحداث المؤلمة بعد رحيل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجري الأمر من خلال السقيفة على خلاف إرادة الله ورسوله، وهنا تبدأ مرحلة العذاب والألم التي عاشها الإمام الحسن (عليه السلام)، وهو يرى أباه يُساق كرهاً للمبايعة، ويرى أمّه الزهراء البتول (عليها السلام) قد أُسقط جنينها، ويراها باكية منتحبة تذرف الدموع غزيرة مدرارة مع المصائب التي حلّت بهم، إلى أن كانت الفجيعة الثانية الكبيرة بوفاة السيدة الزهراء سلام الله عليها التي كانت البلسم للإمام الحسن (عليه السلام) والملاذ بعد جدّه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم). وهنا نذكر مشهداً يعبّر عن المعاناة التي عاشها الإمام (عليه السلام) بعد تلك المصائب عندما يخاطب أبا بكر لمّا رآه على منبر جدّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال له: " إنزل عن منبر أبي"، في الوقت الذي كانت فيه حشود المسلمين مجتمعة في مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ممّا يدلّ بشكلٍ واضح على إدراك الإمام (عليه السلام) وهو في تلك السن للأحداث التي حصلت ومدى تفاعلاتها في نفسه الشريفة. بعد رحيل النبيّ والزهراء (عليهما السلام)، عاش الإمام الحسن (عليه السلام) في كنف أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) مقتدياً به ومتابعاً له حتى اكتملت عناصر شخصيّته القيادية على يديّ الإنسان الذي عاش الرسالة بصفاءٍ وإخلاص لا حدود لهما، فكان إلى جانبه دائماً يناصر قضايا المسلمين، وشارك كما تقول الروايات في العديد من الحروب الإسلاميّة لنشر السلام وتعميمه في العالم، إلاّ أنّ الغالب على إهتماماته في مرحلة الخلفاء الثلاثة هو وقوفه في القضايا الكبيرة التي تهمّ المسلمين نفس مواقف أبيه لا يخالفه في رأي ولايعصيه في أمر، وقد برز من مواقفه تلك الموقف الذي ودّع فيه أبا ذرّ عندما نفاه عثمان إلى " الربزة" مع علمه بأنّ الخليفة قد نهى أياً كان من المشاركة في وداعه، حيث تنقل الروايات أنّ مروان ابن الحكم حاول منع الإمام الحسن (عليه السلام) من ذلك قائلاً له: "أيه يا حسن ألا تعلم أنّ الخليفة قد نهى عن وداع أبي ذرّ والتحدّث إليه فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك"، إلاّ أنّ الإمام الحسن(عليه السلام) توجّه إلى أبي ذرّ وودّعه بكلماتٍ تنمّ عن الألم والتأثّر من المعاملة السيّئة التي يلاقيها أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المتسلّطين قائلاً له: "يا عمّاه لولا أنّه ينبغي للمودّع أن يسكت وللمشيّع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف وقد أتى القوم إليك فضع عنك الدنيا بتذكّر فراغها ولشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها واصبر حتى تلقى نبيّك ويحكم الله بينك وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين". إنّ هذا النص ينمّ بوضوحٍ تام عن الوعي الذي كان يعيشه الإمام (عليه السلام) للمرحلة الخطيرة التي وصلت إليها الأمور في زمن الخليفة الثالث الذي أدّت أعماله إلى الثورة ضدّه ممّا أدّى في نهاية الأمر إلى مقتله على يد المسلمين الذين ضاقوا ذرعاً بالتسلّط الأموي الذي سمح به عثمان. ويستلم أمير المؤمنين (عليه السلام) الخلافة، ويسعى لإعادة تصحيح ما فسد من الأوضاع الشاذة التي انتشرت بسبب السياسات السابقة، وفي هذا المجال قام الإمام الحسن (عليه السلام) بدورٍ كبير في مساعدة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان إلى جانبه في كلّ الحروب التي خاضها ضدّ القاسطين والناكثين والمارقين، وتروي النصوص أنّ اندفاعه إلى القتال لإحقاق الحق وإزهاق الباطل كان قوياً جداً إلى المستوى الذي طلب فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) من خاصة أصحابه أن يتحدّثوا إليه للتخفيف من خوض المعركة بتلك الشدّة وقد ورد عن الأمير (عليه السلام) قوله: (أملكوا عني هذا الغلام لا يهدني فإني أنفس بهذين على الموت لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))، مضافاً إلى مشاركته الشخصية في المعارك كان يخطب في جموع المسلمين يحضّهم ويدفعهم إلى الجهاد، ومن كلماته المؤثرة في هذا المقام قوله (عليه السلام): (إنّه لم يجتمع قوم قط على أمرٍ واحد إلاّ اشتدّ أمرهم واستحكمت عقدتهم فاحتشدوا في قتال عدوّكم معاوية وجنوده ولا تتخاذلوا فإنّ الخذلان يقطع نياط القلوب). هذه الرسالة تكشف عن نفسية تعيش الرسالة والجهاد في سبيلها بقوة، وهذا ما يدفع الكلام الذي حاول البعض من خلاله الإفتراء على الإمام الحسن (عليه السلام) بأنّه كان يعيش العبثية وعدم الإلتفات إلى الإهتمام والرعاية لقضايا المسلمين وشؤونهم في محاولة مفضوحة ومكشوفة لتبرير ما جرى بعد أن استلم الإمام (عليه السلام) الخلافة بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) ثمّ تنازله عنها بالصلح إلى معاوية، حيث عمل أولئك المغرضون على تصوير شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) بأنّها غير مؤهّلة للقيادة والمسؤولية وتحمّل أمانة الرسالة الإسلامية والقيام بأعبائها، ومن الواضح جداً أنّ تلك الإنتقادات لم يكن مبرّرها سوى التغطية على معاوية في أفعاله السيئة والمنحرفة التي توصل من خلالها إلى استلام السلطة وتبوّء منصب الخلافة باسم الإسلام. وبسبب السياسة الإسلامية التي انتهجها الإمام علي (عليه السلام) عمل المنفقون والمنافقون على عرقلة تحرّكات أمير المؤمنين (عليه السلام) وتعويق حركاته الإسلامية، ممّا أدّى كلّ ذلك في نهاية الأمر إلى تدبير المؤامرة الدنيئة التي أدّت إلى استشهاده (عليه السلام) على يد أشقى الأولين والآخرين عبد الرحمن بن ملجم في السنة الأربعين من الهجرة في شهر رمضان بالتحديد. وهكذا استلم الإمام الحسن (عليه السلام) أمور الخلافة بعد أبيه، وعمل على إكمال الخطوات التي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد بدأ بها، وبالخصوص محاربة معاوية الذي ادّعى الخلافة لنفسه بعد مهزلة التحكيم المشهورة، إلاّ أن حركة النفاق والخيانة التي كانت قد لعبت دورها في تخريب الأمور على الأمير (عليه السلام) قامت بنفس الدور مع قيادة الإمام الحسن (عليه السلام)، واستطاع معاوية بدهائه أن يستميل إليه الكثير من القيادات العشائرية وقادة الجيش كعبيد الله بن زياد الذي قبض ثمن خيانته أموالاً طائلة ممّا أدّى إلى حالةٍ من الإرباك الشديد في صفوف جيش الإمام الحسن (عليه السلام)، ممّا دفع كلّ ذلك بالإمام (عليه السلام) إلى القبول بالصلح والتنازل عن الخلافة لصالح معاوية، مع أنّ فكرة حربه له بقيت ملازمة للإمام (عليه السلام) إلى اللحظة التي رأى فيها أنّ مصلحة الأمّة تقتضي منه ذلك. إنّ الصلح الذي جرى كان أحد أهم شروطه أن تعود السلطة إلى الإمام (عليه السلام) بعد وفاة معاوية، ولعلّ ذلك مردّه إلى أنّ الإمام كان متيقّناً من أنّ معاوية يريد السلطة لنفسه، ومن خلال ذلك يمكن للأمّة أن تكتشف حقيقة معاوية وما يرمي إليه من الوصول إلى الخلافة، وهذا ما قد يدفع بالأمّة إلى الإلتفاف من جديد حول القيادة الشرعية والإنتفاض على معاوية. ومعاوية كان يدرك في الوقت ذاته أنّ الإمام (عليه السلام) عندما تنازل عن الخلافة كان تنازلاً مؤقّتاً ولصالح شخص معاوية فقط، ولهذا فقد سعى إلى التخلّص من الإمام الحسن (عليه السلام) الذي كان يراه المنافس الأقوى له وبذلك يخلو له الجو وتصفو له الأوضاع، ممّا يسمح بالتالي للبيت الأموي أن يرث الخلافة بدلاً من أصحابها الشرعيين، ولهذا فقد أغرى معاوية "جعدة بنت الأشعث" زوج الإمام الحسن (عليه السلام) بدسّ السّم له لقاء وعد بالزواج من ولده يزيد ومبلغٍ كبير من المال إذا هي قامت بذلك الفصل الشنيع، وتذكر الروايات أنّ معاوية كان قد قال كلمة بعد وضع شروط الصلح مع الإمام الحسن (عليه السلام) والموافقة عليها منهما هما معاً بأنّ " كلّ الشروط التي أعطيتها للإمام الحسن تحت قدميّ هاتين"، وهذا كلّه مطابق لما روي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمّ تصبح ملكاً عضوضاً". وهكذا قامت بنت الأشعث بدسّ السّم للإمام (عليه السلام) ممّا أدّى إلى استشهاده ورحيله عن هذه الدنيا في شهر ربيع الأوّل من سنة خمسين للهجرة بعد حياةٍ حافلة بالعطاء والجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ، وبعد أن ناله من الأذى المعنوي الشيء الكثير من خالص أصحابه الذين لم يستوعبوا دلالات الصلح مع معاوية التي كان لها الدور الكبير جداً في تهيئة الظروف لثورة الحسين (عليه السلام) التي أحيت الإسلام وأبقت شعلته في القلوب. فرحمك الله يا أبا محمّد الحسن الزكي، والسلام عليك يوم وُلدت، ويوم استُشهدت، ويوم تُبعث حيّاً عند المليك المقتدر ليأخذ بثأرك وثأر آبائك وأبنائك الذين سقطوا دفاعاً عن الحق. والحمد لله ربّ العالمين