المعروف عن بني هاشم الأكارم أنهم كانوا في قمَّة الكرم والبطولة والشجاعة، ولذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أرسل أحدهم في سرية أو بعث كان هو القائد والأمير، فلا يؤمِّر عليهم أحداً من الصحابة حباً وتقديراً واحتراماً لهم، ولكن أتباع السلطة القرشية كانوا يُقدِّمون رجال قريش حتى على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وآراءهم على رأيه المسدد من السماء، فكل عيونهم حولاء أو عوراء باتجاه سادتهم من قريش، دون النظر إلى الله وكتابه ورسوله (صلى الله عليه وآله).
وهذا الداء الوبيل الذي أُصيب به الآخرون من هذه الأمة، إذ" لا بدَّ لمَنْ يُريد الإفادة من كتب التاريخ الإسلامي من أن يفتح عينه ووعيه لكل كلمة منه، فيُطالعها بوعي ويقظة وحذر، يسعى لاستخلاص ما ينسجم منه مع الواقع ويرد ما عداه، مما مال به القائل أو لعبت به الأهواء، ولا سيما ما يتعلق منه بصدر الإسلام، مما يتحكم فيه الهوى المذهبي والتزلف إلى الخلفاء والأمراء والحكام فيذكر الأمر منقطعاً عن علله وعوامله، ومنفصلاً عن أسبابه وجذوره، وذلك بفعل التعصب البغيض، والظلم الكثير فالمؤرخ كان لا يكتب ولا يثبت إلا ما ينسجم مع نفسية الحاكم، ويتفق وقوله، مهما كان مخالفاً للواقع والحقيقة.
بينما مهمة المؤرخ أن يعكس حياة الأمة وما عرض لها من أزمات فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وبصورة عامة كل ما مرت به من أوضاع وأحوال، وذلك بدقة وأمانة وليس بخاف ما في ذلك من الأثر الكثير في حياة الأمة ووضعها في الحال الحاضر؛ عقائدياً وعلمياً وأدبياً واجتماعياً، حسب اختلاف الأحداث عمقاً وشمولاً ولا ينفي ترتب هذا الأثر البارز أن يكون الحدث التاريخي قد مرَّ على تاريخه أكثر من ألف عام". (موسوعة التاريخ الإسلام، الشيخ الغروي: ج1 ص4)
ولكنَّهم منعوا الكتابة، بل حرقوا ما كُتب في عهد رسول الله (ص)، كالروايات التي كانت في بيوته وعند أزواجه، ثم مُنعَ الصحابة من الحديث والرواية عن رسول الله (ص) وجاؤوا بكعب الأحبار وعبد الوهاب بن منبِّه، وأبو هريرة الدوسي، وأمروهم أن يجلسوا في المسجد ويُحدِّثوا الناس عن الإسرائيليات، والخرافات، والأساطير التي ما أنزل الله بها من سلطان، واستمرَّ ذلك لقرن ونصف، إلى أن جاء وقت كانت الكتابة ضرورية، فأمر حكام وسلاطين بني أمية بالكتابة ولكن بشرط ألا يُكتب إلا ما يوافق رأيهم، قال المدائني في خبره: وأخبرني ابن شهاب بن عبد اللّه (الزهري)، قال: قال لي خالد بن عبد اللّه القسري (والي العراق): أكتب لي النسب فبدأتُ بنسب مضر فمكثت فيه أياماً، ثم أتيته، فقال: ما صنعتَ؟ فقلتُ: بدأتُ بنسب مضر (نسب الرسول الأكرم)، وما أتممته، فقال: اقطعه - قطعه اللّه مع أصولهم- وأكتب لي السيرة، فقلتُ له: فإنه يمرّ بي الشيء من سير علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأذكره؟، فقال: لا، إلا أن تراه في قعر الجحيم". (الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني: ج 22 ص281)
هؤلاء الذين كتبوا التاريخ، ورووا السيرة الشريفة، فلم يكونوا أُمناء في شيء، فخانوا التاريخ، والسيرة، والدِّين لصالح السلطة، والحكام، وطغاة قريش، ولذا تجد أن أقل ما يمكن أن نعرفه عن أعاظم الصحابة الحقيقيين، وعشيرة النبي المقربين، لا سيما آل أبي طالب (ع)، الذين هم ألصق الناس بالدِّين وبرسول رب العالمين (ص) فحاولوا جهدهم أن يُغيِّبوا أدوارهم من التاريخ لأن السلطة الأموية لا ترغب بالحديث عن آل أبي طالب بغضاً وحسداً وحقداً على علي (ع).
غزوة (سريّة) مؤتة
هذه السرية الهامة جداً والاستراتيجية في السيرة النبوية لأنها أول احتكاك مباشر مع الإمبراطورية الأقوى في ذلك الزمان الرومانية وقيادتها الهرقلية، وكانت خارجة حديثاً من معركة مصيرية مع منافستها الفارسية الكسروية ومنتصرة عليها، واتبع فيها رسول الله (ص) عدة إجراءات لأول مرة يقوم فيها وكان أهمها أن عيَّن القائد للجيش ونائبان له، وهنا جاءت الروايات الرسمية الأموية لتضع (زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة)، إلا أن المنطق الطبيعي أن يكون القائد جعفر لأنه الأشجع والألمع، والأقرب للرسول (ص)، والذي عاد من مهمته إلى الحبشة التي أبدع فيها وكان خير قائد ورائد ولسان عن الإسلام والمسلمين في الحبشة.
وكان من أسبابها؛ أن رسول الله (ص) أرسل الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى ملك بصرى الشام، عرض له عامل الملك شرحبيل بن عمرو الغساني فقبض عليه، وقتله، ولم يُقتَل لرسول الله (ص) رسول غيره، وكان ذلك مخالفاً لكل الأعراف السائدة في ذلك الزمان وحتى يومنا هذا؛ الرسول لا يُقتل، إلا أن شُرحبيل الطاغية أخذته العزة بالإثم فقتله بعد أن علم أنه رسول النبي.
وتزامن ذلك بقتل جماعة المبلّغين الذين أرسلهم رسول الله (ص) إلى أطراف الشام للتبليغ فقبضوا عليهم وقتلوهم وما نجى منهم إلا شخص وبشقِّ النفس وصل إلى النبي (ص) وأخبره القصة فغضب رسول الله (ص) فجمع الناس وأخبرهم، وندبهم لهذه الغزوة، فأسرعوا وخرجوا فعسكروا بالجُّرف، فصلّى بهم رسول الله (ص) الظهر، ثم خطبهم وأوصاهم، فقال: (أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً، اغزوا بسم الله وفي سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلّوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا شيخاً فانياً، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجراً، ولا تهدموا بناءاً).
القيادة هنا كانت لمَنْ، هل كان سيدنا جعفر هو الأول أو زيد بن حارثة؟ وبعدهما ابن رواحة.
سيدنا جعفر هو القائد الأعلى
النبي (صلى الله عليه وآله) يبكي جعفراً
في رواية عن أبي عبد الله (ع) قال: بينا رسول الله (ص) في المسجد، إذ خفض له كل رفيع، ورفع له كل خفيض، حتى نظر إلى جعفر يقاتل الكفّار، حتى قتل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قتل جعفر، وكانت كنيته: أبو المساكين).
فلما قتل جعفر بن أبي طالب (ع) دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أسماء بنت عميس امرأة جعفر، فقال: أين بنيّ؟ فدعت بهم وهم ثلاثة: عبد الله وعون ومحمد، فمسح رسول الله (صلى الله عليه وآله) رؤوسهم.
فقالت أسماء: إنك تمسح رؤوسهم كأنهم أيتام؟
فقال، وقد دمعت عيناه: يا أسماء ألم تعلمي أنّ جعفراً (رضوان الله عليه) قد استشهد في هذا اليوم، وقد قطعت يداه قبل استشهاده؟ فبكت.
فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تبكي فإنّ جبرئيل أخبرني أن الله قد أبدله من يديه جناحين فهو الآن يطير بهما في الجنّة مع الملائكة كيف يشاء.
فقالت أسماء: يا رسول الله لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر لا ينسى فضله.
فقام ورقى المنبر وخطب في المسلمين وقال: إن المرء كثير بأخيه وابن عمه، ألا أنّ جعفرَ قد استشهد، وجعل له جناحان يطير بهما في الجنّة).
ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر فاطمة (ع) أن تتّخذ طعاماً لأسماء بنت عميس، وتأتيها وتسلّيها ثلاثة أيام، كما انه (صلى الله عليه وآله) قال لفاطمة (عليها السلام): يا فاطمة اذهبي فابكِ على ابن عمّك).
فقال (صلى الله عليه وآله): على مثل جعفر فلتبك الباكية.
فالحقيقة التأريخية واضحة وضوح الشمس أن القادة الأمراء الثلاثة استَشهدوا، وخمسة من أصحابهم ولما وصلت الراية إلى خالد بن الوليد راغ فيها وفرَّ هارباً ولم يُقاتل، ولذا استقبلهم أهلهم في المدينة ذاك الاستقبال المذل، فكيف ساغ للبخاري وأمثاله كل هذا الكذب والافتراء على الله ورسوله ليُثبتوا فضيلة لمَنْ هو خل الوفاض منها، ويسلبوا الفضائل من مجمع الفضائل كلها؟
منقول