بسم الله الرحمن الرحيم
شبهة تشدق بها طويلاً اصحاب الفكر الإلحادي وكأنهم فتحوا باباً من العلم، خلاصتها:اننا نعتقد – بحسب العقيدة الإسلامية – ان الله تعالى عالم بالغيب، ويعلم من سيكون مؤمناً ومن سيكون كافراً، وهنا يأتي السؤال والإشكال:
اذا كان الله تعالى يعلم بان زيداً سيكون كافراً فلماذا خلقه، فهل خلقه ليعصي وبالتالي يعاقب بالنار؟
ثم ان هذا يناقض قوله تعالى: ((إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم))[1]، فتبين الآية الكريمة ان الله تبارك وتعالى خلق الخلق ليرحمهم لا ليعذبهم!!
فمثلا لو كان الأبوان يعلمان انهما لو انجبا طفلا فأنه سيولد مشوها فمن الظلم ان ينجبا ذلك الطفل؟
والجواب:
اولا: هناك فرق جوهري بين حالة الكافر المستحق للعقوبة وبين حال الطفل الذي يولد مشوه، فالأول يملك الاختيار دون الثاني فهذا قياس مع الفارق.
لأنّ المفروض أنّه خلقنا وأعطانا حرية الاختيار وهدانا لما فيه مصلحتنا، ولم يجبرنا على معصيته، فإن عصيناه فبإرادتنا وسوء اختيارنا، وإن أطعناه فبإرادتنا وحسن اختيارنا، فليس في خلقه إيانا مع علمه بأننا سنختار طريق المعصية أي ظلم لنا، بل نحن من ظلمنا أنفسنا، قال تعالى: ((وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون))[2]. بينما الطفل المشوه لا يملك هذا الخيار.
ثانياً: ان الله تبارك وتعالى قد تعلق غرضه الأساس في خلق اناس ليرحمهم رحمة خاصة، ولكن هذه الغاية لا تتحقق إلا اذا كان في هؤلاء ما يميزهم عن سائر الخلق كالملائكة والسموات والأرض، وإلا لجاء السؤال: لماذا اعطاهم هذه الرحمات دون غيرهم؟
فلابد من اختبار وابتلاءات ينجح ويتفوق بها هؤلاء ليستحقوا الرحمة وبعبارة اخرى لابد من تكليف، والتكليف يقتضي الاختيار وهنا كانت الكرة في ساحة المكلف فإن شاء اطاع وإن شاء عصى، فاذا عصى البعض فهو باختيارهم ((مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ))[3].
وبعبارة مختصرة قد تعلق غرض الله تبارك وتعالى من خلق هذا العالم برمته بالرحمة الخاصة وهي لا تنال إلا بالاستحقاق المقتضي للتكليف، والذي سيؤدي بطبيعة الحال الى معصية البعض. فتكون الغاية من خلق العاصين هي غاية تبعية للغاية الأصلية وهي الخلق للرحمة.
وقد اشار كبار المفسرين لهذه الحقيقة نذكر لكم اقوال بعض المعاصرين منهم:
فقد ذكر صاحب تفسير الميزان (ره) في تفسير قوله تعالى: ((و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس))[4] حيث قال:
الذرء هو الخلق، و قد عرف الله سبحانه جهنم غاية لخلق كثير من الجن و الإنس، و لا ينافي ذلك ما عرف في موضع آخر أن الغاية لخلق الخلق هي الرحمة و هي الجنة في الآخرة كقوله تعالى: ((إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم))[5]، فإن الغرض يختلف معناه بحسب كمال الفعل و نهاية الفعل التي ينتهي إليها.
بيان ذلك أن النجار إذا أراد أن يصنع بابا عمد إلى أخشاب يهيئها له ثم هندسه فيها ثم شرع في النشر و النحت و الخرط حتى أتم الباب فكمال غرضه من إيقاع الفعل على تلك الخشبات هو حصول الباب لا غير، هذا من جهة و من جهة أخرى هو يعلم من أول الأمر أن جميع أجزاء تلك الخشبات ليست تصلح لأن تكون أجزاء للباب فإن للباب هيئة خاصة لا تجامع هيئة الخشبات، و لا بد في تغيير هيئتها من ضيعة بعض الأجزاء لخروجها عن هندسة العمل فصيرورة هذه الأبعاض فضلة يرمى بها داخلة في قصد الصانع مرادة له بإرادة تسمى قصدا ضروريا فللنجار في صنع الباب بالنسبة إلى الأخشاب التي بين يديه نوعان من الغاية: أحدهما الغاية الكمالية و هي أن يصنع منها بابا، و الثاني الغاية التابعة و هي أن يصنع بعضها بابا و يجعل بعضها فضلة لا ينتفع بها و ضيعة يرمى بها، و ذلك لعدم استعدادها لتلبس صورة الباب.
و كذا الزارع يزرع أرضا ليحصد قمحا فلا يخلص لذلك إلى يوم الحصاد إلا بعض ما صرفه من البذر، و يذهب غيره سدى يضيع في الأرض أو تفسده الهوام أو يخصفه المواشي و الجميع مقصودة للزراع من وجه، و المحصول من القمح مقصود من وجه آخر.
و قد تعلقت المشية الإلهية أن يخلق من الأرض إنسانا سويا يعبده و يدخل بذلك في رحمته، و اختلاف الاستعدادات المكتسبة من الحياة الدنيوية على ما لها من مختلف التأثيرات لا يدع كل فرد من أفراد هذا النوع أن يجري في مجراه الحقيقي و يسلك سبيل النجاة إلا من وفق له، و عند ذلك تختلف الغايات و صح أن لله سبحانه غاية في خلقة الإنسان مثلا و هو أن يشملهم برحمته و يدخلهم جنته، و صح أن لله غاية في أهل الخسران و الشقاوة من هذا النوع و هو أن يدخلهم النار و قد كان خلقهم للجنة غير أن الغاية الأولى غاية أصلية كمالية، و الغاية الثانية غاية تبعية ضرورية، و القضاء الإلهي المتعلق بسعادة من سعد و شقاوة من شقى ناظر إلى هذا النوع الثاني من الغاية فإنه تعالى يعلم ما يئول إليه حال الخلق من سعادة أو شقاء فهو مريد لذلك بإرادة تبعية لا أصلية.
و على هذا النوع من الغاية ينزل قوله تعالى: ((و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس))، و ما في هذا المساق من الآيات الكريمة و هي كثيرة[6].
وفيلا نفس السياق يقول صاحب تفسير الأمثل:
وعلى كل حال، فإنّ الإشكال المهم في هذا التعبير هو كيف قال الله سبحانه (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس)؟ في حين قال في مكان آخر (وما خلقت الجن والإِنس إلاّ ليعبدون)[7] وطبقاً لمعنى هذه الآية فإنّ الجن والإنس لم يخلقوا لغير عبادة الله والرقي والتكامل والسعادة، أضف إلى ذلك أنّ هذا التعبير تُشمّ منه رائحة الجبر في الخلق، ومن هنا فقد استدل بعض مؤيدي مدرسة الجبر من أمثال الفخر الرازي بهذه الآية لإثبات مذهبه.
لكنّنا لو ضممنا آيات القرآن بعضها إلى بعض وبحثناها موضوعيّاً دون أن نُبتلى بالسطحيّة، لوجدنا الجواب على هذا السؤال كامناً في الآية محل البحث ذاتها، كما هو بيّن في آيات أُخرى من القرآن الكريم أيضاً ... بحيث لا يدع مجالا لأنّ تُستغل الآية ليُساء فهمها لدى بعض الأفراد. مثلُ هذا التعبير كمثل قول النجار إذ يقول مثلا: إنّ قسماً كبيراً من هذا الخشب وقد هيأته لكي أصنع منه أبواباً جميلة، والقسم الآخر هو للإحراق والإضرام... فالخشب الرائق الجيّد المناسب سأستعمله للقسم الأوّل، وأمّا الخشب الرديء غير المناسب فسأدعه للقسم الثّاني.
ففي الحقيقة أنّ للنجار هدفين: هدفاً «أصيلا» وهدفاً (تبعيّاً).
فالهدف الأصيل هو صنع الأبواب والأُطر الخشبيّة الجيّدة وما إلى ذلك، وهو يبذل قصارى جهده وسعيه في هذا المضمار...
إلاّ أنّه حين يجد أنّ بعض الخشب لا ينفعه شيئاً، فسيكون مضطراً إلى نبذه ليكون حَطباً للحرق والإشعال، فهذا الهدف «تبعيّ» لا أصلي.
والفرق الوحيد بين هذا المثال وما نحن فيه، أنّ الاختلاف بين أجزاء الخشب ليس اختياراً، واختلاف الناس له صلة وثيقة بأعمالهم أنفسهم، وهم مختارون وإرادتهم حرّة بإزاء أعمالهم.
وخير شاهد على هذا الكلام ما جاء من صفات لأهل النّار وصفات لأهل الجنّة في الآيات محل البحث، التي تدل على أنّ الأعمال هي نفسها أساس هذا التقسيم، إذ كان فريق منهم في الجنّة، وفريق في السعير.
وتعبير آخر فإنّ الله سبحانه ـ ووفقاً لصريح آيات القرآن المختلفة ـ خلق الناس جميعهم على نسق واحد طاهرين، ووفّر لهم أسباب السعادة والتكامل، إلاّ أنّ قسماً منهم إختاروا بأعمالهم جهنم فكانوا من أهلها فكان عاقبة أمرهم خُسراً ... وأن قسماً منهم إختاروا بأعمالهم الجنّة وكان عاقبة أمرهم السعادة[8].
[1]هود: 119.
[2]الزخرف 76.
[3]فصلت: 46.
[4]الأعراف: 179.
[5]هود: 119.
[6]الميزان – السيد محمد حسين الطباطبائي – ج8 ص187.
[7]الذاريات: 56.
[8]تفسير الأمثل - الشيخ ناصر مكارم شيرازي – ج5 ص299.
تعليق