بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة:
كيف يمكن للمظلومية المقرونة بالعزة والإباء أن تنتصر؟ وكيف يمكن للمأساة الممزوجة بالصبر والثبات أن تكون لوناً من ألوان الغلبة والتفوّق؟ وهل يمكن أن يحدُث ذلك ضمن القوانين الطبيعية، أو أنه لا يكون إلاّ من خلال المعجزة الخارقة لنواميس الكون؟
فإذا كان أمراً ممكناً في الحسابات الطبيعية ـ بحيث يمكن أن يتحقق لكلِّ مظلوم ينشد الانتصار على ظالمه ـ دَفَعَنا ذلك لدراسة المقدمات والظروف المتكفّلة لتحقيقه؛ لأننا نحتاج إلى هذا الانتصار في كلِّ زمانٍ طالما هناك ظالمٌ ومظلومٌ، وأما إذا لم يكن ممكناً، وكان تحققه ضرباً من المعجزة، علمنا أنَّ ما صنعه الإمام الحسين عليه السلام في ملحمته التاريخية لا يمكن أن يكون إلاّ له، على حدِّ تعبير الشاعر:
فيا أيُّها الوتر في الخالدين فذَّاً الى الآن لم يُشفَعِ
لأنَّ ذلك من تدبير الله تعالى لأوليائه المخلصين، حيث يهبهم الخلود مدى العصور والدهور؛ لسرٍّ لا نعرف منه إلاّ ما روي عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: «إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»[1].
إنَّ الانتصار الذي حققه الامام الحسين عليه السلام في كربلاء ليس انتصاراً عسكرياً، فالغلبة كانت للجهاز الحاكم، حيث استُشهد الإمام وأهل بيته وأصحابه، كما هو واضح، ولكن الجميع يتفق على انتصار الحسين عليه السلام ، من المسلمين وغير المسلمين، حتى سُمّيَ هذا اليوم بأسماء متعددة، قبيل: (يوم انتصار الدم على السيف) و(يوم انتصار المظلوم على الظالم) و (يوم انتصار مشروع ألأُمه على مشروع السلطة) الى غيرها من التسميات والتعابير التي تؤكد هذه الحقيقة.
ومن هنا يَحِقُّ لنا أن نتساءل:
إذا كان الجهاز الحاكم قد انتصر عسكرياً، وازاح معارضه من الوجود، فكيف كان الإمام الحسين عليه السلام هو المنتصر؟.
وإذا كانت الغلبة العسكرية لا تكفي لوحدها في تحقيق الانتصار فهذا يعني وجود أسباب أخرى للنصر، فما هي هذه الأسباب؟.
وهل حقاً أنَّ المظلومية المقترنة بالعزة والاباء من تلك الأسباب؟, وهل مظلومية الامام الحسين عليه السلام هي السبب المهم والبارز في حسم الملحمة لصالحه، على حدِّ تعبير القائد الهندي: تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر[2]؟
هذه الأسئلة وغيرها سنحاول ـ إن شاء الله ـ الإجابة عنها في هذا البحث، وتسليط الاضواء بشكل كبير على عامل مهم من عوامل النصر في المعارك المصيرية، وهو عامل المظلومية المقترنة بالعزة والإباء.
وعليه: سيقع البحث ضمن ثلاثة محاور رئيسية:
الاول: مفهوم النصر والانتصار في منظور أهل اللغة والمنظور القرآني والإنساني.
الثاني: المظلومية والانتصار.
الثالث: مظاهر العزة والإباء في مظلومية الحسين عليه السلام .
المحور الاول: مفهوم النصر والانتصار في اللغة و المنظور القرآني والانساني.
ان مفهوم الانتصار, هو مفهوم واسع جدا, ويحتوي على شمولية كبيرة, ولأجل هذه الشمولية والسعة اختلفت اطراف النزاع!, فقال كل طرف إني انا المنتصر!, وذلك لشمولية هذه اللفظة فكل ضل يحمل معناها على وجه معين من الانتصار.
ولما كان لها هذا الوسع, اردنا ان نبحث في مفهومها ومعناها لغة واصطلاحا قرآنيا وانسانيا. فنقول:
اولا: النصر والانتصار في اللغة:
ان الغرض من استعراض أقوال اللغويين هو للوقوف على موارد استعمالات هذه اللفظة في كلام العرب، للاستعانة بذلك على تفسير الآيات القرآنية المتضمنة لها, فقد ذكر اللغويون عدة معانٍ للفظة النصر، وهي كالآتي:
1ـ الاعانة: فقد جاء في كتاب العين: ((النصر: عون المظلوم. وفي الحديث: انصر اخاك ظالماً أو مظلوماً، وتفسيره: أن يمنعه من الظلم إن وجده ظالماً، وإن كان مظلوماً أعانه على ظالمه. والانصار جماعة الناصر، وأنصار النبي (ص) أعوانه))[3].
وجاء في الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري في الفرق بين النصر والمعونة, أنَّ: ((النصر: يختص بالمعونة على الاعداء، والمعونة: عامة في كل شيء، فكل نصر معونة ولا ينعكس)) [4].
إذاً النصر: الإعانة على الاعداء، فيقال: أعن الفقير على فقره، ولا يقال: انصره على فقره، لان الفقر ليس عدواً.
2ـ العطاء: قال الجوهري في الصحاح: ((والنصر: العطاء))[5], وفي معجم مقاييس اللغة: ((والنصر: العطاء))[6], وفي أساس البلاغة: ((...ووقف السائل على قوم فقال: انصروني نصركم الله, يريد أعطوني أعطاكم الله)[7].
ويظهر من الزمخشري، أن استعمال النصر في العطاء مجاز، حيث قال: ((ومن المجاز أرض منصورة و...)) ثم ذكر من جملة ذلك الكلام السابق.
3ـ الاتيان والايتاء: قال ابن فارس في مقاييس اللغة: ((نصر، النون والصاد والراء، أصل صحيح يدل على إتيان خير وإيتائه. ونصر الله المسلمين آتاهم الظفر على عدوهم...وأما الاتيان فالعرب تقول: نصرت بلد كذا إذا أتيته))[8]
4ـ الانتصار من الظالم (الانتصاف والانتقام والامتناع): قال ابن منظور في لسان العرب: ((وأنتصر الرجل إذا امتنع من ظالمه، قال الازهري: يكون الانتصار من الظالم الانتصاف والانتقام، وانتصر منه: انتقم))[9].
ثانيا: استعمال مادة (نصر)في القرآن الكريم.
لقد استعملت هذه اللفظة مع مشتقاتها في الكثير من الآيات الكريمة في معاني متعددة، والذي يهمنا من ذلك هو الآيات التي تتعلق ببحثنا, من قبيل:
1ـ {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[10]
2ـ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[11]
3ـ {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[12]
4ـ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[13]
5ـ {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[14], الى غيرها من الآيات.
ان هذه الآيات ـ ما عدى الاولى ـ وان كانت مطلقة من حيث محل النصر, وانه في الدنيا, أو في الاخرة, أو في كليهما, ولكن الآية الاولى؛ قد صرّحت بذلك وأنه يكون في الدنيا والاخرة حيث قالت: (في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد) ليتضح ان المقصود في بقية الآيات الاخرى هو ذلك.
وإذا رجعنا الى المفردات التي وردت في هذه الآيات وجدناها تقول: (لننصر، نصر، لأغلبنَّ، المنصورون، الغالبون)، إذن توجد لفظتان: هما النصر, والغلبة.
والتأمل في هذه الآيات ومفرداتها يوصلنا الى هذه النتائج:
1ـ ان هذه الآيات وعدٌ الهيٌّ بالنصر والغلبة لأنبيائه وأوليائه والمؤمنين، و{ إنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[15]
2ـ إنها تصرّح بشمول هذا الوعد للمؤمنين، ولا تختص بالأنبياء, او الاوصياء، كما إنها شاملة لجميع الانبياء والمؤمنين، وليست خاصة ببعضهم، كما هو واضح من تعابيرها.
3ـ إنها لم تقيّد النصر والغلبة بنوع خاص منه، فلم تقل: إننا لننصر رسلنا والمؤمنين في معاركهم وحروبهم الميدانية، او إنَّ حزبنا غالبٌ دائماً في الصرعات المسلحة، كلا إنها لم تقل ذلك، بل أطلقت النصر والغلبة, وقد تقدم في البحث اللغوي أن النصر يستعمل في المعونة على الظالم, وهو مطلق أيضاً من حيث نوع المعونة، فهو شامل لجميع اشكالها.
وحينئذ: فالنصر والغلبة له معنى وسيع يشمل كل ألوان وأشكال الاعانة والتأييد والدعم والامداد، واليك بعض تلك الالوان والاشكال:
أ) النصر والغلبة بالحجة والبرهان، فان الله تعالى ينصر أولياءه دائماً بتلقينهم الحجة البالغة، فهم يغلبون خصومهم بالأدلة والبراهين:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}[16]، فمن ذلك ما حصل للخليل إبراهيم عليه السلام عندما ألقم النمرودَ حجراً في فمه، فأعجزه عن الجواب، حيث قال تعالى ـ وهو يحكي قصة المحاججة التي وقعت بينهما ـ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[17], وهنا يعني ان من صور النصر والغلبة؛ النصر بالحجة، والغلبة بالبرهان.
ب) قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}[18]، والمراد من (إحدى الحسنيين): إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة[19], إذاً فالشهادة ليست هزيمة، بل هي حسنى تضاهي الغلبة والظفر، ومقتضى ذلك أن المؤمن لا يُهزم أبداً ولا يخسر، فهو في نصر دائم، سواء تغلّب على خصمه عسكرياً, أو لا، فانَّ نصره وانتصاره في دخول الجنة والفوز برضى الله قال تعالى, قال تعالى:{ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[20], فما تعرّض له الانبياء والمؤمنون ـ على امتداد التاريخ ـ من الظلم والاضطهاد والقتل، ما هو إلاّ شكل من أشكال النصر، وهو كذلك بحسابات الله تعالى، لا بحسابات البشر، فان البشر لا يرون الشهادة إلاّ فناء، ولكنها عند الله حياة متجددة.
ج) من ألوان النصر أيضاً إهلاك الظالمين والمناوئين لحركة الانبياء والمصلحين، بإنزال العذاب عليهم وإبادتهم، كما حصل مع بعض الانبياء، فهذا نوح عليه السلام دعا ربه ليُهلك قومه بعد أن يئس من هدايتهم، وبعد أن أذاقوه شتى أنواع الظلم, والاذى، وقد استجاب الله دعاءه, وانتصر له بإهلاكهم, قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ* وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ* فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }[21], ففي هذه الآيات دعا نوح عليه السلام ربه لينتصر له من أعدائه، وقد استجاب الله دعاءه فأهلكهم، إذاً من أنواع النصر إهلاك الظالمين.
د) ومن معاني النصر ايضاً انتصار الغاية وتحقق الهدف، فان الصراعات التي يخوضها الانبياء واتباعهم مع اعدائهم هي من اجل تحقيق إرادة الله في الارض، فاذا تحققت تلك الارادة ولو بعد حين فقد انتصر أولئك الانبياء، حتى لو قُتلوا أو شُردوا، فان الامور بخواتيمها، فمن ذلك ما جاء في قصة أصحاب الكهف، حيث تعرّض المسيحيون في تلك الحقبة الزمنية الى ظلم شديد، واضطهاد مرير، وقتل مُريع، وبسبب ذلك التجأ الفتية الى الكهف هروباً من بطش الجهاز الحاكم، فضرب الله على آذانهم سنين عدداً، ثم أيقضهم بعد ذلك ليُريهم ثمرات كفاحهم ونتيجة مجهودهم، وليكونوا آيةً للعالمين.
إذاً من معاني النصر انتصار الغاية والهدف وانتشار العقيدة التي يدعوا لها ذلك النبي أو ذلك المؤمن.
هذه بعض معاني النصر، وهي كما ترى لا تنحصر بالغلبة العسكرية والانتصار المسلّح، ولعلّ المتتبع يجد غيرها من المعاني.
نعم, يمكن أن نفسّر (النصر) الوارد في الآيات بالنصر العسكري والغلبة المادية في ساحة المعركة، ولا يتنافى ذلك مع الآيات الحاكية تعرّض الكثير من الانبياء والمؤمنين للقتل والظلم والاضطهاد، وذلك بان نقول: يمكننا أن ننظر الى الصراع القائم بين الحق والباطل منذ عصر آدم والى يومنا هذا كمعركة واحدة مستمرة، فتارة ً تميل الى هذا الجانب واخرى الى ذلك الجانب, ولكنها في نهاية المطاف ستُحسم لصالح المؤمنين للوعد الالهي القاضي بذلك، إذ الآيات المذكورة لم تحدد سقفاً زمنياً لهذا النصر، نعم صرّحت بأن الارض ستكون لعباد الله الصالحين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[22]، وأنَّ الدين الحق سيحكم الارض على رغم الكفار والمشركين، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[23].
إذاً الآيات الكريمة تتحدث عن وعدٍ إلهي يتحقق في نهاية الصراع بين الحق والباطل.
لمن تعود فائدة النصر
لنا أن نتساءل: لمن تعود فائدة النصر، ومن هو المنتفع بذلك؟.
بكل تأكيد ليس المنتفع هو الله عز وجل، لأنه لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة، فانه الغني المطلق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[24]، ومعه لابدَّ ان تعود الى الناس، الى اتباع الانبياء والمرسلين، وبناءً على هذا يمكن ان نجيب عن السؤال بهذا الشكل: المنتصر هو ذلك الذي تعود الفائدة على أتباعه، وحيث إننا وجدنا أن أتباع الانبياء والمصلحين هم المنتفعون، لسلامة الدين الواصل اليهم، علمنا ان أولئك الانبياء والمصلحين هم الذين انتصروا على أعدائهم، حتى لو كانوا قد قُتلوا أو تعرّضوا للظلم والاهانة، فهذا الامام الحسين عليه السلام قد تعرّض لأبشع مجزرة شهدتها الانسانية، ولكنه انتصر رغم ذلك، لانتفاع الناس بجهاده وتضحيته، فهذا هو قبره أضحى قبلة لأحرار العالم يقصدونه من كل مكان ليستلهموا منه دروساً في الاباء، وليتعلموا منه أساليب الثبات على المبدأ وعدم المساومة مهما كانت المغريات.
وهذه الحقيقة بلغت حداً من الوضوح بحيث لفتت أنظار غير المسلمين، ليقفوا عندها ويسجلوا انطباعاتهم، فهذا المستشرق الالماني (كارل بروكلمان) يقول: ((الحق إن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين، قد عجلت في التطور الديني لحزب علي، وجعلت من ضريح الحسين في كربلاء أقدس محجة))[25]، ويقول المستشرق الانكليزي(د.ج. هوكار): ((دلت صنوف الزوار التي ترحل الى مشهد الحسين في كربلاء والعواطف التي ما زال تؤججها في العاشر من محرم في العالم الاسلامي بأسره...كل هذه المظاهر استمرت لتدل على إنَّ الموت ينفع القديسين أكثر من حياتهم مجتمعة))[26].
ولعل الى هذا المعنى يشير الامام زين العابدين عليه السلام عندما سُئل: مَن المُنتصر؟ فأجاب عليه السلام : ((إذا أذّن المؤذن تعرف من المنتصر)) [27]، فان نهضة الامام الحسين عليه السلام كانت تهدف الى حماية الاسلام من التزييف والتحريف، فاذا تحقق ذلك فقد انتصر الحسين عليه السلام ، إذ لا هدف له وراء ذلك.
إذاً يمكن ان يكون النصر الذي تحدثت عنه الآيات الكريمة يُراد منه هذا المعنى.
ثالثا: النصر في مفهومه الانساني.
بعد أن اتضح لنا معنى النصر في الكتاب العزيز، وانه أعم من الغلبة المادية والنصر العسكري الآني، بقي أن نعرف معناه في مفهومه الانساني، وهل هو بمعنى الغلبة المادية العسكرية فقط، أو يشمل ما هو أوسع من ذلك ؟, وبتعبير آخر، هل يستعمل الناس لفظ النصر والانتصار في الانتصار العسكري فقط أو يستعملونه في شكل آخر من الانتصار ؟. فهذا ما نريد أن نتعرّف عليه الآن, فنقول:
عند مراجعة الدراسات السياسية والفكرية والثقافية لا نجد لمفهومي (النصر, والهزيمة) معنىً واضحاً، بل نجد لهما عدة معانٍ مختلفة، ويبدوا أنَّ منشأ الاختلاف في تشخيص المعنى هو اختلاف الناس أنفسهم في تفسير النصر والهزيمة، وتباين أنظارهم في ذلك، ويمكن تلخيص الآراء بما يلي:
1ـ البعض يفهم النصر فهماً عسكرياً مجرداً، فالذي يتغلّب ميدانياً على خصمه منتصر، والمغلوب منهزم، مع قطع النظر عن الجوانب الاخرى، كمقدار الخسائر المادية والمعنوية التي تعرّض لها المنتصر، أو النتائج التي حصل عليها فيما بعد المعركة، وما الى ذلك من الجوانب والحيثيات التي ترافق الحروب والصراعات، فليس المهم ذلك، وانما المهم تحقق الغلبة العسكرية.
2ـ والبعض الآخر ينظر الى نتائج المعركة، من حيث حجم الخسائر، والدمار الذي حلّ بهذا الطرف أو ذاك، فكلما كان الطرف أكثر خسائر من الآخر فهو المهزوم، والعكس هو المنتصر، فالمدار عند هؤلاء على مقدار الخسائر، وليس المدار على التغلّب العسكري.
3ـ والبعض الثالث يأخذ الجوانب السياسية للمعركة بعين الاعتبار، فليس المنتصر هو من يتغلّب عسكرياً أو يخرج بخسائر أقلّ من الآخر، وانما المنتصر هو من يحقق مكاسب سياسية على أرض الواقع، لانَّ الحرب سياسة في واقعها، فالمهم هو أن ننظر الى ما حققه هذا الطرف من مكاسب سياسية، وما حققه ذلك الطرف، وما نوعها وتأثيرها على المدى القريب والبعيد.[28]
هذه مجمل الآراء في مفهومي النصر والهزيمة، وأنت تلاحظ أنها متباينة فيما بينها ولا تكاد تتفق على شيء، ولكن يمكن من خلال الالتفات الى بعض الشواهد ان ندعم احد هذه الآراء، وهو الرأي الثالث، وفي هذا المجال نذكر شاهدين:
الشاهد الاول: بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفييتي، أطلق السياسيون والمختصون والعالم بأسره عبارة (النصر) على الولايات المتحدة، وقالوا انتصرت في هذه الحرب، مع أنها لم تكن حرباً عسكرية بين الطرفين، وانما هي حرب مشروع، وقد انتصر المشروع الامريكي على المشروع السوفييتي، وهذا يدلل على ان الملحوظ في النصر المكاسب السياسية والاستراتيجية التي تضمن للطرف الانتشار والتوسع والبقاء والديمومة.
الشاهد الثاني: وصف الكثير من القادة السياسيين الامام الحسين عليه السلام بالمنتصر، رغم خسارته العسكرية في المعركة، كما صنع ذلك الزعيم الهندي البوذي (غاندي)، حيث أطلق عبارته الشهيرة (تعلمت من الحسين أن أكون مظلوماً لانتصر) فلولم يكن الانتصار ذا مفهوم وسيع لما ساغ له اطلاقه عليه، وهكذا نجد المؤرخ الانكليزي (توماس كارليل) يُطلق هذه اللفظة ايضاً على الامام الحسين عليه السلام ، حيث يقول: ((أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء هو أنَّ الحسين وأنصاره كان لهم إيمان راسخ بالله، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أنَّ التفوق العددي لا أهمية له حين المواجهة بين الحق والباطل والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلة الفئة التي كانت معه))[29].
إذاً لفظة النصر تطلق على الطرف الذي يحقق اهدافه سواء تحقق له ذلك عسكرياً أو سياسياً.
الخلاصة: اتضح لنا من خلال ما تقدم كله أنَّ مفهوم النصر والانتصار لا يقتصر على معنى الغلبة العسكرية، بل يشمل ما هو أوسع من ذلك، ويمكن أن نختصره بكلمة هي (غلبة المشروع) فمن غلب مشروعه فهو منتصر.
ونحن بهذا قد اكملنا المحور الاول من البحث، وحققنا مفهوم النصر ببعده القرآني والانساني، وبقي أن نعرف كيف تكون المظلومية شكلاً من أشكال النصر لا سيما لو اقترنت بالعزة والاباء؟ وهذا ما سنحاول ان نبحثه في المحور الثاني.
المحور الثاني: المظلومية والانتصار.
قد لا تكون المظلومية دائماً سبباً للانتصار، لانَّ المظلوم أحياناً يساهم في صناعة الظالم، فيكون شريكه في الظلم والطغيان، وذلك عندما لا يحرّك ساكناً، ولا يبدي ردة فعلٍ تجاه ما يراه من مظاهر الظلم والاضطهاد والاعتداء والتجاوز على الحقوق الشخصية أو النوعية, فالذي يسلّم عنقه للجلّاد يساهم في قتل نفسه، ويسهّل على الجلّاد المهمة، بينما الذي يُمانع ويُدافع يصعّب على الجلّاد المهمة، ويجعله يفكّر بجد في كيفية قتله.
ومن هنا نجد القرآن الكريم عندما يتحدث عن هذا الصنف من المظلومين يصفه بالظالم، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[30]
فهذه الآيات تتحدث عن المستضعفين والمستكبرين وتصفهم بالظالمين، مع أنَّ المستضعفين مغلوب على أمرهم، وقد وقعوا تحت تأثير المستكبرين، وما ذاك إلاّ لانهم كانوا يعيشون حالة الضعف والاستسلام أمام المستكبرين.
والآيات تشير الى ظاهرة خطيرة يمكن أن تعيشها الامة، وهي عندما يتحوّل السكوت والضعف والاستسلام الى ثقافة فيما بعد, بحيث يكون الخروج عن ذلك مخالفةً صارخة للمألوف والمعروف، ويكون نشازاً، ومن هنا نجد أنَّ الحكومة الاموية سعت بشكل كبير الى تأطير هذه الحالة، حالة السكوت والاستسلام التي كانت تعيشها الامة، بأطر إسلامية من قبيل حرمة الخروج على الحاكم الجائر، وقد نجحت الى حدٍّ كبير، لولا النهضة الحسينية التي قَلَبَت كلَّ الموازين، ولهذا نجد في الاحاديث الحثَّ الاكيد على مخالفة الظالمين وتسجيل موقف الادانة والشجب، وضرورة الخروج عن صفة الاستسلام والضعف، فمن ذلك ما ورد عن النبي الاكرمصلى الله عليه وآله وسلم : ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر))[31]، والسلطان الجائر يشمل السلطان المسلم، والسلطان غير المسلم، ولنا أن نتساءل، كيف يكون ذلك من أفضل الجهاد ؟ والجواب: إنَّ ترك السلطان الجائر يعيث في الارض فساداً دون رادع لاسيما إذا كان مسلماً يشكّل خطراً كبيراً على مستقبل الاسلام، لأنه يحكم باسم الاسلام, يقتل، يضطهد، ينتهك، يشرّع، ويفعل كل شيء باسم الاسلام، والناس على دين ملوكهم، فيتحول ذلك ـ تدريجياً ـ الى جزء من الثقافة الاسلامية، وورد عن الامام الحسين عليه السلام قوله: ((أما بعد فقد علمتم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال في حياته: " من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحُرَم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغيّر بقولٍ ولا فعل، كان حقيقا على الله أن يدخله مدخله))[32]، وفي هذا الحديث يشير الامام عليه السلام الى الحقيقة التي نتحدث عنها، وهي أنَّ المظلوم الساكت يشارك الظالم في ظلمه وجوره، لأنه لم يغيّر عليه بقولٍ ولا فعل، ومن ثَمَّ يتحوّل هذا المظلوم الى ظالم، على حدِّ تعبير الآية المتقدمة.
ويمكننا ـ بعد هذا ـ أن نقول بشكل صريح: إنَّ السكوت عن جور السلطان والاستسلام له, من أعظم الفتن التي تعصف بالمجتمع الاسلامي، لأنه لا يُري الناس إلاّ ما يريد هو أن يروه، ولا يسمح لهم بالاعتقاد إلاّ وفق ما يعتقد هو, قال الله تعالى حكاية عن فرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[33]، ومن هنا جاء قوله تعالى ـ وهو يتحدث عن الغاية من الجهاد, أو إحدى غاياته ـ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}[34]، فليست الغاية قتل المفسدين بالضرورة، وانما المهم قتالهم، وعلى حدِّ تعبير أحد الباحثين: ((إنَّ الهدف الاصلي للجهاد الاسلامي ليس الانتصار على الاعداء كأشخاص بل انتصار الغايات والاهداف حتى مع بقاء أشخاص الاعداء ويتحقق ذلك بتوجيه أفكار عموم الناس ضد هؤلاء المفسدين)) [35].
إذاً الغاية قتل الفتنة والحيلولة دون ضلال الناس وانحرافهم، وليس المهم قتل رموز الفتنة وقادتها، إذ بعد القضاء على الفتنة لا يبقى لأصحابها أيَّ دور في إذكائها.
ومن خلال ما تقدم كله اتضح؛ أنَّ المظلومية المهزومة لا يمكن أن تنتصر، لأنها تعيش روح الاستسلام والضعف والذل، وهذه المظلومية ليست محلّ كلامنا وبحثنا، لأنها لو وُضعت في إحدى كفتي الصراع بين الحق والباطل لكانت في كفة الباطل ضد الحق، وفي الحديث: {الساكت عن الحق شيطان أخرس}[36].
وكلامنا في المظلومية الثورية التي لا تعرف الاستسلام، الداعية الى الانتصاف من الظالم، التي لا تتجرّع الذُل أبداً، لأنها تعيش روح الاباء والعزة والكرامة، تلك هي مظلومية الامام الحسين عليه السلام التي لطالما تغنى بها ابطال العالم واحرارهم وهم يعيشون الصراع ضد الباطل، ويخوضون الحروب ضد الاعداء، والحقيقة أنَّ الامام الحسين عليه السلام قد أسس لانتصارٍ من نوعٍ فريد لم يكن ليخطر ببال، إذ لم يكن ليُتصوّر أن ينتصر المقتول على القاتل، أو ينهزم الحاكم الظالم الطاغي على يد ثائر لا يملك من سلاح سوى هذه الكلمة: ((والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرُّ فرار العبيد)) [37], ولكي تتضح هذه القضية لابدَّ من تسليط الاضواء عليها أكثر.
المجتمع الاسلامي في عصر النهضة.
هناك حالتان بارزتان كان يعيشهما المجتمع الاسلامي في عصر النهضة الحسينية:
الحالة الاولى: الشعور بالمظلومية والاضطهاد والذل ومصادرة الحريات الشخصية والنوعية، وهذه الحالة كانت سائدة في المجتمع وعند الكثير من الشخصيات الاسلامية كبقايا الصحابة, حيث يشعرون بالاضطهاد الديني لانهم يعلمون مدى خطورة انحراف الحاكم ومدى تأثير ذلك وانعكاسه على الواقع الاسلامي.
الحالة الثانية: حالة الضعف والانهزام، وهي حالة سائدة وعامة أيضاً، ولها مبرراتها، ولعلّ من أبرزها أمرين:
1ـ قسوة الحكومة على معارضيها، وشدة بطشها بهم.
2ـ الغطاء الديني المزيّف الذي كانت تتستر به الحكومة، لتبرر جرائمها, من خلال وضع الاحاديث التي تخدم مصلحتها، كوضع أحاديثٍ تحرّم الخروج على الحاكم الاسلامي ولو كان جائراً، وبذلك تستطيع قمع المعارضين باسم الاسلام، إذ الخروج على الحاكم حرام، فيلزم على الحكومة منعه ومعاقبته لمنع الناس من ارتكاب الحرام.
والموقف مع وجود هاتين الحالتين كان يتطلب تحرّك شخصية إسلامية تتمتع بخصائص ومميزات ومؤهلات تمكنها من مواجهة هاتين الحالتين، وتغييرهما من الحالة السلبية الى الحالة الايجابية، ولم تكن هناك شخصية تمتلك هذه المؤهلات غير الامام الحسين عليه السلام ، إذ هو يتمتع بعدة مميزات منها:
أ) نسبه المبارك، فهو ابن فاطمة بنت النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، مع ما يعلمه المسلمون من سيرة النبيصلى الله عليه وآله وسلم من اهتمامه به وبأخيه الحسن عليه السلام وتربيته لهما، وحبه الكبير لهما.
ب) حب المسلمين له، وتقديرهم واحترامهم له.
ج) صحبته للرسول ومعرفته بشريعة جده.
د) نزول الآيات في فضله، وأحاديث النبي في حقه، جعلته يحتل مكانة خاصة عند عامة المسلمين. الى غيرها من المميزات والخصائص التي كان يتمتع بها.
وقد أشار الامام عليه السلام الى هذه الحقيقة، وهي امتلاكه للمؤهلات الخاصة للتغيير المطلوب، حيث قال في بعض كلماته: ((ومثلي لا يبايع مثل يزيد))[38], وقال في مناسبة أخرى: ((وأنا أحق من غيّر))[39] , وقال أيضاً: ((وإنما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )[40]، ففي هذه الكلمات يتحدث الامام عليه السلام عن مقامه السامي ومنزلته الرفيعة في المجتمع الاسلامي، وهذا يجعله أمام مسؤولية كبيرة، إذ هو الراعي الاول لشريعة جده، فيلزمه الدفاع عنها وحمايتها، وهذا الشعور الذي كان يعيشه الامام عليه السلام ((الشعور بمسؤوليته تجاه شريعة جده)) كان يشعر به المسلمون عامة، فهم جميعاً ينظرون الى الامام الحسين عليه السلام كشخصٍ يمثل بمواقفه الشريعةَ الاسلامية، وهذه الحقيقة كان يدركها الجهازُ الحاكم، فقد أوصى معاوية ولده يزيد بضرورة أخذ البيعة من الامام الحسين عليه السلام ، وقام يزيد بدوره بالتشديد على وآليه في المدينة لأخذ البيعة له من الامام الحسين عليه السلام ، كلُّ ذلك لعلمهم بموقع الامام في قلوب المسلمين.
وهذه المؤهلات وهذه الموقعية تحتم على الامام عليه السلام أن يتعامل مع الموقف من خلال قضيتين:
الاولى: سلب الغطاء الديني المزيّف الذي كان الجهاز الحاكم يتستر به لتنفيذ مشاريعه.
الثانية: تغيير المظلومية السلبية التي كان يعيشها المجتمع الى مظلومية إيجابية، وتحويلها من حالتها الانهزامية الى الحالة الثورية.
وقد اعتمد عليه السلام في التعامل مع القضية الاولى على أمرين:
1ـ إعلام الامة بالاحاديث النبوية الصحيحة الحاثّة على معارضة السلطان الجائر، والداعية الى مخالفته، فمن ذلك خطبته الشهيرة التي قال فيها: ((أمّا بعد فقد علمتم أنَّ رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم قد قال في حياته: " من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغيّر بقولٍ ولا فعل، كان حقيقا على الله أن يدخله مدخله " وقد علمتم أنَّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وإني أحقُّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ))[41]. ولم يكتفِ عليه السلام بنقل الحديث، بل طبّقه على السلطة القائمة، وكان الامام يهدف من التذكير بهذا الحديث وامثاله الى نقطتين:
· توفير الغطاء الشرعي للخروج على الحاكم الجائر، وأنَّ ذلك واجباً شرعياً.
· تكذيب ما يبثّه الجهاز الحاكم من أحادث موضوعة تحرّم الخروج عليه.
2ـ خروجه عليه السلام بنفسه على السلطة الجائرة، ومعارضته لها بشكل علني، وهو أقوى برهان، وأدل دليل على مشروعية الخروج على الحاكم الجائر، إذا لم يكن أمراً واجباً.
وبما أنَّ الامام عليه السلام كان يتمتع بمميزات ومؤهلات تقدم الحديث عنها، صار خروجه أمراً مشروعاً عند عامة الناس بما لا يدع مجالاً للشك، فاستطاع بذلك أن يسلب من الحاكم غطاءه الديني المزيّف الذي كان يتستر به لمنع الناس من الخروج عليه.
والقضاء على هذه الحالة لا يكفي بكل تأكيد لتحقيق الغاية، إذ الاعتقاد بمشروعية الخروج أو وجوبه لا يكفي لدفع الفساد والانحراف ما لم يتبعه خروج عملي، والخروج العملي يحتاج الى تحرير الانفس من الشعور بالضعف والاستسلام والخضوع.
ولهذا فقد اعتمد الامام الحسين عليه السلام في التغلّب على الحالة الثانية على المثيرات العاطفية، والمنبهات الوجدانية، وهذا الأمر يحتاج الى حشدٍ عاطفيٍّ كبير، وملحمة مأساوية عظيمة، تشدّ الناس اليها بقوّة، وتهزّهم من أعماقهم، وتحرّك ضمائرهم نحوها.
وهذا ما صنعه الامام الحسين عليه السلام بالفعل في نهضته المباركة، حيث صنع ملحمةً مأساوية دامية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، راح ضحيتها ريحانة المصطفىصلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، في أبشع صورة، وأسوأ منظر، مع تعرّض الاسرة النبوية الكريمة للأسر والتنكيل والاحتقار.
وبهذا نستطيع أن نجيب على الكثير من الاسئلة التي طُرحت وما تزال تُتناقل، من قبيل، لماذا أصطحب الامام عليه السلام معه العائلة الكريمة، وتعريضهم للأسر والسبا ؟, ولماذا لم يحشّد الامام جيشاً كبيراً لمواجهة الحاكم، حيث كان بإمكانه الاتصال بالعديد من شيعته المنتشرين في شرق البلاد وغربها؟, ولماذا لم يغيّر مقصده بعد أن عَلِمَ بمقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وتغيّر الاوضاع في الكوفة ؟, الى غيرها من الاسئلة التي تدور حول هذه الملابسات، والجواب عن جميع هذه الاسئلة وما كان من قبيلها قد اتضح من خلال هذه النقطة، فالأمام الحسين عليه السلام لم يكن يسعى للانتصار العسكري الآني، فلعلّ ذلك يضرّه ولا ينفعه, لانَّ الهدف هو تفهيم الرأي العام حقيقة الأمر، ليميّز بين الحق والباطل، بين الحق الذي يدعو له الامام الحسين عليه السلام والباطل الذي يدعو له الجهاز الحاكم، واذا أردنا استيضاح الأمر أكثر، نطرح هذا السؤال:
لو انتصر الامام الحسين عليه السلام عسكرياً وقتل أعداءه واستلم مقاليد الخلافة، فما هو موقف المجتمع الاسلامي من هذا التغيير والانتصار؟ هل سيكون المجتمع بأكمله مقتنعاً تماماً بأحقية الحسين عليه السلام من يزيد؟, وهل هو مقتنع تماماً بشرعيّة الانتصار والانقلاب الذي حدث؟, وهل هو مقتنع تماماً بظلم بني امية وتحريفهم للدين وزيفهم ؟ وهل سيسلم الامام عليه السلام من الحركات المناهضة لحكومته؟
الجواب: كلا، لأن انكشاف الحقيقة بشكلها الكامل لم يتحقق بعدُ، ومعه ستبقى فئة من الناس لا تعتقد بشرعية الحكم القائم، وسيبقى الحاكم المهزوم أو المقتول يجد من يتعاطف معه طالما هناك ضبابية في الرؤية، وعدم وضوح في الحقيقة.
بينما بعد استشهاد الامام الحسين عليه السلام واهل بيته وأصحابه في تلك المجزرة الرهيبة التي اعترف بقسوتها وبشاعتها كلُّ البشر من مسلمين وغيرهم، لم يبقَ مجالٌ للشك والريب في بطلان الجهاز الحاكم وعدم مشروعيته، وأقتنع المجتمع بأسره بحقّانيّة خروج الحسين عليه السلام وحقّانيّة أهدافه، والدليل على ذلك الثورات التي حدثت بعد نهضة الحسين عليه السلام بفترة قصيرة جداً، حيث ثار أهل المدينة على الجهاز الحاكم، وهم يمثلون ـ وقتئذ ـ الثلة الباقية من الصحابة من البدريين وغيرهم، وثار ابن الزبير بمن معه من أهل مكة، والملاحظ أنَّ هاتين الثورتين لا تمثلان الخط الشيعي، وهذا يؤكد نجاح النهضة الحسينية، وقد روى الطبري في تأريخه أنَّ مصعب بن الزبير لمّا خذله أهل الكوفة وحُوصر من قبل جيش الشام التفت الى رجلٍ من أصحابه يُدعى عروة وقال له: أخبرني عن الحسين بن علي، كيف صنع بإبائه النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب ؟ فأخبره.
فأنشد يقول:
وإنَّ الاولى بالطف من آل هاشمٍ تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
يقول الراوي: فعلمت أنه لا يَريمُ حتى يُقتل.[42]
حيث تأثّر بها من لا ينتمي لخط أهل البيت، بل تأثر بها حتى غير المسلمين، قال المفكر المسيحي(إنطوان بارا) في كتابه القيّم (الحسين في الفكر المسيحي) في هذا الصدد: ((وليس أدلّ على ما لسحر شهادة الحسين عليه السلام من قوّة جذب للشعور الانساني في حادثة رسول قيصر إلى يزيد حينما أخذ هذا ينكث ثغر الحسين الطاهر بالقضيب على مرأى منه، فما كان منه إلاّ أن قال له، مستعظماً فعلته: إنَّ عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى، ونحن نحج اليه في كل عام من الاقطار، ونهدي اليه النذور ونعظّمه كما تعظمون كتبكم، فأشهد أنكم على باطل)).[43]
العلاقة بين المظلومية والعاطفة.
يبقى أن نعرف سرَّ التعاطف مع المظلوم الذي يطالب بحقه ولا يُعطى، بل يُمنع، ويُدفع، ويُقتل.
ولعلَّ السرّ في ذلك يعود الى الفطرة، فإنها تقتضي الميل النفسي اليه، والتعاطف مع قضيته، فإننا نشعر بالوجدان وفي أعماقنا بالتعاطف معه، ولكنَّ التعاطف يكون أشدّ فيما لو كان المظلوم لا يطالب بحقه الشخصي، وإنما يطالب بحقوق الامة، ويدافع عن مقدساتها، بل يدافع عن أثمن شيء لديها وهو كرامتها وعزتها.
إنَّ هذه هي النقطة المهمة، أي عندما تشعر الامة أنَّ القتيل إنما قُتل لدفاعه عن كرامتها المسلوبة، وحقها الضائع، عندما تشعر أنَّ هذا القتيل قد عُرضت عليه الدنيا بأسرها مقابل سكوته عن كرامة الامة، لكنه رفض المساومة، ورفض الامتيازات، ورفض حياة الذل: ((إني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما))[44]، إنَّ هذه المظلومية من شأنها أن تزيد من مشاعر الحقد والكراهية تجاه الظالم، كما أنَّ اعتزاز المظلوم بموقفه وإبائه عن التنازل من شأنه أن يبعث بمشاعر الحب والاحترام لشخصه في قلوب الناس ومن ثَمَّ التأسّي به والاقتداء بموقفه، وقد جُبلِت القلوب على حبِّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.
والخلاصة: أنَّ المظلومية يمكنها أن تنتصر في صراعها مع الظالم، شريطة أن تتصف بالمظلومية الايجابية التي ترفض أشكال الذل والظلم والاضطهاد، كما حدث ذلك في النهضة الحسينية، وأمّا المظلومية السلبية فلا يمكنها أن تنتصر، لأنها لا تعيش صراعاً مع الظالم, بل تعيش معه حالة الذل, والاستسلام, والانقياد لإرادته.
يتبع
توطئة:
كيف يمكن للمظلومية المقرونة بالعزة والإباء أن تنتصر؟ وكيف يمكن للمأساة الممزوجة بالصبر والثبات أن تكون لوناً من ألوان الغلبة والتفوّق؟ وهل يمكن أن يحدُث ذلك ضمن القوانين الطبيعية، أو أنه لا يكون إلاّ من خلال المعجزة الخارقة لنواميس الكون؟
فإذا كان أمراً ممكناً في الحسابات الطبيعية ـ بحيث يمكن أن يتحقق لكلِّ مظلوم ينشد الانتصار على ظالمه ـ دَفَعَنا ذلك لدراسة المقدمات والظروف المتكفّلة لتحقيقه؛ لأننا نحتاج إلى هذا الانتصار في كلِّ زمانٍ طالما هناك ظالمٌ ومظلومٌ، وأما إذا لم يكن ممكناً، وكان تحققه ضرباً من المعجزة، علمنا أنَّ ما صنعه الإمام الحسين عليه السلام في ملحمته التاريخية لا يمكن أن يكون إلاّ له، على حدِّ تعبير الشاعر:
فيا أيُّها الوتر في الخالدين فذَّاً الى الآن لم يُشفَعِ
لأنَّ ذلك من تدبير الله تعالى لأوليائه المخلصين، حيث يهبهم الخلود مدى العصور والدهور؛ لسرٍّ لا نعرف منه إلاّ ما روي عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: «إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»[1].
إنَّ الانتصار الذي حققه الامام الحسين عليه السلام في كربلاء ليس انتصاراً عسكرياً، فالغلبة كانت للجهاز الحاكم، حيث استُشهد الإمام وأهل بيته وأصحابه، كما هو واضح، ولكن الجميع يتفق على انتصار الحسين عليه السلام ، من المسلمين وغير المسلمين، حتى سُمّيَ هذا اليوم بأسماء متعددة، قبيل: (يوم انتصار الدم على السيف) و(يوم انتصار المظلوم على الظالم) و (يوم انتصار مشروع ألأُمه على مشروع السلطة) الى غيرها من التسميات والتعابير التي تؤكد هذه الحقيقة.
ومن هنا يَحِقُّ لنا أن نتساءل:
إذا كان الجهاز الحاكم قد انتصر عسكرياً، وازاح معارضه من الوجود، فكيف كان الإمام الحسين عليه السلام هو المنتصر؟.
وإذا كانت الغلبة العسكرية لا تكفي لوحدها في تحقيق الانتصار فهذا يعني وجود أسباب أخرى للنصر، فما هي هذه الأسباب؟.
وهل حقاً أنَّ المظلومية المقترنة بالعزة والاباء من تلك الأسباب؟, وهل مظلومية الامام الحسين عليه السلام هي السبب المهم والبارز في حسم الملحمة لصالحه، على حدِّ تعبير القائد الهندي: تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر[2]؟
هذه الأسئلة وغيرها سنحاول ـ إن شاء الله ـ الإجابة عنها في هذا البحث، وتسليط الاضواء بشكل كبير على عامل مهم من عوامل النصر في المعارك المصيرية، وهو عامل المظلومية المقترنة بالعزة والإباء.
وعليه: سيقع البحث ضمن ثلاثة محاور رئيسية:
الاول: مفهوم النصر والانتصار في منظور أهل اللغة والمنظور القرآني والإنساني.
الثاني: المظلومية والانتصار.
الثالث: مظاهر العزة والإباء في مظلومية الحسين عليه السلام .
المحور الاول: مفهوم النصر والانتصار في اللغة و المنظور القرآني والانساني.
ان مفهوم الانتصار, هو مفهوم واسع جدا, ويحتوي على شمولية كبيرة, ولأجل هذه الشمولية والسعة اختلفت اطراف النزاع!, فقال كل طرف إني انا المنتصر!, وذلك لشمولية هذه اللفظة فكل ضل يحمل معناها على وجه معين من الانتصار.
ولما كان لها هذا الوسع, اردنا ان نبحث في مفهومها ومعناها لغة واصطلاحا قرآنيا وانسانيا. فنقول:
اولا: النصر والانتصار في اللغة:
ان الغرض من استعراض أقوال اللغويين هو للوقوف على موارد استعمالات هذه اللفظة في كلام العرب، للاستعانة بذلك على تفسير الآيات القرآنية المتضمنة لها, فقد ذكر اللغويون عدة معانٍ للفظة النصر، وهي كالآتي:
1ـ الاعانة: فقد جاء في كتاب العين: ((النصر: عون المظلوم. وفي الحديث: انصر اخاك ظالماً أو مظلوماً، وتفسيره: أن يمنعه من الظلم إن وجده ظالماً، وإن كان مظلوماً أعانه على ظالمه. والانصار جماعة الناصر، وأنصار النبي (ص) أعوانه))[3].
وجاء في الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري في الفرق بين النصر والمعونة, أنَّ: ((النصر: يختص بالمعونة على الاعداء، والمعونة: عامة في كل شيء، فكل نصر معونة ولا ينعكس)) [4].
إذاً النصر: الإعانة على الاعداء، فيقال: أعن الفقير على فقره، ولا يقال: انصره على فقره، لان الفقر ليس عدواً.
2ـ العطاء: قال الجوهري في الصحاح: ((والنصر: العطاء))[5], وفي معجم مقاييس اللغة: ((والنصر: العطاء))[6], وفي أساس البلاغة: ((...ووقف السائل على قوم فقال: انصروني نصركم الله, يريد أعطوني أعطاكم الله)[7].
ويظهر من الزمخشري، أن استعمال النصر في العطاء مجاز، حيث قال: ((ومن المجاز أرض منصورة و...)) ثم ذكر من جملة ذلك الكلام السابق.
3ـ الاتيان والايتاء: قال ابن فارس في مقاييس اللغة: ((نصر، النون والصاد والراء، أصل صحيح يدل على إتيان خير وإيتائه. ونصر الله المسلمين آتاهم الظفر على عدوهم...وأما الاتيان فالعرب تقول: نصرت بلد كذا إذا أتيته))[8]
4ـ الانتصار من الظالم (الانتصاف والانتقام والامتناع): قال ابن منظور في لسان العرب: ((وأنتصر الرجل إذا امتنع من ظالمه، قال الازهري: يكون الانتصار من الظالم الانتصاف والانتقام، وانتصر منه: انتقم))[9].
ثانيا: استعمال مادة (نصر)في القرآن الكريم.
لقد استعملت هذه اللفظة مع مشتقاتها في الكثير من الآيات الكريمة في معاني متعددة، والذي يهمنا من ذلك هو الآيات التي تتعلق ببحثنا, من قبيل:
1ـ {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[10]
2ـ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[11]
3ـ {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[12]
4ـ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[13]
5ـ {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[14], الى غيرها من الآيات.
ان هذه الآيات ـ ما عدى الاولى ـ وان كانت مطلقة من حيث محل النصر, وانه في الدنيا, أو في الاخرة, أو في كليهما, ولكن الآية الاولى؛ قد صرّحت بذلك وأنه يكون في الدنيا والاخرة حيث قالت: (في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد) ليتضح ان المقصود في بقية الآيات الاخرى هو ذلك.
وإذا رجعنا الى المفردات التي وردت في هذه الآيات وجدناها تقول: (لننصر، نصر، لأغلبنَّ، المنصورون، الغالبون)، إذن توجد لفظتان: هما النصر, والغلبة.
والتأمل في هذه الآيات ومفرداتها يوصلنا الى هذه النتائج:
1ـ ان هذه الآيات وعدٌ الهيٌّ بالنصر والغلبة لأنبيائه وأوليائه والمؤمنين، و{ إنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[15]
2ـ إنها تصرّح بشمول هذا الوعد للمؤمنين، ولا تختص بالأنبياء, او الاوصياء، كما إنها شاملة لجميع الانبياء والمؤمنين، وليست خاصة ببعضهم، كما هو واضح من تعابيرها.
3ـ إنها لم تقيّد النصر والغلبة بنوع خاص منه، فلم تقل: إننا لننصر رسلنا والمؤمنين في معاركهم وحروبهم الميدانية، او إنَّ حزبنا غالبٌ دائماً في الصرعات المسلحة، كلا إنها لم تقل ذلك، بل أطلقت النصر والغلبة, وقد تقدم في البحث اللغوي أن النصر يستعمل في المعونة على الظالم, وهو مطلق أيضاً من حيث نوع المعونة، فهو شامل لجميع اشكالها.
وحينئذ: فالنصر والغلبة له معنى وسيع يشمل كل ألوان وأشكال الاعانة والتأييد والدعم والامداد، واليك بعض تلك الالوان والاشكال:
أ) النصر والغلبة بالحجة والبرهان، فان الله تعالى ينصر أولياءه دائماً بتلقينهم الحجة البالغة، فهم يغلبون خصومهم بالأدلة والبراهين:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}[16]، فمن ذلك ما حصل للخليل إبراهيم عليه السلام عندما ألقم النمرودَ حجراً في فمه، فأعجزه عن الجواب، حيث قال تعالى ـ وهو يحكي قصة المحاججة التي وقعت بينهما ـ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[17], وهنا يعني ان من صور النصر والغلبة؛ النصر بالحجة، والغلبة بالبرهان.
ب) قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}[18]، والمراد من (إحدى الحسنيين): إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة[19], إذاً فالشهادة ليست هزيمة، بل هي حسنى تضاهي الغلبة والظفر، ومقتضى ذلك أن المؤمن لا يُهزم أبداً ولا يخسر، فهو في نصر دائم، سواء تغلّب على خصمه عسكرياً, أو لا، فانَّ نصره وانتصاره في دخول الجنة والفوز برضى الله قال تعالى, قال تعالى:{ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[20], فما تعرّض له الانبياء والمؤمنون ـ على امتداد التاريخ ـ من الظلم والاضطهاد والقتل، ما هو إلاّ شكل من أشكال النصر، وهو كذلك بحسابات الله تعالى، لا بحسابات البشر، فان البشر لا يرون الشهادة إلاّ فناء، ولكنها عند الله حياة متجددة.
ج) من ألوان النصر أيضاً إهلاك الظالمين والمناوئين لحركة الانبياء والمصلحين، بإنزال العذاب عليهم وإبادتهم، كما حصل مع بعض الانبياء، فهذا نوح عليه السلام دعا ربه ليُهلك قومه بعد أن يئس من هدايتهم، وبعد أن أذاقوه شتى أنواع الظلم, والاذى، وقد استجاب الله دعاءه, وانتصر له بإهلاكهم, قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ* وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ* فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }[21], ففي هذه الآيات دعا نوح عليه السلام ربه لينتصر له من أعدائه، وقد استجاب الله دعاءه فأهلكهم، إذاً من أنواع النصر إهلاك الظالمين.
د) ومن معاني النصر ايضاً انتصار الغاية وتحقق الهدف، فان الصراعات التي يخوضها الانبياء واتباعهم مع اعدائهم هي من اجل تحقيق إرادة الله في الارض، فاذا تحققت تلك الارادة ولو بعد حين فقد انتصر أولئك الانبياء، حتى لو قُتلوا أو شُردوا، فان الامور بخواتيمها، فمن ذلك ما جاء في قصة أصحاب الكهف، حيث تعرّض المسيحيون في تلك الحقبة الزمنية الى ظلم شديد، واضطهاد مرير، وقتل مُريع، وبسبب ذلك التجأ الفتية الى الكهف هروباً من بطش الجهاز الحاكم، فضرب الله على آذانهم سنين عدداً، ثم أيقضهم بعد ذلك ليُريهم ثمرات كفاحهم ونتيجة مجهودهم، وليكونوا آيةً للعالمين.
إذاً من معاني النصر انتصار الغاية والهدف وانتشار العقيدة التي يدعوا لها ذلك النبي أو ذلك المؤمن.
هذه بعض معاني النصر، وهي كما ترى لا تنحصر بالغلبة العسكرية والانتصار المسلّح، ولعلّ المتتبع يجد غيرها من المعاني.
نعم, يمكن أن نفسّر (النصر) الوارد في الآيات بالنصر العسكري والغلبة المادية في ساحة المعركة، ولا يتنافى ذلك مع الآيات الحاكية تعرّض الكثير من الانبياء والمؤمنين للقتل والظلم والاضطهاد، وذلك بان نقول: يمكننا أن ننظر الى الصراع القائم بين الحق والباطل منذ عصر آدم والى يومنا هذا كمعركة واحدة مستمرة، فتارة ً تميل الى هذا الجانب واخرى الى ذلك الجانب, ولكنها في نهاية المطاف ستُحسم لصالح المؤمنين للوعد الالهي القاضي بذلك، إذ الآيات المذكورة لم تحدد سقفاً زمنياً لهذا النصر، نعم صرّحت بأن الارض ستكون لعباد الله الصالحين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[22]، وأنَّ الدين الحق سيحكم الارض على رغم الكفار والمشركين، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[23].
إذاً الآيات الكريمة تتحدث عن وعدٍ إلهي يتحقق في نهاية الصراع بين الحق والباطل.
لمن تعود فائدة النصر
لنا أن نتساءل: لمن تعود فائدة النصر، ومن هو المنتفع بذلك؟.
بكل تأكيد ليس المنتفع هو الله عز وجل، لأنه لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة، فانه الغني المطلق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[24]، ومعه لابدَّ ان تعود الى الناس، الى اتباع الانبياء والمرسلين، وبناءً على هذا يمكن ان نجيب عن السؤال بهذا الشكل: المنتصر هو ذلك الذي تعود الفائدة على أتباعه، وحيث إننا وجدنا أن أتباع الانبياء والمصلحين هم المنتفعون، لسلامة الدين الواصل اليهم، علمنا ان أولئك الانبياء والمصلحين هم الذين انتصروا على أعدائهم، حتى لو كانوا قد قُتلوا أو تعرّضوا للظلم والاهانة، فهذا الامام الحسين عليه السلام قد تعرّض لأبشع مجزرة شهدتها الانسانية، ولكنه انتصر رغم ذلك، لانتفاع الناس بجهاده وتضحيته، فهذا هو قبره أضحى قبلة لأحرار العالم يقصدونه من كل مكان ليستلهموا منه دروساً في الاباء، وليتعلموا منه أساليب الثبات على المبدأ وعدم المساومة مهما كانت المغريات.
وهذه الحقيقة بلغت حداً من الوضوح بحيث لفتت أنظار غير المسلمين، ليقفوا عندها ويسجلوا انطباعاتهم، فهذا المستشرق الالماني (كارل بروكلمان) يقول: ((الحق إن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين، قد عجلت في التطور الديني لحزب علي، وجعلت من ضريح الحسين في كربلاء أقدس محجة))[25]، ويقول المستشرق الانكليزي(د.ج. هوكار): ((دلت صنوف الزوار التي ترحل الى مشهد الحسين في كربلاء والعواطف التي ما زال تؤججها في العاشر من محرم في العالم الاسلامي بأسره...كل هذه المظاهر استمرت لتدل على إنَّ الموت ينفع القديسين أكثر من حياتهم مجتمعة))[26].
ولعل الى هذا المعنى يشير الامام زين العابدين عليه السلام عندما سُئل: مَن المُنتصر؟ فأجاب عليه السلام : ((إذا أذّن المؤذن تعرف من المنتصر)) [27]، فان نهضة الامام الحسين عليه السلام كانت تهدف الى حماية الاسلام من التزييف والتحريف، فاذا تحقق ذلك فقد انتصر الحسين عليه السلام ، إذ لا هدف له وراء ذلك.
إذاً يمكن ان يكون النصر الذي تحدثت عنه الآيات الكريمة يُراد منه هذا المعنى.
ثالثا: النصر في مفهومه الانساني.
بعد أن اتضح لنا معنى النصر في الكتاب العزيز، وانه أعم من الغلبة المادية والنصر العسكري الآني، بقي أن نعرف معناه في مفهومه الانساني، وهل هو بمعنى الغلبة المادية العسكرية فقط، أو يشمل ما هو أوسع من ذلك ؟, وبتعبير آخر، هل يستعمل الناس لفظ النصر والانتصار في الانتصار العسكري فقط أو يستعملونه في شكل آخر من الانتصار ؟. فهذا ما نريد أن نتعرّف عليه الآن, فنقول:
عند مراجعة الدراسات السياسية والفكرية والثقافية لا نجد لمفهومي (النصر, والهزيمة) معنىً واضحاً، بل نجد لهما عدة معانٍ مختلفة، ويبدوا أنَّ منشأ الاختلاف في تشخيص المعنى هو اختلاف الناس أنفسهم في تفسير النصر والهزيمة، وتباين أنظارهم في ذلك، ويمكن تلخيص الآراء بما يلي:
1ـ البعض يفهم النصر فهماً عسكرياً مجرداً، فالذي يتغلّب ميدانياً على خصمه منتصر، والمغلوب منهزم، مع قطع النظر عن الجوانب الاخرى، كمقدار الخسائر المادية والمعنوية التي تعرّض لها المنتصر، أو النتائج التي حصل عليها فيما بعد المعركة، وما الى ذلك من الجوانب والحيثيات التي ترافق الحروب والصراعات، فليس المهم ذلك، وانما المهم تحقق الغلبة العسكرية.
2ـ والبعض الآخر ينظر الى نتائج المعركة، من حيث حجم الخسائر، والدمار الذي حلّ بهذا الطرف أو ذاك، فكلما كان الطرف أكثر خسائر من الآخر فهو المهزوم، والعكس هو المنتصر، فالمدار عند هؤلاء على مقدار الخسائر، وليس المدار على التغلّب العسكري.
3ـ والبعض الثالث يأخذ الجوانب السياسية للمعركة بعين الاعتبار، فليس المنتصر هو من يتغلّب عسكرياً أو يخرج بخسائر أقلّ من الآخر، وانما المنتصر هو من يحقق مكاسب سياسية على أرض الواقع، لانَّ الحرب سياسة في واقعها، فالمهم هو أن ننظر الى ما حققه هذا الطرف من مكاسب سياسية، وما حققه ذلك الطرف، وما نوعها وتأثيرها على المدى القريب والبعيد.[28]
هذه مجمل الآراء في مفهومي النصر والهزيمة، وأنت تلاحظ أنها متباينة فيما بينها ولا تكاد تتفق على شيء، ولكن يمكن من خلال الالتفات الى بعض الشواهد ان ندعم احد هذه الآراء، وهو الرأي الثالث، وفي هذا المجال نذكر شاهدين:
الشاهد الاول: بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفييتي، أطلق السياسيون والمختصون والعالم بأسره عبارة (النصر) على الولايات المتحدة، وقالوا انتصرت في هذه الحرب، مع أنها لم تكن حرباً عسكرية بين الطرفين، وانما هي حرب مشروع، وقد انتصر المشروع الامريكي على المشروع السوفييتي، وهذا يدلل على ان الملحوظ في النصر المكاسب السياسية والاستراتيجية التي تضمن للطرف الانتشار والتوسع والبقاء والديمومة.
الشاهد الثاني: وصف الكثير من القادة السياسيين الامام الحسين عليه السلام بالمنتصر، رغم خسارته العسكرية في المعركة، كما صنع ذلك الزعيم الهندي البوذي (غاندي)، حيث أطلق عبارته الشهيرة (تعلمت من الحسين أن أكون مظلوماً لانتصر) فلولم يكن الانتصار ذا مفهوم وسيع لما ساغ له اطلاقه عليه، وهكذا نجد المؤرخ الانكليزي (توماس كارليل) يُطلق هذه اللفظة ايضاً على الامام الحسين عليه السلام ، حيث يقول: ((أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء هو أنَّ الحسين وأنصاره كان لهم إيمان راسخ بالله، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أنَّ التفوق العددي لا أهمية له حين المواجهة بين الحق والباطل والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلة الفئة التي كانت معه))[29].
إذاً لفظة النصر تطلق على الطرف الذي يحقق اهدافه سواء تحقق له ذلك عسكرياً أو سياسياً.
الخلاصة: اتضح لنا من خلال ما تقدم كله أنَّ مفهوم النصر والانتصار لا يقتصر على معنى الغلبة العسكرية، بل يشمل ما هو أوسع من ذلك، ويمكن أن نختصره بكلمة هي (غلبة المشروع) فمن غلب مشروعه فهو منتصر.
ونحن بهذا قد اكملنا المحور الاول من البحث، وحققنا مفهوم النصر ببعده القرآني والانساني، وبقي أن نعرف كيف تكون المظلومية شكلاً من أشكال النصر لا سيما لو اقترنت بالعزة والاباء؟ وهذا ما سنحاول ان نبحثه في المحور الثاني.
المحور الثاني: المظلومية والانتصار.
قد لا تكون المظلومية دائماً سبباً للانتصار، لانَّ المظلوم أحياناً يساهم في صناعة الظالم، فيكون شريكه في الظلم والطغيان، وذلك عندما لا يحرّك ساكناً، ولا يبدي ردة فعلٍ تجاه ما يراه من مظاهر الظلم والاضطهاد والاعتداء والتجاوز على الحقوق الشخصية أو النوعية, فالذي يسلّم عنقه للجلّاد يساهم في قتل نفسه، ويسهّل على الجلّاد المهمة، بينما الذي يُمانع ويُدافع يصعّب على الجلّاد المهمة، ويجعله يفكّر بجد في كيفية قتله.
ومن هنا نجد القرآن الكريم عندما يتحدث عن هذا الصنف من المظلومين يصفه بالظالم، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[30]
فهذه الآيات تتحدث عن المستضعفين والمستكبرين وتصفهم بالظالمين، مع أنَّ المستضعفين مغلوب على أمرهم، وقد وقعوا تحت تأثير المستكبرين، وما ذاك إلاّ لانهم كانوا يعيشون حالة الضعف والاستسلام أمام المستكبرين.
والآيات تشير الى ظاهرة خطيرة يمكن أن تعيشها الامة، وهي عندما يتحوّل السكوت والضعف والاستسلام الى ثقافة فيما بعد, بحيث يكون الخروج عن ذلك مخالفةً صارخة للمألوف والمعروف، ويكون نشازاً، ومن هنا نجد أنَّ الحكومة الاموية سعت بشكل كبير الى تأطير هذه الحالة، حالة السكوت والاستسلام التي كانت تعيشها الامة، بأطر إسلامية من قبيل حرمة الخروج على الحاكم الجائر، وقد نجحت الى حدٍّ كبير، لولا النهضة الحسينية التي قَلَبَت كلَّ الموازين، ولهذا نجد في الاحاديث الحثَّ الاكيد على مخالفة الظالمين وتسجيل موقف الادانة والشجب، وضرورة الخروج عن صفة الاستسلام والضعف، فمن ذلك ما ورد عن النبي الاكرمصلى الله عليه وآله وسلم : ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر))[31]، والسلطان الجائر يشمل السلطان المسلم، والسلطان غير المسلم، ولنا أن نتساءل، كيف يكون ذلك من أفضل الجهاد ؟ والجواب: إنَّ ترك السلطان الجائر يعيث في الارض فساداً دون رادع لاسيما إذا كان مسلماً يشكّل خطراً كبيراً على مستقبل الاسلام، لأنه يحكم باسم الاسلام, يقتل، يضطهد، ينتهك، يشرّع، ويفعل كل شيء باسم الاسلام، والناس على دين ملوكهم، فيتحول ذلك ـ تدريجياً ـ الى جزء من الثقافة الاسلامية، وورد عن الامام الحسين عليه السلام قوله: ((أما بعد فقد علمتم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال في حياته: " من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحُرَم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغيّر بقولٍ ولا فعل، كان حقيقا على الله أن يدخله مدخله))[32]، وفي هذا الحديث يشير الامام عليه السلام الى الحقيقة التي نتحدث عنها، وهي أنَّ المظلوم الساكت يشارك الظالم في ظلمه وجوره، لأنه لم يغيّر عليه بقولٍ ولا فعل، ومن ثَمَّ يتحوّل هذا المظلوم الى ظالم، على حدِّ تعبير الآية المتقدمة.
ويمكننا ـ بعد هذا ـ أن نقول بشكل صريح: إنَّ السكوت عن جور السلطان والاستسلام له, من أعظم الفتن التي تعصف بالمجتمع الاسلامي، لأنه لا يُري الناس إلاّ ما يريد هو أن يروه، ولا يسمح لهم بالاعتقاد إلاّ وفق ما يعتقد هو, قال الله تعالى حكاية عن فرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[33]، ومن هنا جاء قوله تعالى ـ وهو يتحدث عن الغاية من الجهاد, أو إحدى غاياته ـ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}[34]، فليست الغاية قتل المفسدين بالضرورة، وانما المهم قتالهم، وعلى حدِّ تعبير أحد الباحثين: ((إنَّ الهدف الاصلي للجهاد الاسلامي ليس الانتصار على الاعداء كأشخاص بل انتصار الغايات والاهداف حتى مع بقاء أشخاص الاعداء ويتحقق ذلك بتوجيه أفكار عموم الناس ضد هؤلاء المفسدين)) [35].
إذاً الغاية قتل الفتنة والحيلولة دون ضلال الناس وانحرافهم، وليس المهم قتل رموز الفتنة وقادتها، إذ بعد القضاء على الفتنة لا يبقى لأصحابها أيَّ دور في إذكائها.
ومن خلال ما تقدم كله اتضح؛ أنَّ المظلومية المهزومة لا يمكن أن تنتصر، لأنها تعيش روح الاستسلام والضعف والذل، وهذه المظلومية ليست محلّ كلامنا وبحثنا، لأنها لو وُضعت في إحدى كفتي الصراع بين الحق والباطل لكانت في كفة الباطل ضد الحق، وفي الحديث: {الساكت عن الحق شيطان أخرس}[36].
وكلامنا في المظلومية الثورية التي لا تعرف الاستسلام، الداعية الى الانتصاف من الظالم، التي لا تتجرّع الذُل أبداً، لأنها تعيش روح الاباء والعزة والكرامة، تلك هي مظلومية الامام الحسين عليه السلام التي لطالما تغنى بها ابطال العالم واحرارهم وهم يعيشون الصراع ضد الباطل، ويخوضون الحروب ضد الاعداء، والحقيقة أنَّ الامام الحسين عليه السلام قد أسس لانتصارٍ من نوعٍ فريد لم يكن ليخطر ببال، إذ لم يكن ليُتصوّر أن ينتصر المقتول على القاتل، أو ينهزم الحاكم الظالم الطاغي على يد ثائر لا يملك من سلاح سوى هذه الكلمة: ((والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرُّ فرار العبيد)) [37], ولكي تتضح هذه القضية لابدَّ من تسليط الاضواء عليها أكثر.
المجتمع الاسلامي في عصر النهضة.
هناك حالتان بارزتان كان يعيشهما المجتمع الاسلامي في عصر النهضة الحسينية:
الحالة الاولى: الشعور بالمظلومية والاضطهاد والذل ومصادرة الحريات الشخصية والنوعية، وهذه الحالة كانت سائدة في المجتمع وعند الكثير من الشخصيات الاسلامية كبقايا الصحابة, حيث يشعرون بالاضطهاد الديني لانهم يعلمون مدى خطورة انحراف الحاكم ومدى تأثير ذلك وانعكاسه على الواقع الاسلامي.
الحالة الثانية: حالة الضعف والانهزام، وهي حالة سائدة وعامة أيضاً، ولها مبرراتها، ولعلّ من أبرزها أمرين:
1ـ قسوة الحكومة على معارضيها، وشدة بطشها بهم.
2ـ الغطاء الديني المزيّف الذي كانت تتستر به الحكومة، لتبرر جرائمها, من خلال وضع الاحاديث التي تخدم مصلحتها، كوضع أحاديثٍ تحرّم الخروج على الحاكم الاسلامي ولو كان جائراً، وبذلك تستطيع قمع المعارضين باسم الاسلام، إذ الخروج على الحاكم حرام، فيلزم على الحكومة منعه ومعاقبته لمنع الناس من ارتكاب الحرام.
والموقف مع وجود هاتين الحالتين كان يتطلب تحرّك شخصية إسلامية تتمتع بخصائص ومميزات ومؤهلات تمكنها من مواجهة هاتين الحالتين، وتغييرهما من الحالة السلبية الى الحالة الايجابية، ولم تكن هناك شخصية تمتلك هذه المؤهلات غير الامام الحسين عليه السلام ، إذ هو يتمتع بعدة مميزات منها:
أ) نسبه المبارك، فهو ابن فاطمة بنت النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، مع ما يعلمه المسلمون من سيرة النبيصلى الله عليه وآله وسلم من اهتمامه به وبأخيه الحسن عليه السلام وتربيته لهما، وحبه الكبير لهما.
ب) حب المسلمين له، وتقديرهم واحترامهم له.
ج) صحبته للرسول ومعرفته بشريعة جده.
د) نزول الآيات في فضله، وأحاديث النبي في حقه، جعلته يحتل مكانة خاصة عند عامة المسلمين. الى غيرها من المميزات والخصائص التي كان يتمتع بها.
وقد أشار الامام عليه السلام الى هذه الحقيقة، وهي امتلاكه للمؤهلات الخاصة للتغيير المطلوب، حيث قال في بعض كلماته: ((ومثلي لا يبايع مثل يزيد))[38], وقال في مناسبة أخرى: ((وأنا أحق من غيّر))[39] , وقال أيضاً: ((وإنما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )[40]، ففي هذه الكلمات يتحدث الامام عليه السلام عن مقامه السامي ومنزلته الرفيعة في المجتمع الاسلامي، وهذا يجعله أمام مسؤولية كبيرة، إذ هو الراعي الاول لشريعة جده، فيلزمه الدفاع عنها وحمايتها، وهذا الشعور الذي كان يعيشه الامام عليه السلام ((الشعور بمسؤوليته تجاه شريعة جده)) كان يشعر به المسلمون عامة، فهم جميعاً ينظرون الى الامام الحسين عليه السلام كشخصٍ يمثل بمواقفه الشريعةَ الاسلامية، وهذه الحقيقة كان يدركها الجهازُ الحاكم، فقد أوصى معاوية ولده يزيد بضرورة أخذ البيعة من الامام الحسين عليه السلام ، وقام يزيد بدوره بالتشديد على وآليه في المدينة لأخذ البيعة له من الامام الحسين عليه السلام ، كلُّ ذلك لعلمهم بموقع الامام في قلوب المسلمين.
وهذه المؤهلات وهذه الموقعية تحتم على الامام عليه السلام أن يتعامل مع الموقف من خلال قضيتين:
الاولى: سلب الغطاء الديني المزيّف الذي كان الجهاز الحاكم يتستر به لتنفيذ مشاريعه.
الثانية: تغيير المظلومية السلبية التي كان يعيشها المجتمع الى مظلومية إيجابية، وتحويلها من حالتها الانهزامية الى الحالة الثورية.
وقد اعتمد عليه السلام في التعامل مع القضية الاولى على أمرين:
1ـ إعلام الامة بالاحاديث النبوية الصحيحة الحاثّة على معارضة السلطان الجائر، والداعية الى مخالفته، فمن ذلك خطبته الشهيرة التي قال فيها: ((أمّا بعد فقد علمتم أنَّ رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم قد قال في حياته: " من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغيّر بقولٍ ولا فعل، كان حقيقا على الله أن يدخله مدخله " وقد علمتم أنَّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وإني أحقُّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ))[41]. ولم يكتفِ عليه السلام بنقل الحديث، بل طبّقه على السلطة القائمة، وكان الامام يهدف من التذكير بهذا الحديث وامثاله الى نقطتين:
· توفير الغطاء الشرعي للخروج على الحاكم الجائر، وأنَّ ذلك واجباً شرعياً.
· تكذيب ما يبثّه الجهاز الحاكم من أحادث موضوعة تحرّم الخروج عليه.
2ـ خروجه عليه السلام بنفسه على السلطة الجائرة، ومعارضته لها بشكل علني، وهو أقوى برهان، وأدل دليل على مشروعية الخروج على الحاكم الجائر، إذا لم يكن أمراً واجباً.
وبما أنَّ الامام عليه السلام كان يتمتع بمميزات ومؤهلات تقدم الحديث عنها، صار خروجه أمراً مشروعاً عند عامة الناس بما لا يدع مجالاً للشك، فاستطاع بذلك أن يسلب من الحاكم غطاءه الديني المزيّف الذي كان يتستر به لمنع الناس من الخروج عليه.
والقضاء على هذه الحالة لا يكفي بكل تأكيد لتحقيق الغاية، إذ الاعتقاد بمشروعية الخروج أو وجوبه لا يكفي لدفع الفساد والانحراف ما لم يتبعه خروج عملي، والخروج العملي يحتاج الى تحرير الانفس من الشعور بالضعف والاستسلام والخضوع.
ولهذا فقد اعتمد الامام الحسين عليه السلام في التغلّب على الحالة الثانية على المثيرات العاطفية، والمنبهات الوجدانية، وهذا الأمر يحتاج الى حشدٍ عاطفيٍّ كبير، وملحمة مأساوية عظيمة، تشدّ الناس اليها بقوّة، وتهزّهم من أعماقهم، وتحرّك ضمائرهم نحوها.
وهذا ما صنعه الامام الحسين عليه السلام بالفعل في نهضته المباركة، حيث صنع ملحمةً مأساوية دامية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، راح ضحيتها ريحانة المصطفىصلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، في أبشع صورة، وأسوأ منظر، مع تعرّض الاسرة النبوية الكريمة للأسر والتنكيل والاحتقار.
وبهذا نستطيع أن نجيب على الكثير من الاسئلة التي طُرحت وما تزال تُتناقل، من قبيل، لماذا أصطحب الامام عليه السلام معه العائلة الكريمة، وتعريضهم للأسر والسبا ؟, ولماذا لم يحشّد الامام جيشاً كبيراً لمواجهة الحاكم، حيث كان بإمكانه الاتصال بالعديد من شيعته المنتشرين في شرق البلاد وغربها؟, ولماذا لم يغيّر مقصده بعد أن عَلِمَ بمقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وتغيّر الاوضاع في الكوفة ؟, الى غيرها من الاسئلة التي تدور حول هذه الملابسات، والجواب عن جميع هذه الاسئلة وما كان من قبيلها قد اتضح من خلال هذه النقطة، فالأمام الحسين عليه السلام لم يكن يسعى للانتصار العسكري الآني، فلعلّ ذلك يضرّه ولا ينفعه, لانَّ الهدف هو تفهيم الرأي العام حقيقة الأمر، ليميّز بين الحق والباطل، بين الحق الذي يدعو له الامام الحسين عليه السلام والباطل الذي يدعو له الجهاز الحاكم، واذا أردنا استيضاح الأمر أكثر، نطرح هذا السؤال:
لو انتصر الامام الحسين عليه السلام عسكرياً وقتل أعداءه واستلم مقاليد الخلافة، فما هو موقف المجتمع الاسلامي من هذا التغيير والانتصار؟ هل سيكون المجتمع بأكمله مقتنعاً تماماً بأحقية الحسين عليه السلام من يزيد؟, وهل هو مقتنع تماماً بشرعيّة الانتصار والانقلاب الذي حدث؟, وهل هو مقتنع تماماً بظلم بني امية وتحريفهم للدين وزيفهم ؟ وهل سيسلم الامام عليه السلام من الحركات المناهضة لحكومته؟
الجواب: كلا، لأن انكشاف الحقيقة بشكلها الكامل لم يتحقق بعدُ، ومعه ستبقى فئة من الناس لا تعتقد بشرعية الحكم القائم، وسيبقى الحاكم المهزوم أو المقتول يجد من يتعاطف معه طالما هناك ضبابية في الرؤية، وعدم وضوح في الحقيقة.
بينما بعد استشهاد الامام الحسين عليه السلام واهل بيته وأصحابه في تلك المجزرة الرهيبة التي اعترف بقسوتها وبشاعتها كلُّ البشر من مسلمين وغيرهم، لم يبقَ مجالٌ للشك والريب في بطلان الجهاز الحاكم وعدم مشروعيته، وأقتنع المجتمع بأسره بحقّانيّة خروج الحسين عليه السلام وحقّانيّة أهدافه، والدليل على ذلك الثورات التي حدثت بعد نهضة الحسين عليه السلام بفترة قصيرة جداً، حيث ثار أهل المدينة على الجهاز الحاكم، وهم يمثلون ـ وقتئذ ـ الثلة الباقية من الصحابة من البدريين وغيرهم، وثار ابن الزبير بمن معه من أهل مكة، والملاحظ أنَّ هاتين الثورتين لا تمثلان الخط الشيعي، وهذا يؤكد نجاح النهضة الحسينية، وقد روى الطبري في تأريخه أنَّ مصعب بن الزبير لمّا خذله أهل الكوفة وحُوصر من قبل جيش الشام التفت الى رجلٍ من أصحابه يُدعى عروة وقال له: أخبرني عن الحسين بن علي، كيف صنع بإبائه النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب ؟ فأخبره.
فأنشد يقول:
وإنَّ الاولى بالطف من آل هاشمٍ تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
يقول الراوي: فعلمت أنه لا يَريمُ حتى يُقتل.[42]
حيث تأثّر بها من لا ينتمي لخط أهل البيت، بل تأثر بها حتى غير المسلمين، قال المفكر المسيحي(إنطوان بارا) في كتابه القيّم (الحسين في الفكر المسيحي) في هذا الصدد: ((وليس أدلّ على ما لسحر شهادة الحسين عليه السلام من قوّة جذب للشعور الانساني في حادثة رسول قيصر إلى يزيد حينما أخذ هذا ينكث ثغر الحسين الطاهر بالقضيب على مرأى منه، فما كان منه إلاّ أن قال له، مستعظماً فعلته: إنَّ عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى، ونحن نحج اليه في كل عام من الاقطار، ونهدي اليه النذور ونعظّمه كما تعظمون كتبكم، فأشهد أنكم على باطل)).[43]
العلاقة بين المظلومية والعاطفة.
يبقى أن نعرف سرَّ التعاطف مع المظلوم الذي يطالب بحقه ولا يُعطى، بل يُمنع، ويُدفع، ويُقتل.
ولعلَّ السرّ في ذلك يعود الى الفطرة، فإنها تقتضي الميل النفسي اليه، والتعاطف مع قضيته، فإننا نشعر بالوجدان وفي أعماقنا بالتعاطف معه، ولكنَّ التعاطف يكون أشدّ فيما لو كان المظلوم لا يطالب بحقه الشخصي، وإنما يطالب بحقوق الامة، ويدافع عن مقدساتها، بل يدافع عن أثمن شيء لديها وهو كرامتها وعزتها.
إنَّ هذه هي النقطة المهمة، أي عندما تشعر الامة أنَّ القتيل إنما قُتل لدفاعه عن كرامتها المسلوبة، وحقها الضائع، عندما تشعر أنَّ هذا القتيل قد عُرضت عليه الدنيا بأسرها مقابل سكوته عن كرامة الامة، لكنه رفض المساومة، ورفض الامتيازات، ورفض حياة الذل: ((إني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما))[44]، إنَّ هذه المظلومية من شأنها أن تزيد من مشاعر الحقد والكراهية تجاه الظالم، كما أنَّ اعتزاز المظلوم بموقفه وإبائه عن التنازل من شأنه أن يبعث بمشاعر الحب والاحترام لشخصه في قلوب الناس ومن ثَمَّ التأسّي به والاقتداء بموقفه، وقد جُبلِت القلوب على حبِّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.
والخلاصة: أنَّ المظلومية يمكنها أن تنتصر في صراعها مع الظالم، شريطة أن تتصف بالمظلومية الايجابية التي ترفض أشكال الذل والظلم والاضطهاد، كما حدث ذلك في النهضة الحسينية، وأمّا المظلومية السلبية فلا يمكنها أن تنتصر، لأنها لا تعيش صراعاً مع الظالم, بل تعيش معه حالة الذل, والاستسلام, والانقياد لإرادته.
يتبع
تعليق