الامام الهادي والقرآن
إنّ للإمام الهادي عليه السلام رسالة في الردّ على الجبر والتفويض ، وإثبات المنزلة بين المنزلتين ، فقد استعان في إبطال المذهبين الذين كان يدين بهما أهل الحديث ، والمعتزلة بكثير من الآيات على شكل بديع ، ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من إحاطته بالآيات ونضدها بشكل يوصل الجميع إلى الغاية المطلوبة ، نقتبس منها ما يلي :
فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ ، فهو قول من زعم أنّ الله ـ جلّ وعزّ ـ أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول ، فقد ظلم الله في حكمه وكذّبه ورّد عليه قوله : {... وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] وقوله : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] .
فمن دان بالجبر ، أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظلم الله ونسبه إلى الجور والعدوان ، إذ أوجب على من أجبره العقوبة ، ومن زعم أنّ الله أجبر العباد ، فقد أوجب على قياس قوله : إنّ الله يدفع عنهم العقوبة ( أي لازم القول بالجبر أنّ الله لا يعذّب العصاة ، لأنّه دفعهم إلى المعاصي ) ، ومن زعم أنّ الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذب الله في وعيده ، حيث يقول : {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 81] .
وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الفن ممّن كذب وعيد الله ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله ، الكفر ، وهو ممّن قال الله [ في حقّه ] : {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] .
بل نقول إنّ الله عزّوجلّ يجازي العباد على أعمالهم ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملّكهم إيّاها ، فأمرهم ونهاهم بذلك ونطق كتابه : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160]. وقال جلّ ذكره : {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 30] وقال : {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17] فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ، ومثلها في القرآن كثير. ثمّ شرع في إبطال التفويض وأبان خطأ من دان به وتقلده.
ولنقتصر على هذا المقدار ، وفيه كفاية ، وما جاء في هذه الرواية من التفسير نمط بديع ، وهو ما نسمّيه اليوم بالتفسير الموضوعي ، وقد أتى الإمام عليه السلام في رسالته بأكثر الآيات التي ربّما تقع ذريعة للمجبّرة والمفوّضة ، وأبان تفسيرهما بإرجاع المتشابهات إلى المحكمات ، كما أثبت أنّ الحقيقة هو المنزلة بين الجبر والتفويض ، فمن أراد التوسّع فليرجع إلى نفس الرسالة التي نقلها الحسن بن شعبة الحرّاني في كتابه.
✍️آية الله جعفر السبحاني
📕مفاهيم القرآن : ج10 ، ص 344- 347 .
#القرآن_ربيع_القلوب