بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
مجموعة من فقهائنا ومتكلّمينا يقولون: النفس في البدن وليست خارج البدن، نحن لا علاقة لنا بالروح، الروح شيء والنفس شيء آخر، الروح التي يتحدّث عنها القرآن ليس لها علاقة بالإنسان، الروح التي يتحدّث عنها القرآن إما مخلوق أعظم من الملائكة كما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ﴾، أو هي ملك من الملائكة، كما يقول القرآن: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾، أو هي أمر يؤيّد الأنبياء والمؤمنين، كما يقول القرآن: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾، هذه هي الروح، الروح كما ذكرنا في المحور الأول وجود ينفخ الحياة، يهب الحياة، هذا ما تحدّث عنه القرآن وعبّر عنه بالروح.
بينما الإنسان ما عبّر عنه القرآن بالروح، عبّر عنه القرآن بالنفس، فالروح شيء في القرآن والنفس شيء آخر، وقسّم القرآن النفس الإنسانية إلى ثلاثة أقسام: أمّارة، لوّامة، مطمئنة، النفس الأمّارة هي القوة الشهوية، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، هذه القوة الشهوية التي تلحّ علينا أن نشبعها هي النفس الأمّارة، وأما النفس اللوامة فهي الضمير الذي يؤنبك ويشجعك، أنت عندما تخطئ تقول: يؤنبني ضميري، يعني عندك قوة في الداخل تؤنبك على الرذيلة وتحثك على الفضيلة، ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾، والقسم الأخير هو العقل، العقل يعبّر عنه القرآن بالنفس المطمئنة، ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾، فالنفس الإنسانية تنقسم إلى ثلاثة أقسام، هل هي جوهر مجرّد كما يقول الفلاسفة، أم هي في البدن كما يقول هؤلاء الفقهاء؟ يقولون: هي في البدن، لأنّ ظاهر النصوص قرآنًا وسنةً أنَّ النفس في البدن، أقرأ لك بعض النصوص:
النص الأول: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾، ما الذي بلغ التراقي؟ العرف يفهم النفس، يعني النفس شعاع، وقت الاحتضار، وقت الموت يصعد بشكل تدريجي إلى أن يصل إلى منطقة الترقوة، هذه منطقة الترقوة أعلى المنحر، أعلى البلعوم، إذا وصلت النفس إلى هذه المرحلة بلغت التراقي يتساءل الملائكة: وقيل من راق؟ هذا سؤال، الملائكة يقولون: من الذي يلقى؟ من هذا الذي يلقى؟ مؤمن؟ فاسق؟ صالح؟ طالح؟ سعيد؟ شقي؟ الملائكة تسأل: من راق؟ وظن أنه الفراق، إذا وصلت النفس إلى الترقوة انقطع النفَس يعتقد الإنسان بأنه حان وقت الفراق، إذن النفس شيء مادي، شيء يخرج من البدن، ﴿إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾، اليوم المساق ليس للعمل، ليس للوظيفة، اليوم إلى مكان آخر، كل يوم أنت تصعد السيارة وتذهب إلى العمل، تذهب إلى الدراسة، تذهب إلى لقاء الأصدقاء، اليوم المساق إلى السماء، ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ اليوم تساق إلى منطقة أخرى.
النص الثاني: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ﴾، ما الذي يبلغ الحلقوم؟ معناه أنّ النفس داخل البدن، تصعد وتصعد حتى تبلغ الحلقوم، ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ﴾، أنت عندك إنسان محتضر، إنسان يحتضر وأنتم حوله، ترون حالة احتضار وترونه يؤن ويحن، ﴿وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾، ملائكتنا أقرب منكم، أنتم حوله، تقولون: أسعفوه، فليرجع قلبه إلى النبضة مرة أخرى، فلنحاول إرجاعه إلى الحياة مرة أخرى، لكن الملائكة المحيطة به تنظر شيئًا آخر، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أرجع الروح إذا كنت تستطيع! ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيم﴾ مباشرة بعد الموت ينزل في الحميم، ﴿فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾. إذن، النفس ليست جوهرًا مجرّدًا عن البدن، بل هي حالة في البدن، وتخرج منه.
مسألة أنّ المادي لا يقبل الانقسام هذا أول الكلام، هذه القاعدة غير ثابتة، الطاقة التي تتحول إلى مادة لا تنقبل الانقسام، ليس كل مادي يقبل الانقسام، إذن النفس وجود حالٌّ في البدن، ويخرج من البدن كما عبّرت عنه الآيات المباركات. تعال إلى الروايات الشريفة: ”إذا عرجت روح المؤمن“ النفس خرجت من البدن، عرجت، ”تهشّ إليها أرواح المؤمنين، فيأتيها النداء: دعوها تستريح؛ فإنها أقبلت من هول عظيم“، لحظة الموت لحظة هول، أنت تنتقل من الدنيا إلى الآخرة، هذه اللحظة لحظة الانتقال هول عظيم، أنت الآن في الدنيا ترى بيتًا وترى أناسًا وترى أهلك وترى عشيرتك وترى زوجتك وترى أولادك، فجأة وإذا أنت ترى عالمًا آخر، أشباحًا وأرواحًا وملائكة وجنًا ومليارات من من الأجسام والأرواح والأشكال، ما تبصرون وما لا تبصرون، هذا الانتقال السريع هول عظيم، يعبّر عنه القرآن الكريم، يعبّر عن هذه الحالة حالة الهول العظيم، حالة لحظة الموت، يقول: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾، كنت تريد أن تبتعد عن الموت، إذا ذكّرك شخص بالموت يقول لك: رجاء لا تذكرني، دعنا مرتاحين! ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾، أنت الآن تعيش حالة هول، كيف تعيش حالة هول؟
الإمام الحسن الزكي وهو إمام معصوم، يبكي وقت الموت، يقال: ما يبكيك يا أبا محمد وأنت سيّد شباب أهل الجنّة؟ يقول: ”أبكي لأمرين: فراق الأحبة، وهول المطلع“، الموت هول، هذا الموت الذي يبكي الحسن يبكي زين العابدين، ”وما لي لا أبكي“، إمام يقول: وما لي لا أبكي؟! ”وما لي لا أبكي ولا أدري إلى أين مصيري، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، وما لي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي“، هذه الحالة تبكي الإنسان، ومما يهوّن على الإنسان المؤمن أنّه يرى حين موته وجهين مضيئين مشرقين مشعين: محمدًا وعليًا، يراهما بعينه أثناء الاحتضار.