بـسـم الله الـرحـمـٰن الـرحـيـم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ 1
ظاهرة الكفر و النفاق، تنشأ أحيانا عن عدم فهم محتوى النّبوة و معجزة الرّسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم. و الآيات التي نحن بصددها تعالج هذه المسألة، و تركز على المعجزة القرآنية الخالدة كي تزيل كل شك و ترديد في رسالة نبي الإسلام صلّى اللّه عليه و اله و سلّم. تقول الآية:﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ... ﴾ 2 3.
و يصبح المعنى حينئذ: لو كنتم في شك من الوحي فأتوا بشخص أمّي مثل محمّد يستطيع أن يأتي بمثل هذا القرآن. لكن هذا الاحتمال بعيد، إذ ورد في موضوع آخر: ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ... ﴾ 4، و في موضع آخر أيضا ﴿ ... فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... ﴾ 5، و هذه دلالة على أن الضمير في (مثله) يعود على القرآن.
و بهذا الشكل تحدى القرآن كل المنكرين أن يأتوا بسورة من مثله، كي يكون عجزهم دليلا واضحا على أصالة هذا الوحي السماوي و على الجانب الإلهي للرسالة و الدعوة.
و لأجل أن يؤكد هذا التحدي دعاهم أن لا يقوموا بهذا العمل منفردين، بل ﴿ ... وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 2.
كلمة «شهداء» تشير إلى الفئة التي كانت تساعدهم في رفض رسالة النّبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، و عبارة مِنْ دُونِ اللَّهِ إشارة إلى عجز جميع البشر عن الإتيان بسورة قرآنية و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، و إلى قدرة اللّه وحده على ذلك.
و عبارة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ تستهدف حثّهم على قبول هذا التحدي، و مفهومها: لو عجزتم عن هذا العمل فذلك دليل كذبكم، فانهضوا إذن لإثبات ادعائكم.
طبيعة التحدي تقتضي أن يكون صارخا إلى أبعد حدّ ممكن، و أن يكون محفّزا للعدو مهما أمكن، و بعبارة اخرى أن يثير الحميّة فيه، كي يجنّد كل طاقاته لعملية المجابهة، حتى إذا فشل و أيقن بعجزه علم أنه أمام ظاهرة إلهية لا بشرية.
من هنا فسياق الآيات التالية، يركز على عنصر الإثارة و يقول: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ... ﴾ 6 و هذه النار ليست حديث مستقبل، بل هي واقع قائم: ﴿ ... أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ 6.
جمع من المفسرين قالوا: إن المقصود بالحجارة: الأصنام الحجرية، و استشهدوا لذلك بالآية الكريمة: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ... ﴾ 7.
جمع آخر قالوا: (الحجارة) إشارة إلى صخور معدنية كبريتية تفوق حرارتها حرارة الصخور الأخرى.
و هناك من المفسرين من يعتقد أن المقصود من هذا التعبير، إلفات النظر إلى شدة حرارة جهنم، أي إن حرارة جهنّم و حريقها يبلغ درجة تشتعل فيها الصخور و الأجساد كما يشتعل الوقود.
و يبدو من ظاهر الآيات المذكورة، أن نار جهنم تستعر من داخل النّاس و الحجارة. و لا يصعب فهم هذه المسألة لو علمنا أن العلم الحديث أثبت أن كل أجسام العالم تنطوي في أعماقها على نار عظيمة (أو بعبارة اخرى على طاقة قابلة للتبديل إلى نار)، و لا يلزم أن نتصور نار جهنم شبيهة بالنار المشهودة في هذا العالم.
في موضع آخر يقول تعالى: ﴿ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴾ 8.
خلافا لنيران هذا العالم التي تنفذ من الخارج إلى الداخل.
لماذا يحتاج الأنبياء إلى المعجزة؟
نعلم أن منصب النّبوة أعظم منصب منحه اللّه لخاصة أوليائه. فكل المناصب عادة تمنح صاحبها القدرة للحكم على أبدان الأفراد، إلّا منصب النّبوة، فالنّبي يحكم على الأجسام و القلوب في مجتمعه. من هنا كان مقام النّبوة لا يبلغه مقام في سموّه، و من هنا أيضا كان أدعياء النبوّات الكاذبة أحطّ النّاس و أشدّهم انحرافا.
و النّاس هنا أمام أمرين: إمّا أن يؤمنوا بدعوات النّبوة جميعا، أو يرفضوها جميعا، لو قبلوها جملة لتحولت ساحة الأديان إلى فوضى و هرج و مرج. و لو رفضوها جملة لكان عاقبة ذلك الضلال و الضياع.
فالدليل على مبدأ البعثة ذاته يفرض إذن أن يكون الأنبياء الصادقين مجهزين بالدليل على نبوتهم كي يتميز الصادقون من الكاذبين. أي أن يكونوا مجهزين بالمعجزة الدالة على صدق ادعائهم.
و «المعجزة»- كما هو واضح من لفظها- عمل خارق يأتي به النّبي و يعجز عن الإتيان به الآخرون.
على النّبي صاحب المعجزة أن يتحدى النّاس بمعجزته، و أن يعلن لهم أن معجزته دليل على صدق دعواه.
القرآن معجزة نبي الإسلام الخالدة
القرآن كتاب يسمو على أفكار البشر، و لم يستطع أحد حتى اليوم أن يأتي بمثله، و هو معجزة سماوية كبرى.
هذا الكتاب الكريم يعتبر- بين معاجز النّبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم- أقوى سند حيّ على نبوة الرّسول الخاتم، لأنه معجزة «ناطقة» و «خالدة» و «عالمية» و «معنوية».
أمّا أنّه معجزة «ناطقة» فإنّ معاجز الأنبياء السابقين لم تكن كذلك، أي أنها كانت بحاجة إلى وجود النّبي لكي يتحدث للناس عن معجزته و يتحداهم بها، و معاجز النّبي الخاتم- عدا القرآن- هي من هذا اللون. أما القرآن فمعجزة ناطقة.
لا يحتاج إلى تعريف، يدعو لنفسه بنفسه، يتحدى بنفسه المعارضين و يدينهم و يخرج منتصرا من ساحة التحدي. و هو يتحدى اليوم جميع البشر كما كان يتحداهم في عصر الرسالة. إنه دين و معجزة، إنه قانون، و وثيقة تثبت الهية القانون.
أما الخلود و العالمية: فإنّ القرآن حطم سدود «الزمان و المكان» و تعالى عليهما، لأن معاجز الأنبياء السابقين- و حتى معاجز النّبي الخاتم غير القرآن- مسجلة على شريط معين من الزمان، و واقعة في مساحة معينة من المكان، و أمام جمع معدود من النّاس، مثل معاجز عيسى عليه السّلام كحديثه في المهد و إحيائه الموتى.
و واضح أن الأحداث المقيّدة بزمان و مكان معينين تمسي صورتها باهتة كلما ابتعدنا عن ظروفها الزمانية و المكانية. و هذا من خصائص الأمور الزمنية.
لكن القرآن لا يرتبط بالزمان و المكان، فهو يطلع علينا اليوم كما طلع على عرب الجاهلية قبل قرون، بل إن مرور الزمن زاد البشرية قدرة في العلم و الإمكانات لتستفيد منه أكثر من ذي قبل، و ما لا يرتبط بزمان أو مكان فانه يحوي عناصر الدوام و الخلود وسعة دائرته العالمية، و بديهي أن الدين العالمي الخالد بحاجة إلى مثل هذه الوثيقة العالمية الخالدة.
أمّا الصّفة «المعنوية» للقرآن فنفهمها حين ننظر إلى معاجز الأنبياء السابقين، و نرى أنها كانت غالبا «جسمية» مثل: شفاء الأمراض الجسمية المستعصية، و تحدث الطفل في المهد ... و كانت تتجه نحو تسخير الأعضاء البدنية. أما القرآن، فيسخر القلوب و النفوس، و يبعث فيها الإعجاب و الإكبار. إنه يتعامل مع الأرواح و الأفكار و العقول البشرية، و واضح امتياز مثل هذه المعجزة على المعاجز الجسمية.
هل تحدّى القرآن؟
القرآن تحدى البشرية في مواضع عديدة من سوره، منها:
1- ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ 9.
2- ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ... ﴾ 10.
3- ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 5.
4- الآية الثالثة و العشرون من سورة البقرة التي يدور حولها بحثنا.
القرآن تحدى بصراحة و قوة في هذه الآيات جميع البشرية، و في هذه الصراحة و القوّة دلالة حيّة على حقّانيته. و لم يكتف في تحدّيه بدعوة النّاس إلى أن يأتوا بمثله، بل حفّزهم و شجعهم على ذلك، و عبارات التحفيز نجدها في قوله تعالى:
﴿ ... إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 11 ﴿ ... فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ... ﴾ 11 ﴿ ... قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... ﴾ 5 ﴿ ... وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... ﴾ 5 ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ... ﴾ 9 ﴿ ... لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ... ﴾ 9 ﴿ ... فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ... ﴾ 6 ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ... ﴾ 6
هذا التحفيز و الحثّ و الإثارة لم يصدر ضمن إطار معركة أدبية أو عقائدية، بل في إطار معركة «سياسية» «اقتصادية» «اجتماعية»، ضمن إطار معركة حياة أو موت، يرتبط بمصيرها وجود هذا الكيان الجديد. و عجز المعارضين أمام هذا التحدّي الحياتي الصارخ، يبيّن بشكل أوضح أبعاد المعجزة القرآنية.
جدير بالذّكر أن تحدي القرآن لا ينحصر بزمان أو مكان، بل إن هذا التحدّي قائم حتى يومنا هذا.
المصادر
1. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 23 و 24، الصفحة: 4.
2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 23، الصفحة: 4.
3. ذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في (مثله) يعود على النّبي كما يعود الضمير في (عبدنا) عليه أيضا.
4. القران الكريم: سورة الطور (52)، الآية: 34، الصفحة: 525.
5. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 38، الصفحة: 213.
6 القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 24، الصفحة: 4.
7. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 98، الصفحة: 330.
8. القران الكريم: سورة الهمزة (104)، الآية: 6 و 7، الصفحة: 601.
9. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 88، الصفحة: 291.
10. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 13 و 14، الصفحة: 223.
11. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 13، الصفحة: 223.
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ 1
ظاهرة الكفر و النفاق، تنشأ أحيانا عن عدم فهم محتوى النّبوة و معجزة الرّسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم. و الآيات التي نحن بصددها تعالج هذه المسألة، و تركز على المعجزة القرآنية الخالدة كي تزيل كل شك و ترديد في رسالة نبي الإسلام صلّى اللّه عليه و اله و سلّم. تقول الآية:﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ... ﴾ 2 3.
و يصبح المعنى حينئذ: لو كنتم في شك من الوحي فأتوا بشخص أمّي مثل محمّد يستطيع أن يأتي بمثل هذا القرآن. لكن هذا الاحتمال بعيد، إذ ورد في موضوع آخر: ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ... ﴾ 4، و في موضع آخر أيضا ﴿ ... فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... ﴾ 5، و هذه دلالة على أن الضمير في (مثله) يعود على القرآن.
و بهذا الشكل تحدى القرآن كل المنكرين أن يأتوا بسورة من مثله، كي يكون عجزهم دليلا واضحا على أصالة هذا الوحي السماوي و على الجانب الإلهي للرسالة و الدعوة.
و لأجل أن يؤكد هذا التحدي دعاهم أن لا يقوموا بهذا العمل منفردين، بل ﴿ ... وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 2.
كلمة «شهداء» تشير إلى الفئة التي كانت تساعدهم في رفض رسالة النّبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، و عبارة مِنْ دُونِ اللَّهِ إشارة إلى عجز جميع البشر عن الإتيان بسورة قرآنية و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، و إلى قدرة اللّه وحده على ذلك.
و عبارة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ تستهدف حثّهم على قبول هذا التحدي، و مفهومها: لو عجزتم عن هذا العمل فذلك دليل كذبكم، فانهضوا إذن لإثبات ادعائكم.
طبيعة التحدي تقتضي أن يكون صارخا إلى أبعد حدّ ممكن، و أن يكون محفّزا للعدو مهما أمكن، و بعبارة اخرى أن يثير الحميّة فيه، كي يجنّد كل طاقاته لعملية المجابهة، حتى إذا فشل و أيقن بعجزه علم أنه أمام ظاهرة إلهية لا بشرية.
من هنا فسياق الآيات التالية، يركز على عنصر الإثارة و يقول: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ... ﴾ 6 و هذه النار ليست حديث مستقبل، بل هي واقع قائم: ﴿ ... أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ 6.
جمع من المفسرين قالوا: إن المقصود بالحجارة: الأصنام الحجرية، و استشهدوا لذلك بالآية الكريمة: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ... ﴾ 7.
جمع آخر قالوا: (الحجارة) إشارة إلى صخور معدنية كبريتية تفوق حرارتها حرارة الصخور الأخرى.
و هناك من المفسرين من يعتقد أن المقصود من هذا التعبير، إلفات النظر إلى شدة حرارة جهنم، أي إن حرارة جهنّم و حريقها يبلغ درجة تشتعل فيها الصخور و الأجساد كما يشتعل الوقود.
و يبدو من ظاهر الآيات المذكورة، أن نار جهنم تستعر من داخل النّاس و الحجارة. و لا يصعب فهم هذه المسألة لو علمنا أن العلم الحديث أثبت أن كل أجسام العالم تنطوي في أعماقها على نار عظيمة (أو بعبارة اخرى على طاقة قابلة للتبديل إلى نار)، و لا يلزم أن نتصور نار جهنم شبيهة بالنار المشهودة في هذا العالم.
في موضع آخر يقول تعالى: ﴿ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴾ 8.
خلافا لنيران هذا العالم التي تنفذ من الخارج إلى الداخل.
لماذا يحتاج الأنبياء إلى المعجزة؟
نعلم أن منصب النّبوة أعظم منصب منحه اللّه لخاصة أوليائه. فكل المناصب عادة تمنح صاحبها القدرة للحكم على أبدان الأفراد، إلّا منصب النّبوة، فالنّبي يحكم على الأجسام و القلوب في مجتمعه. من هنا كان مقام النّبوة لا يبلغه مقام في سموّه، و من هنا أيضا كان أدعياء النبوّات الكاذبة أحطّ النّاس و أشدّهم انحرافا.
و النّاس هنا أمام أمرين: إمّا أن يؤمنوا بدعوات النّبوة جميعا، أو يرفضوها جميعا، لو قبلوها جملة لتحولت ساحة الأديان إلى فوضى و هرج و مرج. و لو رفضوها جملة لكان عاقبة ذلك الضلال و الضياع.
فالدليل على مبدأ البعثة ذاته يفرض إذن أن يكون الأنبياء الصادقين مجهزين بالدليل على نبوتهم كي يتميز الصادقون من الكاذبين. أي أن يكونوا مجهزين بالمعجزة الدالة على صدق ادعائهم.
و «المعجزة»- كما هو واضح من لفظها- عمل خارق يأتي به النّبي و يعجز عن الإتيان به الآخرون.
على النّبي صاحب المعجزة أن يتحدى النّاس بمعجزته، و أن يعلن لهم أن معجزته دليل على صدق دعواه.
القرآن معجزة نبي الإسلام الخالدة
القرآن كتاب يسمو على أفكار البشر، و لم يستطع أحد حتى اليوم أن يأتي بمثله، و هو معجزة سماوية كبرى.
هذا الكتاب الكريم يعتبر- بين معاجز النّبي صلّى اللّه عليه و اله و سلّم- أقوى سند حيّ على نبوة الرّسول الخاتم، لأنه معجزة «ناطقة» و «خالدة» و «عالمية» و «معنوية».
أمّا أنّه معجزة «ناطقة» فإنّ معاجز الأنبياء السابقين لم تكن كذلك، أي أنها كانت بحاجة إلى وجود النّبي لكي يتحدث للناس عن معجزته و يتحداهم بها، و معاجز النّبي الخاتم- عدا القرآن- هي من هذا اللون. أما القرآن فمعجزة ناطقة.
لا يحتاج إلى تعريف، يدعو لنفسه بنفسه، يتحدى بنفسه المعارضين و يدينهم و يخرج منتصرا من ساحة التحدي. و هو يتحدى اليوم جميع البشر كما كان يتحداهم في عصر الرسالة. إنه دين و معجزة، إنه قانون، و وثيقة تثبت الهية القانون.
أما الخلود و العالمية: فإنّ القرآن حطم سدود «الزمان و المكان» و تعالى عليهما، لأن معاجز الأنبياء السابقين- و حتى معاجز النّبي الخاتم غير القرآن- مسجلة على شريط معين من الزمان، و واقعة في مساحة معينة من المكان، و أمام جمع معدود من النّاس، مثل معاجز عيسى عليه السّلام كحديثه في المهد و إحيائه الموتى.
و واضح أن الأحداث المقيّدة بزمان و مكان معينين تمسي صورتها باهتة كلما ابتعدنا عن ظروفها الزمانية و المكانية. و هذا من خصائص الأمور الزمنية.
لكن القرآن لا يرتبط بالزمان و المكان، فهو يطلع علينا اليوم كما طلع على عرب الجاهلية قبل قرون، بل إن مرور الزمن زاد البشرية قدرة في العلم و الإمكانات لتستفيد منه أكثر من ذي قبل، و ما لا يرتبط بزمان أو مكان فانه يحوي عناصر الدوام و الخلود وسعة دائرته العالمية، و بديهي أن الدين العالمي الخالد بحاجة إلى مثل هذه الوثيقة العالمية الخالدة.
أمّا الصّفة «المعنوية» للقرآن فنفهمها حين ننظر إلى معاجز الأنبياء السابقين، و نرى أنها كانت غالبا «جسمية» مثل: شفاء الأمراض الجسمية المستعصية، و تحدث الطفل في المهد ... و كانت تتجه نحو تسخير الأعضاء البدنية. أما القرآن، فيسخر القلوب و النفوس، و يبعث فيها الإعجاب و الإكبار. إنه يتعامل مع الأرواح و الأفكار و العقول البشرية، و واضح امتياز مثل هذه المعجزة على المعاجز الجسمية.
هل تحدّى القرآن؟
القرآن تحدى البشرية في مواضع عديدة من سوره، منها:
1- ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ 9.
2- ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ... ﴾ 10.
3- ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 5.
4- الآية الثالثة و العشرون من سورة البقرة التي يدور حولها بحثنا.
القرآن تحدى بصراحة و قوة في هذه الآيات جميع البشرية، و في هذه الصراحة و القوّة دلالة حيّة على حقّانيته. و لم يكتف في تحدّيه بدعوة النّاس إلى أن يأتوا بمثله، بل حفّزهم و شجعهم على ذلك، و عبارات التحفيز نجدها في قوله تعالى:
﴿ ... إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 11 ﴿ ... فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ... ﴾ 11 ﴿ ... قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... ﴾ 5 ﴿ ... وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... ﴾ 5 ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ... ﴾ 9 ﴿ ... لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ... ﴾ 9 ﴿ ... فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ... ﴾ 6 ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ... ﴾ 6
هذا التحفيز و الحثّ و الإثارة لم يصدر ضمن إطار معركة أدبية أو عقائدية، بل في إطار معركة «سياسية» «اقتصادية» «اجتماعية»، ضمن إطار معركة حياة أو موت، يرتبط بمصيرها وجود هذا الكيان الجديد. و عجز المعارضين أمام هذا التحدّي الحياتي الصارخ، يبيّن بشكل أوضح أبعاد المعجزة القرآنية.
جدير بالذّكر أن تحدي القرآن لا ينحصر بزمان أو مكان، بل إن هذا التحدّي قائم حتى يومنا هذا.
المصادر
1. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 23 و 24، الصفحة: 4.
2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 23، الصفحة: 4.
3. ذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في (مثله) يعود على النّبي كما يعود الضمير في (عبدنا) عليه أيضا.
4. القران الكريم: سورة الطور (52)، الآية: 34، الصفحة: 525.
5. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 38، الصفحة: 213.
6 القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 24، الصفحة: 4.
7. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 98، الصفحة: 330.
8. القران الكريم: سورة الهمزة (104)، الآية: 6 و 7، الصفحة: 601.
9. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 88، الصفحة: 291.
10. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 13 و 14، الصفحة: 223.
11. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 13، الصفحة: 223.
تعليق