بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
تحدّث القرآن الكريم عن يوم القيامة وأحداثه بطريقةٍ تُشعرك أنك رأيته وعاينته قبل وقوعه. كما اهتمّ بنقل أدقّ تفاصيل ذلك اليوم وحال الناس فيه؛ ليشعر الإنسان بوقعه وعظمته؛ فيستعدَّ له أتمّ الاستعداد.
ومن هذه الآيات، قوله تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَ هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً *وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً * وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً﴾ (طه: 105-113).
*الثواب الأعلى أو العذاب الأبقى
إنَّه اليوم الحقّ الذي تظهر فيه قيمةُ العمل، ويُطلب فيه كلّ الربح؛ لأنّ فكرة الربح والخسارة لا يمكن أن تُرى بشكل واضح وبيِّن، إلّا من خلال النظر إلى يوم القيامة، ففيه يكون الثواب والعقاب.
إنَّه للمثابين يوم الثواب الأعلى، وللكافرين يوم العذاب الأبقى، وهذا لا ينافي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء قبل هذا اليوم. وبناءً لذلك، يبطل الزعم السائد أنَّ الحساب الإلهيّ مؤجّلٌ إلى يوم الدين، وأن قبله لا عقاب ولا ثواب. والصحيح هو أنَّ العقاب الإلهيّ يأتي تدريجيّاً وارتقائيّاً. والمتتبِّع لآيات القرآن الكريم يكتشف هذا المعنى في مواطن عدَّة، منها قوله تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ﴾ (الأنعام: 42)، وقوله أيضاً: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الأعراف: 168). فهاتان الآيتان وأمثالهما تقرّان بوقوع العذاب قبل يوم القيامة.
*يوم الحسرة الأكبر
لقد أطلق القرآن على يوم الدين "يوم الحسرة الأكبر" و"يوم الندامة الكبرى"؛ ذلك أنّ كلّ الندم والحسرات التي يصاب بـها الكافرون قبل هذا اليوم ليست بشيء مقارنةً بتلك الحسرة والندامة.
يتكلَّم القرآن الكريم عن بعض الحسرات، فيقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال: 36).
تبيِّن هذه الآية أنّ للكافر حسراتٍ وعذاباتٍ في الدنيا. ولكنَّ يوم القيامة هو يوم الدين والحساب الأكبر؛ لذا، يؤجّل الله الذين يستحقّون التأجيل، لعلّهم يرجعون؛ فإذا لم يرجعوا واستحقّوا النّكال، أخذهم أخذَ عزيزٍ مقتدر.
يصف القرآن الكريم هذا اليوم؛ ليبقى المشهد ماثلاً أمام أعيننا. وإذا ما تمَّ ذلك، فأنا واثق من أنّ نظرتنا للأشياء ستختلف وتتغيّر، بخلاف الذين يغيب عنهم هذا المشهد العظيم، فإنّهم يرون الأشياء الصغيرة عظيمة.
إذا نظر من يُنكر اليوم الآخر إلى طريقه، وجدها مملوءة بالحسرة، ومهما كانت هذه الحسرة صغيرة، فإنَّه يراها كبيرة، وأمَّا الذي يخشى يوم الحسرة الكبرى، فإنَّه يرى جميع الحسرات حقيرة وصغيرة أمام هذه الحسرة.
وهذا ما قاله أمير المؤمنين عليّ عليه السلام يوم طُلب منه أن يصف المتّقين: "عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَه فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ والْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ"(1).
*لا لذّة تغريه ولا منصب
ينظر المتّقي بمنظار الله الذي يكشف له مستقبل حياته، فلا تحجب الأيام والفواصل الزمنية بصره عن هذا اليوم الموعود. فكأنَّ الجنّة عن يمينه، وهو يراها ويشمّ طيبها، وكأنّ النار عن يساره، وهي تلفح وجهه. وتتمثّل أمامه هاتان الصورتان عند كلّ عمل، فيثبت على الجادّة، حتَّى يصل إلى الله سبحانه وتعالى.
إنَّ الذي يتعامل مع الجنّة كأنّـها عن يمينه، ومع النار كأنّـها عن يساره، ويشعر بهما في حركاته وسكناته، لا يمكن أن يغيّره شيء من شأنه أنْ يقذف به إلى النار؛ فلا تغريه لذّةٌ، ولا منصب، ولا جاه؛ لأنّ الله سيكشف الغطاء عن عينيه، فيرى النار ولهيبها، ويكشف على أذنيه، فيسمع زفيرها.
*وهم والنار كمن قد رآها
أجاب الإمام زين العابدين عليه السلام عندما سُئل: "كيف أن النار تشتعل في بيتك، وأنت لا تنتبه إليها؟ قائلاً: ألهتني عنها النار الأخرى"(2).
هذه النار التي ألْهت الإمام زين العابدين عليه السلام لا تخطر في بال الذين لا يفهمون معنى اليوم الآخر، ولا يفهمون طبيعة المسلمين. لا ريب في أنَّهم لا يفهمون الروح التي تحرّك أجسادنا، وتحدّد قرارنا وموقفنا في هذا الاتّجاه أو ذاك.
إنَّ مشكلة الذين لا يؤمنون باليوم الآخر حقَّ الإيمان، أنّهم لم يكتشفوا بعد هذا السرّ والإغراء اللذين يمثلهما هذا اليوم الآخر في نفوس المسلمين، وأنّ كلّ ما دون الجنّة لا يساوي شيئاً مقارنةً بالوعد المنظور في ذلك اليوم. لذا، ترخص أنفسهم مقابل سيّارة أو شقّة أو مبلغٍ من المال، فلا يتحرّج أن يكون جاسوساً وعميلاً لدى الأعداء مقابل هذا الإغراء. ويظنّ العدو أنّه بهذا الإغراء يمكن أن يستميل شبابنا ويتحكّم بنا.
نعم، يمكن لهذا العدو أن يسيطر على إنسان عَمِيَت عينه عن رؤية النار، وأمّا الذي أصبح والنار كمن قد رآها، على حدّ تعبير أمير المؤمنين عليه السلام، فكيف يمكن لشيء أن يغريه ويوقعه؟ وكيف يمكن لشيء أنْ يحول دون وصوله إلى الجنّة؟ لا يفهم أعداؤنا هذا السرّ.
عندما تُشكل علينا الأمور في بعض الأحيان، ننظر في موقف العدو منه وردّة فعله تجاهه، فإنْ أغضبه موقفنا وبدا استياؤه منه، نثق في أنّ ما قمنا به يرضي الله تعالى عنّا.
ثمّ إنّه تعالى قد وعد عباده الذين يعملون الصالحات بأنْ لا يُظلموا ولا تهضم حقوقهم، يقول تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ (طه: 112). ولا ريب في أنّ جهاد أعداء الله يتربّع على قمّة الصالحات، فهو خير الصالحات وأرقاها. وقد صدّق القرآن على هذا الأمر عندما نقل لنا اختلاف جماعةٍ أيّام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العمل الذي يكون أعظم أجراً عند الله، مستنكراً على الذين جعلوا سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام أرقى الصالحات وأعلاها، بقوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾ (التوبة: 19).
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
تحدّث القرآن الكريم عن يوم القيامة وأحداثه بطريقةٍ تُشعرك أنك رأيته وعاينته قبل وقوعه. كما اهتمّ بنقل أدقّ تفاصيل ذلك اليوم وحال الناس فيه؛ ليشعر الإنسان بوقعه وعظمته؛ فيستعدَّ له أتمّ الاستعداد.
ومن هذه الآيات، قوله تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَ هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً *وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً * وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً﴾ (طه: 105-113).
*الثواب الأعلى أو العذاب الأبقى
إنَّه اليوم الحقّ الذي تظهر فيه قيمةُ العمل، ويُطلب فيه كلّ الربح؛ لأنّ فكرة الربح والخسارة لا يمكن أن تُرى بشكل واضح وبيِّن، إلّا من خلال النظر إلى يوم القيامة، ففيه يكون الثواب والعقاب.
إنَّه للمثابين يوم الثواب الأعلى، وللكافرين يوم العذاب الأبقى، وهذا لا ينافي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء قبل هذا اليوم. وبناءً لذلك، يبطل الزعم السائد أنَّ الحساب الإلهيّ مؤجّلٌ إلى يوم الدين، وأن قبله لا عقاب ولا ثواب. والصحيح هو أنَّ العقاب الإلهيّ يأتي تدريجيّاً وارتقائيّاً. والمتتبِّع لآيات القرآن الكريم يكتشف هذا المعنى في مواطن عدَّة، منها قوله تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ﴾ (الأنعام: 42)، وقوله أيضاً: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الأعراف: 168). فهاتان الآيتان وأمثالهما تقرّان بوقوع العذاب قبل يوم القيامة.
*يوم الحسرة الأكبر
لقد أطلق القرآن على يوم الدين "يوم الحسرة الأكبر" و"يوم الندامة الكبرى"؛ ذلك أنّ كلّ الندم والحسرات التي يصاب بـها الكافرون قبل هذا اليوم ليست بشيء مقارنةً بتلك الحسرة والندامة.
يتكلَّم القرآن الكريم عن بعض الحسرات، فيقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال: 36).
تبيِّن هذه الآية أنّ للكافر حسراتٍ وعذاباتٍ في الدنيا. ولكنَّ يوم القيامة هو يوم الدين والحساب الأكبر؛ لذا، يؤجّل الله الذين يستحقّون التأجيل، لعلّهم يرجعون؛ فإذا لم يرجعوا واستحقّوا النّكال، أخذهم أخذَ عزيزٍ مقتدر.
يصف القرآن الكريم هذا اليوم؛ ليبقى المشهد ماثلاً أمام أعيننا. وإذا ما تمَّ ذلك، فأنا واثق من أنّ نظرتنا للأشياء ستختلف وتتغيّر، بخلاف الذين يغيب عنهم هذا المشهد العظيم، فإنّهم يرون الأشياء الصغيرة عظيمة.
إذا نظر من يُنكر اليوم الآخر إلى طريقه، وجدها مملوءة بالحسرة، ومهما كانت هذه الحسرة صغيرة، فإنَّه يراها كبيرة، وأمَّا الذي يخشى يوم الحسرة الكبرى، فإنَّه يرى جميع الحسرات حقيرة وصغيرة أمام هذه الحسرة.
وهذا ما قاله أمير المؤمنين عليّ عليه السلام يوم طُلب منه أن يصف المتّقين: "عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَه فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ والْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ"(1).
*لا لذّة تغريه ولا منصب
ينظر المتّقي بمنظار الله الذي يكشف له مستقبل حياته، فلا تحجب الأيام والفواصل الزمنية بصره عن هذا اليوم الموعود. فكأنَّ الجنّة عن يمينه، وهو يراها ويشمّ طيبها، وكأنّ النار عن يساره، وهي تلفح وجهه. وتتمثّل أمامه هاتان الصورتان عند كلّ عمل، فيثبت على الجادّة، حتَّى يصل إلى الله سبحانه وتعالى.
إنَّ الذي يتعامل مع الجنّة كأنّـها عن يمينه، ومع النار كأنّـها عن يساره، ويشعر بهما في حركاته وسكناته، لا يمكن أن يغيّره شيء من شأنه أنْ يقذف به إلى النار؛ فلا تغريه لذّةٌ، ولا منصب، ولا جاه؛ لأنّ الله سيكشف الغطاء عن عينيه، فيرى النار ولهيبها، ويكشف على أذنيه، فيسمع زفيرها.
*وهم والنار كمن قد رآها
أجاب الإمام زين العابدين عليه السلام عندما سُئل: "كيف أن النار تشتعل في بيتك، وأنت لا تنتبه إليها؟ قائلاً: ألهتني عنها النار الأخرى"(2).
هذه النار التي ألْهت الإمام زين العابدين عليه السلام لا تخطر في بال الذين لا يفهمون معنى اليوم الآخر، ولا يفهمون طبيعة المسلمين. لا ريب في أنَّهم لا يفهمون الروح التي تحرّك أجسادنا، وتحدّد قرارنا وموقفنا في هذا الاتّجاه أو ذاك.
إنَّ مشكلة الذين لا يؤمنون باليوم الآخر حقَّ الإيمان، أنّهم لم يكتشفوا بعد هذا السرّ والإغراء اللذين يمثلهما هذا اليوم الآخر في نفوس المسلمين، وأنّ كلّ ما دون الجنّة لا يساوي شيئاً مقارنةً بالوعد المنظور في ذلك اليوم. لذا، ترخص أنفسهم مقابل سيّارة أو شقّة أو مبلغٍ من المال، فلا يتحرّج أن يكون جاسوساً وعميلاً لدى الأعداء مقابل هذا الإغراء. ويظنّ العدو أنّه بهذا الإغراء يمكن أن يستميل شبابنا ويتحكّم بنا.
نعم، يمكن لهذا العدو أن يسيطر على إنسان عَمِيَت عينه عن رؤية النار، وأمّا الذي أصبح والنار كمن قد رآها، على حدّ تعبير أمير المؤمنين عليه السلام، فكيف يمكن لشيء أن يغريه ويوقعه؟ وكيف يمكن لشيء أنْ يحول دون وصوله إلى الجنّة؟ لا يفهم أعداؤنا هذا السرّ.
عندما تُشكل علينا الأمور في بعض الأحيان، ننظر في موقف العدو منه وردّة فعله تجاهه، فإنْ أغضبه موقفنا وبدا استياؤه منه، نثق في أنّ ما قمنا به يرضي الله تعالى عنّا.
ثمّ إنّه تعالى قد وعد عباده الذين يعملون الصالحات بأنْ لا يُظلموا ولا تهضم حقوقهم، يقول تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ (طه: 112). ولا ريب في أنّ جهاد أعداء الله يتربّع على قمّة الصالحات، فهو خير الصالحات وأرقاها. وقد صدّق القرآن على هذا الأمر عندما نقل لنا اختلاف جماعةٍ أيّام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العمل الذي يكون أعظم أجراً عند الله، مستنكراً على الذين جعلوا سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام أرقى الصالحات وأعلاها، بقوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾ (التوبة: 19).
إنَّ سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام هما من الأعمال الصالحة، ولكنّ الجهاد في سبيل الله هو أرقى الصالحات، بل به قِوامُ الصالحات. فجهاد الكافرين والمحتلّين بالكلمة والموقف والاعتصام والصلاة والسلاح وسواها، هو رأس الجهاد وقلبه وروحه. وهو بالتالي رأس الصالحات.
-----------------------------------------
-----------------------------------------
1- نهج البلاغة، 193.
2- انظر: بحار الأنوار، المجلسي، ج 46، ص 80.
2- انظر: بحار الأنوار، المجلسي، ج 46، ص 80.
تعليق