( أفياء على حافة التيه / للشاعر محمد طاهر الصفار ) ح1
( علي حسين الخباز )
( الصور الذهنية )
قبل الإفصاح أين يكون الشعر ؟ سؤال يأخذني إلى مديات ربما هي أوسع من تجربتي ، هل هو تعبير عن الذات أو ما تتحسسه وما تتأثر به من مشاعر وانفعالات تكون أكبر من الذات نفسها ، اذا تحدثنا عن الوعي يعني بقينا في أسلوبية ، الشكل والمضمون ومدارك الجمال والفن وأعراف الكتابة ، وأطر الرؤية وحتى في حالة التمرد على الأعراف النصية التي تنقل لنا الصورة الشعرية نبقى في حيثيات المنطق ومعقولية النص الذي ينسجم مع الواقع ، أنا لا اقصد المنهج الرمزي أو السريالي إنما أذهب الى ما ذهب اليه الشاعر محمد طاهر الصفار في مجموعته الشعرية ( أفياء على حافة التيه ) قبل الإفصاح تكون هناك فسحة من التصورات الذهنية ، تكثف لنا المعنى باتجاه التجربة الشعورية لكل شاعر والشاعر الصفار قدم عوالمه الشعرية عبر مكامن دلالية مكتنزة بأفق مقدرته على التحكم بصياغات ذهنية تستند على تجليات التناص ، ان يتنفس النص برئة تلك التناصات ومنها القرآنية والتي هي أهم مصادر استلهام الصورة الذهنية عنده ،لأهمية ما في القرآن من دلالات عميقة ، ومضامين سامية تنوع التناص بين أشاري ولفظي وإيحائي ودلالي،
( منفىً خطانا / إليه هاجرت مدن / بها ارتدتنا سهادا / وأنتفى الوسن / منذ أنتقتنا على سبع عجافٍ رؤى سنابلا مات في أزمانها الزمن ) ص163
يمنح التناص النص ثراءً وروعة فهو من أبرز التقنيات الفنية التي يهتم بها الشعراء لصياغة الوهج الذهني في القصيدة على مستوى الدلالة والرؤية فهو لا يستخدم الآية بشكلها الكلي وإنما يستلهم من القرآن ، جزء غير مكتمل قائم على تناص بعض المفردات أو الكلمات أو ربما الأسماء وبعض متعلقات الأسم من موروث قرآني ،
(أنا.. نقيضُ أنا .. قابيل يقرع لي كأسا عليها غبار غراب الموت / نادمنا / لئن بسطت اليّ الغدرَ / فديته دمي ...فغادتنا الحسناء تنكرنا ) ص135
النص الذهني نتاج عملية مولدة في أفكار ورؤى أبداعية يشكل لها عالم الجمال الذهني في أنتاج الصورة في رؤى تأويلية يستقيها من التناص القرآني لكونه يستطيع أن يرسم ملامح الموقف الحدث وبناء التصور ألقصدي والتناص يحقق أمور كثيرة للشاعر وللقصيدة منها التكثيف والمعنى ألمضموني وإثارة ذهنية المتلقي ، اعتقد ان التناص يعتبر من أقوى وأفضل الأفكار المستفزة لذهنية المتلقي ، تثمر فيه تصورات تبحث عن توافقات التناص مع الفكرة باعتباره مركز استقطاب دلالي صورة مستوحاة من واقع تأويل لحدث وشخصية قرآنية فهو يبحث عبرها عن الرؤية المعبرة كإيحاء شعري تجاوز به الاسلوب النمطي ( وفز في التابوت وهم الطين من أنفاس كهف / كم يرتقه المدى ؟ / لازال يقعي كلبهم بدم الوصيد / ولا تزال سفينة محروقة في القاع في منأى / وتمخر في سنين الماء / ترسم للمدى بدم الغلام مرافئا / تتلو رقى الأبوين في صمت الغياب المر / أغفى حوله المجهول ) ص99
أولا نبحث عن تأويل التناص وبواطنه وتصوراته الذهنية المثيرة للدهشة ، وللواقع القرآني بهذا الشكل صورة التأويل الذهني ما قبل التناص وصورة التأويل الذهني ما بعد تغيير الشكل ومعنى انتقاء المفردة المعززة بالمعنى ليجمع المتلقي تلك المفردات ويكون منها التصور ،
التابوت / الكهف / كلبهم الذي يقعي / دم الوصيد / السفينة المخروقة / دم الغلام ) مفردات لها مرجعية في ذهنية المتلقي ، لكنه يعمل لتجاوز سكون تلك المرجعيات في رأس المتلقي ، قدرة إبداعية تحول تلك المحتويات إلى مجاز إبداعي يتجاوز تلك البنى المرصوصة في ذهنيته الى مضمون آخر يعبر عن حيثيات المتخيل الشعري ومثل هذه الخصوبة الفكرية في ايجاد مضمون آخر يعبر عن حيثيات المتخيل الشعري وفي استثمار الصورة تعني وجود ثراء مخيلة ، لاستثمارها في غواية المعنى ، بمعنى إنشاء الفكرة والمعنى في صيغ التناص ، إعادة قراءة من مرجعية قرآنية منقاة الأسماء والأحداث لاستخدامات مجدية لغاية خلق التؤم المضموني ،
(فتحرقُ زيتوناً بظلِّ حمامةٍ فعاد من الطوفان / ما استوقدت سبأ / وصخرة قابيل برأسي غرابها إلى الرقصة الأولى يراوده الخطأ / سألقي عصاي الآن /تلقف رغبة على كأس سم الليل خمرٌ بها رقأ) ص96 والتناص يبعد الشاعر عن المباشرة ، مرتبطة بمدلول ذهني يحقق لها التفرد من خلال حسن تركيبه واستجلاءه للمعاني وطريقة اعدادها ، بالشكل الجمالي والإبداعي الذي يجعل التناص مبتكرا في نسيج جديد ، وكأنه يقدم خلطة سحرية من مفردات التناص لو تأملنا في مفردات هذا الاستشهاد
( طوفان / سبأ / قابيل / غراب / الق عصاي / تلقف ) وهذا خروج من منطق الفكرة إلى مخزونه المعرفي يبني تصورات تتجسد عبر توظيفها بمعنى اقرب الشاعر هو قارئ ظل يختزن في ذاكرته الأفكار التي تتوافق مع ثقافته والتي يستحضرها في كل قراءة محاولا تسخيرها في انفتاح الدلالة ينقل متلقيه من زمن لآخر ومن مكان لآخر سعيا لاستثمار لهفته عبر تلك الروافد الدلالية ،
( فأودع فيها الله / جودي نوحه / وقال بأن الأرض تبدأ من هنا ) ص67 واستثمر الشاعر الصفار التناص للانفتاح على التأريخ والمعروف ان إنتاج الأفكار المرسخة في ذهنية المتلقي في ارتباطات جديدة هو جهد وفكر إبداعي ، وكانه عبر التناص يتمحص ذهنية متلقيه أو ليفّعل المعرفي لصالح القصيدة فيستحضر التناص الذي استعمله الشاعر لبث رؤيته وقد يكون التناص الشعري مع شخصيات ورموز دينية وخاصة نجد ذكر أهل البيت عليهم السلام ، وذكر واقعة الطفوف لها تناصات كثيرة ومتنوعة وهذا يقربنا لمفهوم القصد التعبير والجمالي والفكري والمحور الذهني ( محمد معنى الله صفوة أرضه / بسمت تجلى في ذرى أنبيائه ..... لقد جاءَ من أنقى الأديم بمكة فجاد عليها من أديم سمائه ) ص9 نجد الشاعر الصفار مشبع بالتراث وخاصة الموروث الديني والروحي ليعيد التأريخ بمحمولاته... كسيرة ذاتية لمسيرة الحدث التأريخي ولا يمكن الاستشهاد عبر مقطع أو مقطعين ففيها
( يقين / نبوءة / أية قرآنية / صفوة / نبوة / دعاء / مكة / دماء فعل أمر (أنذر ) / الرسالة / الكساء) تلك دفقات شعورية أكثر مما هي مفردات تشكلت في وعي الشاعر ، موضوع الرموز التأريخية المقدسة لشخصية الحسين عليه السلام أكسبته القدرة على التماهي مع روح الواقعة مع جوهرها الفكري لتتحول المواقف وبهاء الرموز عنده الى قراءة ذهنية ،( وبها أختزلت الأرض في يوم سماوي / وميزت الحياة من الردى / أسرجت بوصلة الطفوف إلى طقوس العشقِ
تبذرُ في المآقيْ مَرقَدا ) ص30 وهذه هي القدرة الفنية في التعبير / عن مكنونات النفس وفهمها للتأريخ ، حتى صار الشاعر ضمير التأريخ عبر طاقته الإبداعية ذخيرة الإيمان (تتوارث الأجيالُ صوت طفوفك الظمأى ( الا من ناصر )؟ وعت الندا / يا سيد الشهداء / ايآت نمتك دعت صلاتي فيك ان تتهجدا /ص (31رأس يطوف على البلاد منارة وتلى بها ذكرا فكان محمدا) ص32 والطفوف بما تحمل من جواذب شعورية ومعاني متوهجة تكسب التناص قوة تمثل صور التحرر والمقاومة ورفض العبودية وسلطات الجور لتحمل إشعاع الثورة في كل جيل ، واقعة الطف مثال حي من امثلة الرفض ونصرة الحق ، والحسين رمز تاريخي قدم معنى جديد للعالم انه كان يفهم الاستشهاد انكسارا والتضحية خسارة وهزيمة يقول احد النقاد الحسين رمز يتقد من كل الجهات ، وهذا معنى الخلق والابداع ومعنى التصوير الذهني ان كان حسي أو وجداني ،بما يثيره من دلالات تحول التعبير التقريري المباشر الى تعبير إيحائي ، أرى تميز الشاعر الصفار بانه استطاع أن يرسخ ذهنية الصورة دون ان يغلفها بغموض وإنما بدلالات الى الجمال أقرب ، عبر تو سيع متعلقات النص ورسم الصورة بانزياحات ، متصلة فيما بعضها مما يسبب لي معاناة الاستشهاد بجملة وانما لابد ان استشهد بوحدات فاعلة من كل نص ، مثلا في قصيدة سيد القلب ( تمخضت ، سور الاملاك / عن رجل / بوجهه حل وجه الله واكتملا ( ص48
(بقلبِه رتلت آيات غربته وكل نبضة وحي أنسلت رسلا ) 49 ( نحتاج وجهك شمسا في غياهبنا / نحتاج سيفك آمنا يقتل الوجلا ) ص50 وتكثر الاستشهادات لاستحكامها بمداليل الصورة الكلية ، يمتلك الشاعر الصفار ثقافة الصورة الذهنية ، والتي يجد بعض مساراتها عبر التناص التاريخي والانزياحات الجمالية ـ الى دلالات ورموز وايحاءات عديدة مختلفة ، يصوغ منها الرؤية والابصار المدرك ، وقبل ان تمنح الصورة الحياة هي تبقى في الذهن تتنامى مع الحالة النفسية ، لذلك تتشكل قدرته الشعرية بقوة عالم الرمز الحسيني يسعى ليصل الى الصورة المثالية وليرتقي بها الى المعنى الانتماء الهوية ( تلونا على جوع الرغيف / اصطبارنا / فاوقد فينا الكربلاءات ديدنا )63 التركيز على الهوية تعني ان الشاعر يكتب قصيدته بروحه ، يكون دافع الكتابة هو تمثيل وتماثل لكون انزياحات الصورة تتناسب وحجم التأثير القائم على الإيمان على الاستجابة لخواطره ومشاعره وعواطفه ،أي هناك مطابقة بين عوالم الروح عبر الايمان والعوالم الذهنية عبر المدركات مثلا الحديث عن الزهراء عليها السلام لم يكن هو يشبه الحديث عن أي امرأة( تراتيل / قناديل / مقامات / قداسة / روح / قرآن / الطف / الفرات / الظمأ / كربلاء ) تلك متعلقات الحزن العاشورائي ( هي أبنة من صلى الاله بوجهه / ومن بإسمه جبريل في العرش أذنا / هي ابنة من كفّاه قمح ومزنة / أمير المدى / والقلب / والشمس ... والسنا ) ص67 يقدم التصورات من مواضيع متعددة منها ما يعني التأريخ المحكي ، لكونه قادر على إثارة ذهنية المتلقي عبر الصورة التي تجد استجابة انفعالية لطبيعة وجود ذلك الموروث في حياة الإنسان وعيا وعاطفة ،
Aa