من المعلوم أن أول عمل قام به رسول الله (ص) عند وصوله الى مدينة يثرب التي سُمّيت بالمدينة المنورة هو بناء المسجد، ولكن ما لا يعلمه الكثيرون أن بناء المسجد لم يكن للعبادة والتجمع الديني فقط؛ لأن النبي أراد ببنائه بناء أساسات الدولة الاسلامية وعلى كافة الصُعُد.
ومن تلك الأسس التي أراد بها النبي الأكرم (ص) تفعيلها في المجتمع المدني الجديد -بعد قسوة المرحلة المكية التي ألقت بظلالها على المسلمين الأوائل من المهاجرين- بناء المسجد، وكان البناء في (١٨) من شهر ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة، وهو زمن قياسي جداً للبدء في هذا المشروع؛ لأن رسول الله هاجر الى يثرب في غرة ربيع الأول من عام (١٣) للبعثة، وليس غرة محرم الحرام كما هو شائع الآن، والهدف واضح أيضاً، وهذه الأسس سنجملها في نقاط عدة:
١- أن يكون مكانا لعبادة وذكر الله تعالى والدعوة اليه، وهو الهدف الأساسي من بناء المسجد، إضافة الى التأثير الايجابي للعبادات الجماعية، وكيف تعطي الروحية والحافزية في عموم العبادات.
٢- أن يكون مقراً لتجمّع الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه؛ لمناقشة الأمور السياسية والاجتماعية وغيرها التي تهمّ الاسلام والمسلمين، أي بمعنى أصح بمصطلحاتنا المعاصرة (قاعة مؤتمرات).
٣- بث روح التعاون في بناء المجتمع بشكل عام كمفهوم وبناء المسجد بشكل خاص كمصداق من خلال تفعيل مشاركة جميع المسلمين بكل فئاتهم في البناء، فهي مسؤولية الجميع، ولحفظ روح المواطنة والانتماء للإسلام.
٤- ترسيخ معنى القيادة الحقيقية لأفراد المجتمع من خلال مشاركة رسول الله (ص) المسلمين في بناء المسجد، ويتحمل معهم عناء ذلك، فهو -بأبي وأمي- كان يحمل اللبن بيديه الشريفتين حاله حال بقية المسلمين.
٥- حرص رسول الله على بناء أمته ككيان موحد ومتماسك كبناء ذلك المسجد من خلال استثمار فرصة البناء، وتجمع وتعاون المسلمين مع بعضهم بروح معنوية عالية، والتأكيد على الأساس القوي في استمرار بناء أمته من بعده، وهو التمسك بالحق والخلافة الإلهية من بعده، وكأنه يستشرف المستقبل، ويحاول منع الفرقة بين المسلمين، وتصدع كيانهم من بعده في قصة مستفيضة في المصادر السنية قبل الشيعية منها، وهي مروية عن أبي سعيد الخدري: «...كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي (ص) فينفض التراب عنه، ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»(1).
٦- تقديم الكفاءات في العمل على غيرهم، وتثمين خبرات أهل الاختصاص، فعن طلق بن علي اليمامي الحنفي قال: «بنيت المسجد مع رسول الله (ص) فكان يقول: «قربوا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مسيساً». وأخرج الإمام أحمد عن طلق أيضاً، قال: جئت إلى النبي (ص) وأصحابه يبنون المسجد وكأنه لم يعجبه عملهم، فأخذت المسحاة، فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال: «دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين». وأخرج ابن حبان عن طلق فقال: فقلت: يا رسول الله أأنقل كما ينقلون؟ قال: «لا، ولكن اخلط لهم الطين، فأنت أعلم به»(٢).
٧- تخصيص مساحة مسقفة من المسجد للفقراء من المهاجرين والأنصار ممن لا مأوى لهم في مؤخّرة المسجد في الجانب الشمالي الشرقي منه، إلى غرب ما يعرف اليوم بـ(دكة الأغوات)؛ ليقيهم من حرّ الشّمس، وكان يجالسهم -بأبي هو وأمي- ويشاركهم في طعامه وشرابه، كما كان أهل المدينة يستضيفونهم في بيوتهم ليُطعموهم.
وسُمّيت تلك السقيفة (صفّة المسجد)، وعُرف ساكنوها بـ(أهل الصفّة) أو (أهل الظلّة)، يقضون أوقاتهم في تعلم القرآن، وقيل عددهم (٧٠) رجلاً، وقيل (٤٠٠)، ومنهم خيار الصحابة الأجلاء: كأبي ذر الغفاري، وسلمان المحمدي، وبلال بن رباح، أي بتعبير أدق (دار رعاية اجتماعية).
٨- استثمر النبي محمد (ص) المسجد فيما بعد لضمان الرعاية الصحية للمسلمين بأمره بإقامة خيمة للطبيبة رفيدة الأسلمية(3) في المسجد في أثناء معركة الخندق، وعندما أُصيب سعد بن معاذ في تلك الغزوة أمر النبي بنقله إلى خيمة رفيدة، وكان رسول يمر على خيمتها يتفقد سعد وبقية الجرحى، أي بكلمة أخرى إقامة أول مستشفى ميداني في الاسلام، كان مقره في المسجد النبوي.
واستمرت الرعاية الصحية في خيمة رفيدة في المسجد حتى في أوقات السلم لرعاية المسلمين، وهم تحت رعاية النبي (ص) شخصياً.
وبلحاظ ما تقدم، فان أمْرَ النبي ببناء المسجد كان يهدف من خلاله الى بناء مجتمع متماسك قوي يمثل المسجد فيه روح الاسلام على المستوى النظري والتطبيقي، وبالتالي بناء الانسان وفق الضوابط الاسلامية التي لا تفرق بين عربي وأعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين غني وفقير، ولا بين سيد وعبد، وتذويب النعرات القبلية من أوس وخزرج ومهاجرين وأنصار، والانصهار في بوتقة الاسلام والايمان.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري: ج١، باب التعاون في بناء المسجد، ص١٧٢، رقم الحديث: (٤٣٦).
(2) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث: ج١/ ص ٤٦٩.
(3) رفيدة الأسلمية: طبيبة وممرضة في المدينة المنورة، شاركت في العديد من الغزوات تداوي الجرحى، كما شهدت غزوة خيبر، وأسهم لها النبي بسهم رجل لمواقفها.