الهجر في اللغة: هو جريان الكلام غير المنتظم أو المخالف للمقصود على اللسان لعارض؛ بسبب معين.
وقيل: إن الهجر هو الهذيان، وهو الإفحاش في المنطق. والهذيان هو التكلم من غير وعي، والاسترسال فيه؛ لمرض أو غيره، وقيل: هو اضطراب عقلي مؤقت يتميز باختلاط أحوال الوعي.
وفي معجم الفقهاء، عرف الهذيان: هو التكلم بغير كلام العقلاء؛ لمرض أو سكر أو غيرهما.
وقد عرف في معجم الفروق اللغوية بأنه: كلام مستعمل أخرج على وجه لا تنعقد به فائدة.
وبعد أن أدركنا مدى التقارب بين اللفظيين أو المصطلحين، نورد حادثة رزية يوم الخميس المعروفة لدى العامة قبل الخاصة، وهل يصحّ إطلاق تلك اللفظة على نبيّ هذه الأمة، وخاتم الرسل، المعصوم عن كل خطأ أو سهو؟
ولو تناولنا القصة كباحثين عن واقع نلتمس به الوقائع، فالحادثة جرت بحق نبي هذه الأمة على لسان أحد الصحابة كما هو معروف؛ حيث روي عن ابن عباس قائلًا: «يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتدّ برسول الله وجعه، فقال: هلمّ اكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده، فقال أحدهم: إن النبيّ قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي كتابًا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال أحدهم، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي "ص"، قال لهم رسول الله "ص": قوموا عني»، فكان ابن عباس يقول: «الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم».
فلو تطرقنا للحادثة، فهل يحقّ لصحابي يدّعي الصحبة التلفظ بهذا الكلام؟ ثم هل يصحّ تأييد بعض الجالسين لقوله؟ ثم وما هي علامات الهجر؟!
هذا لو سلّمنا أن الرسول "ص" معصوم فقط في تبليغ الرسالة كما هو معروف لدى العامة في تفسيرهم معنى عصمة الأنبياء "عليهم السلام"، إذن، فما هو وجه المغالطة التي بان منها الهجر؟ أليس طلب رسول الله "ص" هو أمر! ثم لماذا تخوّف هذا الصحابي وغيره؟!
وهل يحق له دعوة المسلمين للاحتكام بالقرآن؟ ومن هو أهل لذلك؟
أليست حقّا رزية كما وصفها ابن عباس؟ وقد أجاب النبي "ص" ردّا على ما أورده هذا الصحابي بقوله: "قوموا عني".
ثم بعد خروجهم، امتنع رسول الله "ص" عن كتابة الكتاب المانع من الضلالة، وما كان امتناعه "ص" إلا جوابًا لما حصل؛ أي أنه "ص" طرد الرافضين للكتابة، فما الحاجة لكتابة الكتاب بعد.
وكان ردّ فعل رسول الله "ص" بزجر الصحابي عن الاجتهاد مقابل النص، فطاعة رسول الله "ص" طاعة لله، لذلك فما صدر من الصحابي ردًّا على رسول الله، إنما يعدّ دليلًا على أنه يعي ما سيكتب النبي "ص"، فهنا يطرح التساؤل بمن هو أهل ليستحكم بالقرآن؟
فكان أولى له أن يعي قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ...» [النساء/59]، وهنا يتضح مطلب الصحابي وإنما هو طالب دنيا وليس طالب دين، وما تبعته من أحداث المناصب وسلبهم القيادة الربانية من أهل بيت النبوة، وتأسيسهم لمذهب الاجتهاد مقابل النصّ، يعدّ هذا هو الضلال الذي حذرنا نبيّنا منه "ص".
وهنا نص المقال، "من فمك أدينك" كما يُقال، فابن عباس وكتب المسلمين تعنون الأمر بـ"رزية يوم الخميس" وما فعله الصحابي بالطعن في نبيه "ص" دليل يصبّ في بطلان قوله، وما أشاعه من أجل ضياع حق قد سبق أن صرّح به رسول الله "ص" في تعيينه الولي الشرعي للمسلمين، هذا لو سلّمنا بما قال الصحابي، لكن حاشا لمن هو معصوم ومنزّه عن كل خطأ وسهو أن يُنعت بالهجر والهذيان.
وما كان صدور مثل هذا الكلام إلا من نفوس لم يدخل الإسلام قلوبهم، فقد تمكن منهم الشر، وأركبهم دار البلية، وحمّلهم جريرة أمة كاملة، فمن لا يعي ما معنى تلازم العصمتين بين الرسول والرسالة، فلا غرابة بما أباح، ليسلب من أمة الإسلام الصواب، ويحقق ما أراد، فما بين واقعة الغدير وحادثة رزية الخميس إلا اتضاح الصورة، فعلى الأمة السلام.
هل يا ترى يصحّ إطلاق الهذيان على الأنبياء "عليهم السلام"؟
وهنا يجدر بنا الإشارة أن نعت رسول الله "ص" بالهجر انما هي إرادة لسلب العصمة المطلقة عنه "ص"، وقد أباح الصحابي بفعله هذا الطعن بالرسول والرسالة، حيث فسّر علماء الطب النفسي الهذيان هو النسيان واضطراب الذاكرة، وعلى إثر ذلك، أوجد ثغرة للطعن بالدين وبالنصّ القرآني، فلو لم يكن نبيّنا معصومًا "ص"، ولو سلمنا بالعصمة بالتبليغ، فكيف لنا أن نعرف ما صدر منه من فعل يمثل إرادة السماء، ونعده قدوة يُقتدى بها، وبين ما صدر منه خلاف العصمة كأحد من الناس؟ ثم إن النص القرآني قد بيّن سنة إلهية قائمة ألا وهي الاصطفاء؟