وردت الشكوى من رسول الله (ص) على أمته هذه في سورة الفرقان، بقوله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا) (الفرقان: 30)، ولكن كيف هَجَرت الأمة القرآن وها هو يُتلى في بيوتهم، ومساجدهم، وإذاعاتهم، وتلفزيوناتهم، وفضائياتهم، ويفتتحون به مجالسهم، ومؤتمراتهم، وحتى محافلهم ومنتدياتهم؟
نعم؛ كل ذلك صحيح، ولكن هل القرآن الحكيم أنزله الرَّب الكريم على رسول العظيم (ص) لهذا فقط؟! لنقرأه في شهر رمضان، ونتغنى به في المحافل والمؤتمرات، والفواتح وعلى الأموات، أم أنه كتاب حياة نزل على الأمة لتحيا به، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24)
فالحياة الحقيقية بالاستجابة لدعوة الرسول (ص)، ودعوة الله سبحانه في كتابه الحكيم، وذلك يتمثَّلُ بالعمل بهما لنحيا حياة سعيدة كما أراد الله وأمر، والأمة لتحيا بالقرآن عليها أن تعمل به في كل حياتها، وأن تكون الحياة ذات صبغة قرآنية في البيت والسوق، في السياسة، والتجارة، والاقتصاد، والاجتماع، وحتى العسكر، فعندما تكون كل حركاتنا وسكناتنا، وحياتنا ومماتنا طبق القرآن، وحسب آياته المباركة عند ذلك نكون قد خرجنا من هذه الشكوى العظيمة من رسولنا الكريم (ص).
الإمام علي (ع) وشكواه
وأعتقد أن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) سيشكو منا نفس الشكوى إذ سيقول: (يا ربِّ، أو يا رسول الله؛ عن شيعتي، ومحبي، وموالي اتخذوا هذا النَّهج مهجوراً)، وهذه عثرة كُبرى في حياتنا لم نستطع إلى الآن أن نقيلها أو أن نتجاوزها، أو أن نعمل على تخفيف وطأتها على حياتنا العامة والخاصة، ولا سيما على واقعنا الاجتماعي المؤلم جداً.
لماذا ابتعدنا عن هذا النهج العظيم، والناس -خصوصاً في هذا العصر– يبحثون عنه، ويُحاولون فهمه ويُطالبون العالم والحكومات التي ما سمعت به وبصاحبه (ع)، أن يُطبِّقوه ويعملوا به في سياساتهم، واقتصادهم، واجتماعهم، وكل شؤون دولهم، ونحن أبناء النَّهج، وتلاميذه، لا نهتمُّ بنهج أمير المؤمنين علي (ع).
صرخة انتبه إليها الكثير من العلماء الأعلام من هذه الأمة، لا سيما مراجعها الكرام المؤتمنون على الحلال والحرام، فكثير منهم انتبهوا إلى مسألة هجر القرآن الحكيم، ونهج البلاغة العظيم، لا سيما في حوزاتنا العلمية المباركة، وهي قلاعنا ومتاريسنا في وجوه الأعداء، ولكن اقتصرت البحوث فيها والإبداع الكبير جداً الذي ربما يفوق حدَّ التصور في مجالي الفقه وأصوله وما يلزم عملة الاستنباط كعلم الرجال والعربية وغيرها.
ولكن لدينا أصول دينية، وعقائدية، وفكرية، وروحية، لماذا هي مهملة كلياً أو جزئياً في قلاعنا وحوزاتنا العلمية إلى اليوم، كالقرآن الحكيم، ونهج البلاغة العظيم، والصحيفة السجادة، ورسالة الحقوق لمولانا زين العابدين، فهذه تحتاج لوحدها حوزة علمية متخصصة بالقوانين والدساتير والحقوق لبيان وجوه الإبداع الإمامي فيها، وهكذا بقية التراث الروحي (الدعاء) في مدرسة أهل البيت (ع).
ومن أولئك العلماء الأعلام والمراجع الكرام الذي انتبه إلى ضرورة دراسة وتدريس نهج البلاغة كان الإمام الراحل والمفكر الكبير السيد محمد الشيرازي (قدس سره)، حيث يقول: " يلزم علينا أن نتناول كتاب (نهج البلاغة) بالدَّرس، والتَّحليل مثلما نولِّي اهتمامنا بشرح كتاب (المكاسب)، و(الكفاية) وأمثالهما من كتبنا العلمية المهمَّة، ونجعلُ دراسته ضمن المنهج اليومي للحوزة العلمية المباركة، بل كل مدارسنا الأكاديمية والجامعية أيضاً.
فلا يمكن القول: -ولا أتصور مَنْ يزعم ذلك- بأن (نهج البلاغة) أقل من كتاب (المكاسب) أو كتب الاقتصاد، أو الاجتماع، أو السياسة، التي تُدرَّس في الجامعات العلمية.
ثم يضرب مثالاً واقعياً، حيث يقول سماحته: "فكما يجلس خمسمائة من الطلبة كل يوم ينهلون من كتاب المكاسب مثلاً عند أحد الأساتذة الأفاضل، يجب أن يجلس عدد أكبر بكثير لدراسة (نهج البلاغة)، عند أستاذ عالم أيضاً، فإن (نهج البلاغة)؛ أكبر وأهم في المحتوى والتأثير من أي كتاب آخر سوى القرآن الحكيم، وقد وصفه السيد الرضي (قدس الله سره): بـ "الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي".
ووصفه الشيخ محمد عبده في مقدمته لشرح نهج البلاغة بقوله: "… وأحياناً كنتُ أشهد أن عقلاً نورانياً لا يُشبه خلقاً جسدانياً فُصلَ عن الموكب الإلهي واتصل بالرُّوح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد الفوز الأجلى…".
ويقول طه حسين: "إنني لم اسمع أعظم من هذا الكلام".
فكلام أمير المؤمنين (ع) يمثِّلُ قمَّة البلاغة، وقمَّة التَّقدم في مختلف مجالات الحياة، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد: "انظر إلى البلاغة كيف تنتظم فيها الكلمات… انه يتصرف بها فينظمها كالقلادة والعقد بياناً لبراعته وقوة تأثيره فيها…".
ومن كلام للشيخ الكليني (قدس الله سره) في الكافي: "لو اجتمعت الجن والإنس على أن يُبيِّنوا التوحيد بمثل ما أتى به علي(ع) بأبي وأمي لما قدروا عليه". (وأنَّى لهم ذلك شيخنا وهم قاصرون وهو السَّابق، وهم ناقصون وهو الكامل؟).
ثم يقول السيد الإمام الراحل متأسفاً: "ولكن من المؤسف جداً؛ أن الأمّة الإسلامية لم تستفد منه تمام الاستفادة، فاقتصرت معرفته على طبقة معيَّنة من المجتمع الإسلامي، في حين أن عامَّة الناس قد حُرموا من هذا المنهل المبارك الذي هو أصل كل حركة فكرية وتقدمية ومصدر صاف لأفكار الإسلام وإشعاعاته.
فلذلك يجب أن يُدرّسَ (نهج البلاغة) في حوزاتنا العلمية، وكذلك المدارس الأكاديمية، وتنشر مفاهيمه من خلال المنابر الحسينية، وفي مختلف الكتب، وعبر الإذاعات، والصحف، والأقمار الصناعية، (الفضائيات)، وما أشبه كي يكون (نهج البلاغة)، نهج الفلاح، ونهج النجاح، والتقدم للأمة الإسلامية، بل البشرية جمعاء كما هو الواقع في ذلك". (نحن والإمام علي(ع) السيد الشيرازي: ص17)
الإمام علي (ع) ونهجه القويم
في الحقيقة والواقع الدَّعوة لدراسة وتدريس كتاب (نهج البلاغة)؛ هي دعوة لدراسة وتدريس سيرة ومسيرة الإمام علي (ع) كلها بكل تفاصيلها، وحيثياتها، منذ ولادته في بيت الله الحرام، في جوف الكعبة، ثم طفولته وتربية رسول الله (ص) له، ونزول الوحي المقدس في أول لحظة في غار حراء حيث كان مع رسول الله (ص) وسمع رنَّة الشيطان كما يُحدِّثنا في خطبته (القاصعة) العجيبة التي تحتاج لدراستها ربما سنة أو أكثر لما فيها من معلومات لا بدَّ عنها في بداية نزول الوحي على رسول الله (ص) فما زالت الأمة تأخذها من أبي هريرة الذي كان يتقلَّبُ في اليهودية أو الوثنية والشرك في دوس، أو فلانة التي كانت لم تولد –حسب زعمهم– فلماذا لا نُعطي الأمة تفاصيل ما جرى ونأخذه من أصدق الناطقين بعد رسول الله (ص) في العالمين، حيث يقول فيها: (وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.
وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: (هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر). (نهج البلاغة: خ192)
وهكذا يجب أن نتدرَّج، وندرج مع أمير المؤمنين (ع) في كل ما وصلنا في ليله ونهاره، في قومه ونومه، في جهاده وقتاله، في عبادته وتقواه، في صلاته وصيامه، في تهجده ودعائه، في طفولته وشبابه، في شدته وكهولته وشيبته، في سلمه وحربه، معارضاً لسياسة قريش ورجالها، وحاكماً وقائداً ورئيساً لدولة مترامية الأطراف، في كل صغيرة وكبيرة علينا أن ندرسها، ونُحقق فيها ونُدرِّسها لأجيالنا لتستفيد منها علماً نورانياً مباركاً، وعملاً مخلصاً حضارياً.
فعلم أمير المؤمنين (ع) جُمع بعضه في هذا النهج المبارك، وهو أكثر من ذلك بكثير، وما خفي أعظم مما ظهر، وذلك لأنه باب مدينة العلم الإلهي المستودعة عند رسول الله (ص)، وهو الذي أعطاه مفاتيحها قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى، حيث يروي (ع) فيقول: (لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة دعاني، فلما دخلتُ عليه قال لي: يا علي أنتَ وصيي، وخليفتي، على أهلي، وامتي، في حياتي، وبعد موتي، وليُّك وليِّي، ووليِّي وليُّ الله، وعدوُّك عدوِّي وعدوِّي عدوُّ الله، يا علي المُنكِر لإمامتك بعدي، كالمُنكر لرسالتي في حياتي لأنك مني، وأنا منك، ثم أدناني فأسرَّ إليَّ ألف باب من العلم، كل باب يفتح ألف باب)، وفي رواية أخرى (ألف ألف باب).
وقال(ع): (علّمني (صلى اللّه عليه وآله) ألف باب من العلم، فتح لي كلُّ باب ألفَ باب)
وقال(ع): (إنّ رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) علّمني ألف باب من العلم، يفتح كلّ باب ألف باب، ولم يعلّم ذلك أحداً غيري)
وكذلك قال (ع): (إنّ رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) علّمني ألف باب من الحلال والحرام، وممّا كان وممّا يكون إلى يوم القيامة، كلّ باب منها يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب).
روايات كثيرة ومتضافرة تدعونا لنلتزم بباب مدينة العلم في هذه الدنيا، فإذا أردنا العلم حقيقة، والسعادة واقعاً في حياتنا علينا أن ندرسَ حياة أمير المؤمنين، وكلماته ونتبعه كما كان يتَّبع رسول الله (ص) كما قال (ع): (وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ)، فصار أميراً للمؤمنين بتلك الخطوات الواثقة، ونحن لا يمكن أن نصير من المؤمنين ما لم نتَّبِع تلك الخطوات التي ستظهر لنا من خلال دراستنا لسيرة أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب (ع).
من شبكة النبا المعلوماتيةنعم؛ كل ذلك صحيح، ولكن هل القرآن الحكيم أنزله الرَّب الكريم على رسول العظيم (ص) لهذا فقط؟! لنقرأه في شهر رمضان، ونتغنى به في المحافل والمؤتمرات، والفواتح وعلى الأموات، أم أنه كتاب حياة نزل على الأمة لتحيا به، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24)
فالحياة الحقيقية بالاستجابة لدعوة الرسول (ص)، ودعوة الله سبحانه في كتابه الحكيم، وذلك يتمثَّلُ بالعمل بهما لنحيا حياة سعيدة كما أراد الله وأمر، والأمة لتحيا بالقرآن عليها أن تعمل به في كل حياتها، وأن تكون الحياة ذات صبغة قرآنية في البيت والسوق، في السياسة، والتجارة، والاقتصاد، والاجتماع، وحتى العسكر، فعندما تكون كل حركاتنا وسكناتنا، وحياتنا ومماتنا طبق القرآن، وحسب آياته المباركة عند ذلك نكون قد خرجنا من هذه الشكوى العظيمة من رسولنا الكريم (ص).
الإمام علي (ع) وشكواه
وأعتقد أن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) سيشكو منا نفس الشكوى إذ سيقول: (يا ربِّ، أو يا رسول الله؛ عن شيعتي، ومحبي، وموالي اتخذوا هذا النَّهج مهجوراً)، وهذه عثرة كُبرى في حياتنا لم نستطع إلى الآن أن نقيلها أو أن نتجاوزها، أو أن نعمل على تخفيف وطأتها على حياتنا العامة والخاصة، ولا سيما على واقعنا الاجتماعي المؤلم جداً.
لماذا ابتعدنا عن هذا النهج العظيم، والناس -خصوصاً في هذا العصر– يبحثون عنه، ويُحاولون فهمه ويُطالبون العالم والحكومات التي ما سمعت به وبصاحبه (ع)، أن يُطبِّقوه ويعملوا به في سياساتهم، واقتصادهم، واجتماعهم، وكل شؤون دولهم، ونحن أبناء النَّهج، وتلاميذه، لا نهتمُّ بنهج أمير المؤمنين علي (ع).
صرخة انتبه إليها الكثير من العلماء الأعلام من هذه الأمة، لا سيما مراجعها الكرام المؤتمنون على الحلال والحرام، فكثير منهم انتبهوا إلى مسألة هجر القرآن الحكيم، ونهج البلاغة العظيم، لا سيما في حوزاتنا العلمية المباركة، وهي قلاعنا ومتاريسنا في وجوه الأعداء، ولكن اقتصرت البحوث فيها والإبداع الكبير جداً الذي ربما يفوق حدَّ التصور في مجالي الفقه وأصوله وما يلزم عملة الاستنباط كعلم الرجال والعربية وغيرها.
ولكن لدينا أصول دينية، وعقائدية، وفكرية، وروحية، لماذا هي مهملة كلياً أو جزئياً في قلاعنا وحوزاتنا العلمية إلى اليوم، كالقرآن الحكيم، ونهج البلاغة العظيم، والصحيفة السجادة، ورسالة الحقوق لمولانا زين العابدين، فهذه تحتاج لوحدها حوزة علمية متخصصة بالقوانين والدساتير والحقوق لبيان وجوه الإبداع الإمامي فيها، وهكذا بقية التراث الروحي (الدعاء) في مدرسة أهل البيت (ع).
ومن أولئك العلماء الأعلام والمراجع الكرام الذي انتبه إلى ضرورة دراسة وتدريس نهج البلاغة كان الإمام الراحل والمفكر الكبير السيد محمد الشيرازي (قدس سره)، حيث يقول: " يلزم علينا أن نتناول كتاب (نهج البلاغة) بالدَّرس، والتَّحليل مثلما نولِّي اهتمامنا بشرح كتاب (المكاسب)، و(الكفاية) وأمثالهما من كتبنا العلمية المهمَّة، ونجعلُ دراسته ضمن المنهج اليومي للحوزة العلمية المباركة، بل كل مدارسنا الأكاديمية والجامعية أيضاً.
فلا يمكن القول: -ولا أتصور مَنْ يزعم ذلك- بأن (نهج البلاغة) أقل من كتاب (المكاسب) أو كتب الاقتصاد، أو الاجتماع، أو السياسة، التي تُدرَّس في الجامعات العلمية.
ثم يضرب مثالاً واقعياً، حيث يقول سماحته: "فكما يجلس خمسمائة من الطلبة كل يوم ينهلون من كتاب المكاسب مثلاً عند أحد الأساتذة الأفاضل، يجب أن يجلس عدد أكبر بكثير لدراسة (نهج البلاغة)، عند أستاذ عالم أيضاً، فإن (نهج البلاغة)؛ أكبر وأهم في المحتوى والتأثير من أي كتاب آخر سوى القرآن الحكيم، وقد وصفه السيد الرضي (قدس الله سره): بـ "الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي".
ووصفه الشيخ محمد عبده في مقدمته لشرح نهج البلاغة بقوله: "… وأحياناً كنتُ أشهد أن عقلاً نورانياً لا يُشبه خلقاً جسدانياً فُصلَ عن الموكب الإلهي واتصل بالرُّوح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد الفوز الأجلى…".
ويقول طه حسين: "إنني لم اسمع أعظم من هذا الكلام".
فكلام أمير المؤمنين (ع) يمثِّلُ قمَّة البلاغة، وقمَّة التَّقدم في مختلف مجالات الحياة، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد: "انظر إلى البلاغة كيف تنتظم فيها الكلمات… انه يتصرف بها فينظمها كالقلادة والعقد بياناً لبراعته وقوة تأثيره فيها…".
ومن كلام للشيخ الكليني (قدس الله سره) في الكافي: "لو اجتمعت الجن والإنس على أن يُبيِّنوا التوحيد بمثل ما أتى به علي(ع) بأبي وأمي لما قدروا عليه". (وأنَّى لهم ذلك شيخنا وهم قاصرون وهو السَّابق، وهم ناقصون وهو الكامل؟).
ثم يقول السيد الإمام الراحل متأسفاً: "ولكن من المؤسف جداً؛ أن الأمّة الإسلامية لم تستفد منه تمام الاستفادة، فاقتصرت معرفته على طبقة معيَّنة من المجتمع الإسلامي، في حين أن عامَّة الناس قد حُرموا من هذا المنهل المبارك الذي هو أصل كل حركة فكرية وتقدمية ومصدر صاف لأفكار الإسلام وإشعاعاته.
فلذلك يجب أن يُدرّسَ (نهج البلاغة) في حوزاتنا العلمية، وكذلك المدارس الأكاديمية، وتنشر مفاهيمه من خلال المنابر الحسينية، وفي مختلف الكتب، وعبر الإذاعات، والصحف، والأقمار الصناعية، (الفضائيات)، وما أشبه كي يكون (نهج البلاغة)، نهج الفلاح، ونهج النجاح، والتقدم للأمة الإسلامية، بل البشرية جمعاء كما هو الواقع في ذلك". (نحن والإمام علي(ع) السيد الشيرازي: ص17)
الإمام علي (ع) ونهجه القويم
في الحقيقة والواقع الدَّعوة لدراسة وتدريس كتاب (نهج البلاغة)؛ هي دعوة لدراسة وتدريس سيرة ومسيرة الإمام علي (ع) كلها بكل تفاصيلها، وحيثياتها، منذ ولادته في بيت الله الحرام، في جوف الكعبة، ثم طفولته وتربية رسول الله (ص) له، ونزول الوحي المقدس في أول لحظة في غار حراء حيث كان مع رسول الله (ص) وسمع رنَّة الشيطان كما يُحدِّثنا في خطبته (القاصعة) العجيبة التي تحتاج لدراستها ربما سنة أو أكثر لما فيها من معلومات لا بدَّ عنها في بداية نزول الوحي على رسول الله (ص) فما زالت الأمة تأخذها من أبي هريرة الذي كان يتقلَّبُ في اليهودية أو الوثنية والشرك في دوس، أو فلانة التي كانت لم تولد –حسب زعمهم– فلماذا لا نُعطي الأمة تفاصيل ما جرى ونأخذه من أصدق الناطقين بعد رسول الله (ص) في العالمين، حيث يقول فيها: (وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.
وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: (هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر). (نهج البلاغة: خ192)
وهكذا يجب أن نتدرَّج، وندرج مع أمير المؤمنين (ع) في كل ما وصلنا في ليله ونهاره، في قومه ونومه، في جهاده وقتاله، في عبادته وتقواه، في صلاته وصيامه، في تهجده ودعائه، في طفولته وشبابه، في شدته وكهولته وشيبته، في سلمه وحربه، معارضاً لسياسة قريش ورجالها، وحاكماً وقائداً ورئيساً لدولة مترامية الأطراف، في كل صغيرة وكبيرة علينا أن ندرسها، ونُحقق فيها ونُدرِّسها لأجيالنا لتستفيد منها علماً نورانياً مباركاً، وعملاً مخلصاً حضارياً.
فعلم أمير المؤمنين (ع) جُمع بعضه في هذا النهج المبارك، وهو أكثر من ذلك بكثير، وما خفي أعظم مما ظهر، وذلك لأنه باب مدينة العلم الإلهي المستودعة عند رسول الله (ص)، وهو الذي أعطاه مفاتيحها قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى، حيث يروي (ع) فيقول: (لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة دعاني، فلما دخلتُ عليه قال لي: يا علي أنتَ وصيي، وخليفتي، على أهلي، وامتي، في حياتي، وبعد موتي، وليُّك وليِّي، ووليِّي وليُّ الله، وعدوُّك عدوِّي وعدوِّي عدوُّ الله، يا علي المُنكِر لإمامتك بعدي، كالمُنكر لرسالتي في حياتي لأنك مني، وأنا منك، ثم أدناني فأسرَّ إليَّ ألف باب من العلم، كل باب يفتح ألف باب)، وفي رواية أخرى (ألف ألف باب).
وقال(ع): (علّمني (صلى اللّه عليه وآله) ألف باب من العلم، فتح لي كلُّ باب ألفَ باب)
وقال(ع): (إنّ رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) علّمني ألف باب من العلم، يفتح كلّ باب ألف باب، ولم يعلّم ذلك أحداً غيري)
وكذلك قال (ع): (إنّ رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) علّمني ألف باب من الحلال والحرام، وممّا كان وممّا يكون إلى يوم القيامة، كلّ باب منها يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب).
روايات كثيرة ومتضافرة تدعونا لنلتزم بباب مدينة العلم في هذه الدنيا، فإذا أردنا العلم حقيقة، والسعادة واقعاً في حياتنا علينا أن ندرسَ حياة أمير المؤمنين، وكلماته ونتبعه كما كان يتَّبع رسول الله (ص) كما قال (ع): (وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ)، فصار أميراً للمؤمنين بتلك الخطوات الواثقة، ونحن لا يمكن أن نصير من المؤمنين ما لم نتَّبِع تلك الخطوات التي ستظهر لنا من خلال دراستنا لسيرة أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب (ع).
تعليق