
الشيخ ماهر الحجاج
مقدمة:الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادّون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بُعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن(١)، وصلى الله على سيد خلقه المبعوث رحمة للعالمين، محمد المصطفى وعلى آله أجمعين الطيبين الطاهرين.
الإنسان عندما خلقه الله تعالى على هذه الأرض، خلقه ضعيفاً فقيراً محتاجاً إلى من يعينه على سد احتياجاته من أبناء نوعه، كما يستفاد هذا من قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَراءُ﴾ (فاطر: ١٥)، فلذا نجده يبدأ بنسيج اجتماعي يوافق طبعه، فيبدأ من بيته، ثم محيطه - وبيئته - المتمثل بأفراد المجتمع، ثم يحاول الانفتاح على مجتمعات أخرى؛ لتبادل المنافع والتجارات، وهذا بدوره يفرز عدة أمور:
١ - تطور الصناعات لكسب أموال أكثر، وتعزيز قدرة المجتمع المصنّع وتفوقه على غيره.
٢ - تطور الجانب التجاري وتوسعه إلى جوانب مختلفة، بحيث يتمكن أغلب أفراد المجتمع أن يكونوا أعضاء فاعلين في نمو التجارة المتداولة.
٣ - تطور الجانب الإداري المجتمعي، المتمثل بنصب الحكام وطاقمه الحكومي، وذلك لحفظ أمن واستقرار المجتمع.
٤ - ومن خلال الإفراز الثالث تنبثق فكرة الدول وسيادتها وما شاكل ذلك.
وهذا ما تختصره الكلمة المتداولة: (الإنسان مدني بالطبع)، والذي تشير إليه الآية الكريمة: ﴿وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا﴾ (الحجرات: ١٣).
ومن ثم انبثق التمدن وأُنشأت الدول والحضارات، وازدهرت الأمم، وذاقت الشعوب رفاهية العيش، ولكن ذلك لم يستمر ولم يدم للناس؛ بسبب اختلاف الحضارات وتعددها، واختلاف الحكّام وتجاذبهم فيما بينهم؛ وذلك أن كلاً منهم يريد أن يعلو على الجميع، لما تمليه عليه نفسه الأمّارة - وما يحثه الشيطان - عليه من الطمع والجشع ولو كان على حساب أرواح الناس الأبرياء، وهذا ما يدعو الشعوب إلى التقاتل وسفك الدماء.
إذن: كلما توسعت الحضارات وانتشرت - وتوسع العلم وفنونه وتطورت - كان النوع البشري هو الخاسر الأوّل والأخير، حيث هو بيده يزرع بذرة التحضر ثم تنعكس عليه نتائجها سلباً - في أغلب الأحيان - فيكوى بالنار التي أوقدها.
هذا ولا يُنكر فضل العلم وتطوره، وما تنعمت به البشرية في الآونة الأخيرة، من اختصار المسافات، وتلاقح الأفكار بين العالم أجمع، ولكن هذا كله عندما نتأمل فيه نجد الدافع إليه هو حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة.
ومن هنا ينبثق نور الرحمة لينتشل البشرية من براثن الإلحاد والظلم والتعسف ببعث الأنبياء، إلّا أن الأمر الجلي والذي لا خفاء فيه - على طول مسيرة الأنبياء - هو أنهم لم يصلوا إلى غاياتهم بالتمام والكمال، ولم يستطيعوا القيام بالدولة العادلة، ولعل أكثرهم مات قتلاً من دون إتمام عمره الطبيعي، ومن هؤلاء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة المعصومون (عليهم السلام) من بعده.
إلّا أن الحال ليس كذلك بالنسبة إلى إمامنا الحجة (عجَّل الله فرجه) الذي ينتظره المؤمنون حقاً، والذي ادّخره الله تعالى لكي يملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، فإنّه (عجَّل الله فرجه) - كما هو الثابت في الآثار والأخبار - سوف يظهر بعد طول غيابه ويقيم الحق ويدحض الباطل بإقامة دولة الحق الكبرى، وعندها تشرق الأرض بنور ربها، وتنزل البركات على الناس، وإلى ذلك يشير ما ورد في دعاء الافتتاح: «اللهم اجعله الداعي إلى كتابك والقائم بدينك، استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله، مكّن له دينه الذي ارتضيته له، أبدله من بعد خوفه أمنا، يعبدك لا يشرك بك شيئاً.
اللهم أعزه وأعزز به، وانصره وانتصر به، انصره نصراً عزيزاً. اللهم أظهر به دينك وملة [وسنة] نبيك، حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق.
اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(٢).
والنقطة المهمة في هذا البحث هي: ما هي العوامل التي تتوفر في دولة آخر الزمان والتي تساعدها على القيام بقوة في قبال العالم بأسره، بحيث يستطيع الإمام الحجة (عجَّل الله فرجه) من الحكم فيها طويلاً؟
أو قل بعبارة أخرى: ما هي عناصر القوة التي تقوّم بناء دولة آخر الزمان وديمومتها، بحيث يعيش الناس فيها سعداء قريري العين؟
وفي هذا البحث نحاول تسليط الضوء على أهم عناصر القوة في دولة آخر الزمان، وذلك لمعرفة بعض التفاصيل والنتائج المستفادة من خلال جمع العناصر مع بعضها، بحيث ننظر إليها نظرة مجموعية لا نظرة مفردة، فنكوّن من خلال ذلك صورة جديدة عن دولة آخر الزمان. والحمد لله رب العالمين.
يتبع
تعليق