بسم الله الرحمن الرحيم
اللّهم صلِ على محمد وآله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللّهم صلِ على محمد وآله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ } سُورَةُ النَّحلِ (111)
سبب النّزول
ذَكرَ بَعضُ المفسّرونَ في شَأنِ نُزولِ الآيةَ الأولى مِنْ هذهِ الآياتِ أنّهَا: نَزلتْ فِي جَماعةٍ أُكرِهُوا- وَهو: عَمَّارٌ و أبوهُ ياسرُ و أمُّهُ سُمَّيَّةُ وَ صَهيَبٌ و بِلالٌ و خبّابٌ- عُذّبُوا و َقُتلَ أبو عمَّارٍ و أمُّهُ و أعطَاهُمُ عَمَّارٌ بِلسَانِهِ مَا أَرادوا مِنْهُ، ثُمَّ أخبرَ سُبحَانَهُ بِذلكَ رَسولَهَ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فَقالَ قَومٌ: كَفَرَ عمّارٌ و جاءَ عمّارُ إلَى رَسولِ اللّهِ وَهو يَبكي، فَقالَ النّبيُّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «مَا وَراءَكَ»؟ فَقالَ: شرٌّ يَا رسولَ اللّهِ ، مَا تُركتُ حَتَى نِلتُ مِنْكَ وَذكرتُ آلِهَتَهُمُ بِخيرٍ، فَجعَلَ رَسولُ اللّهِ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَمسحُ عَينيَهِ وَيقولُ: «إنْ عَادُوا لَكَ فَعُد لَهم بِمَا قُلتَ»، فَنَزَلَتِ الآيةُ.
التّفسير:-
المُرتدونُ عَنِ الإسلامِ:-
تُكْمِلُ هَذهِ الآياتُ مَا شَرَعَتْ بِهِ الآياتُ السَابقةُ مِنَ الحَديثِ عَنِ المُشرِكيِنَ وَالكُفَارِ ومَا كَانُوا يَقُومونَ بِهِ، فَتتناولُ الآياتُ فِئةً أُخرَى مِنَ الكَفرةِ وَهُمُ المُرتَدونَ حَيثُ تَقولُ الآيةُ الأولَى:{ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ، وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ }
و تُشِيرُ الآيةُ إلَى نَوعينِ مِنَ الّذينَ كَفروا بَعدَ إيمَانِهِم:-
النَّوعُ الأوّلُ:هُمُ الُذينَ يَقعونَ في قَبضةِ العَدوِ الغَاشمِ ويتحملونَ أذَاهُ وتَعذيبَهُ، ولَكنَّهُمُ لَا يَصبرونَ تَحتَ ضَغطِ مَا يُلاقُوهُ مِنْ أعداءِ الإسلامِ، فَيُعلنونَ بَراءتَهُمُ مِنَ الإسلامِ و وَلاءَهُمُ لِلكُفرِ، عَلَى أنّ مَا يُعلِنُوهُ لَا يَتَعدَى حَركةِ الّلسانِ، وأمّا قَلوبُهُم فَتَبقَى مُمتَلِئَةً بالإيمان.
فَهَذا النَّوعُ يَكونُ مَشمُولاً بِالعفوِ الإلَهِي بِلَا رَيبٍ، بَلْ لَمْ يَصدُرُ مِنْهُمُ ذَنبٌ، لأنَّهُم قَدْ مَارَسُوا التَّقِيَّةَ الّتي أحَلَها الإسلامُ لحفظِ النَّفسِ وَ حِفظِ الطَّاقاتِ لِلاستِفادِةِ مِنْهَا فِي طَريقِ خِدمَةِ دِينِ اللّهِ عَزّ و جَلّ.
النَّوعُ الثّانِي: هُمُ الّذينَ يَفتحونَ لِلكُفرِ أبوابَ قُلوبِهُمُ حَقيقةً، و يُغيّرونَ مَسِيرَتَهُمُ و يَتخلّونَ عَنْ إيمانِهِم، فهؤلاءُ يَشمَلُهُم غَضَبَ اللّهِ عَزّ و جَلّ وَعَذابَهُ العَظيمُ وَيُمكنُ أنْ يَكونَ «غَضبُ اللّهِ» إشارةً إلَى حِرمانِهِم مِنَ الرَّحمةِ الإلهيَّةِ و الهِدايَّةِ فِي الحَياةِ الدُّنيا، و«العذابِ العَظيمِ» إشارةً إلَى عِقابِهِم في الحَياةِ الأُخرَى .. وعلَى أيّةَ حالٍ، فَمَا جاءَ في الآيةِ مِنْ وَعيدٍ للمُرتدينَ هو في غايةِ الشَّدةِ ، وتَتطرقُ الآيةُ التاليَّةُ إلَى أسبابِ إرتدادِ هؤلاءِ، فتقولُ:{ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ } الذين يصرّون على كفرهم و عنادهم ، إنتهى .
و خُلاصةُ المَقالِ: حِينَ أَسلَمَ هَؤلاءِ تَضَررتْ مَصالِحُهُم المَاديَّةِ وتَعرضتْ لِلخطرِ المُؤقتِ، فَنَدمُوا عَلَى إسلامِهِم لِشدّةِ حُبّهِم لدُّنياهُم، وَعَادوا خَاسئينَ إلَى كُفرِهِم
وَبَديهيٌ أنَّ مَنْ لَا يَرغَبُ فِي الإيمانِ وَلَا يُسمَحُ لَهُ بِالدخولِ إلَى أعماقِ نَفسِهِ، لَا تَشْمُلُهُ الهِدايَّةُ الإلَهيَّةُ، لأنَّ الهِدايَّةَ تَحتاجُ إلَى مُقدماتٍ كَالسَعي لِلحصولِ عَلَى رِضوانِهِ سُبحَانَهُ وَالجهادِ في سَبيلِهِ، وَهَذا مِصداقٌ لِقولِهِ عَزّ و جَلّ في آخرِ سورةِ العنكبوتِ:{ وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا } الامثلُ في تفسيرِ كتابِ اللهِ المُنزلِ المؤلفُ : الشيخُ ناصر مَكارم الشيرازيِّ، الجزء : 8 صفحة : 335-338 .
وَنحنُ يَهُمُنَا في هذهِ العُجالةِ أنْ نَنتَبِه كَي لانكونَ مِنْ أهلِ النَّوعِ الثَانِي ، حَيثُ الصائمُ فِي شَهرِ رَمَضانَ يَتعرَضُ لِكثيرٍ مِنَ الضَغطِ الشَّيطانيِّ لِيَحرِفَهُ عَنِ المَسارِ العِبادِيِّ الحَقيقيُّ إلَى المَسارِ العِباديِّ المُزيفِ ، بِمَا مَعناهُ مَثلاً أنَّكَ صَائمٌ وَيجوزُ لَكَ أنْ تَسهرَ عَلَى التِلفزيونِ ووسائلِ التواصلِ الإجتمَاعيِّ وَطَبعاً مِنْ خِلالِها يُوجدُ الغَثُ والسَمينُ وَتُسِّوغُ لِنفسكَ مُشاهدةَ وَمُتابعَةَ الحَلقاتِ بشغفٍ لأنَّ جُلَّ أبْطَالِها مِنَ النِساءِ العَارياتِ والمُتَمَيعَاتِ والرِجالِ الغَارقونَ في المَلذاتِ والشَهواتِ والعلاقاتِ الجِنْسِيَّةِ الغيرِ الشَرعِيَّةِ ومُوضاتِ المَلابسِ الغَربيَّةِ وَقصاتِ الشَعرِ الغَريبَةِ ومَا شَابَهَ ليسَ هَذا فَحسبُ وإنَّمَا الأباءُ والأمهاتُ الّذينَ يَسمحونَ ويُشَجِعونَ بَناتَهُم وأبنَائَهُم عَلَى مِثلِ هذهِ الأمورِ فتكونُ الأبوةُ وألأمومةُ عِنوانٌ عَريضٌ لِلسماحِ بالإنحرافِ مِنْ خلالِ العَاطفةِ السَلبيَّةِ ، وَهذا مَاحَذَرَ اللهُ مِنْهُ في هذهِ الآياتِ الشَّريفةِ وَنَحنُ نُذكِّرُ فإنَّ الذِكرى تَنفعُ المؤمنينَ ، فيجبُ أنْ نَجعلَ شَهرَ رَمضانَ طريقٌ للتوبَةِ مِنْ ِمثلِ هذهِ الإمورِ والعَودِ إلَى اللهِ بقلوبٍ سَليمةٍ ، جَعَلَنَا اللهُ وإياكم مِنَ التَائبينَ العابدينَ العائدينَ إلَى اللهِ العَلِيِّ العَظيمِ الغفورِ الرَّحيمِ .
تعليق