بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
هي تعني الوقوف إلى جنب شخصٍ أو مجموعة أشخاص، لمشاركتهم في كلّ ما يعنيهم في حياتهم، فيتحوّل المجتمع بكلّ أفراده إلى كتلةٍ واحدةٍ متراصّةٍ متشابكة. إنّها المواساة، التي سمت على الخلافات البشريّة، والتي سنتناولها في محورَين أساسَين: المواساة من الجهة الإنسانيّة، والمواساة من الجهة الدينيّة، ومسؤولية الإنسان تُجاهها.
* أوّلاً: المواساة مسؤوليّةٌ إنسانيّة
1- دافعٌ فطريّ: من ينظر بعين البصيرة إلى خلق الله تعالى، وبالأخصّ إلى الأحياء منهم، يجد أنّهم يعيشون وفق ما زرع الله تعالى فيهم من نمط سلوك وأسلوب حياة. فالإنسان كائنٌ اجتماعيّ، يعيش نمط الجماعة والأسرة والقبيلة، وهذا النمط الجماعيّ يسمو فوق نمط العيش الفرديّ؛ فالجماعة أكثر رقيّاً وسموّاً من الفرديّة؛ إذ تتجلّى في الجماعة القيم والكمالات. وأبرز هذه القيم التي تؤّمن اللُّحمة والتعاضد والتماسك بين أفراد المجتمع الواحد، هي قيمة المواساة.
ويُستدلّ على فطريّة هذه القيمة من سيرة العقلاء؛ إذ إنّنا نجد عقلاء المجتمعات البشريّة، حتّى غير المتديّنة منها، يمدحون من يملك القيم الأخلاقيّة ويذمّون من يخرج عليها، ويرمون من لا يشعر مع سائر أفراد المجتمع ويواسيهم بأبشع العبارات والتّهم وأقبح الأوصاف، بل يذمّ بعضهم من يؤذي أيّ حيوان، حتّى المفترس منها، وينذرون أنفسهم لخدمة هذه الحيوانات ومنع الاعتداء عليها.
2- المصلحة العامّة: المواساة هي من القيم الأساسيّة التي تنسج بخيوطها قلوب الأفراد فتجعلها متّصلة ومترابطة، فتوحّدها على هدف يخدم المجتمع العام، فيخرج الإنسان من محدوديّة المصلحة الخاصّة إلى المصلحة العامّة غير المحدودة، فيصبح الفرد أمّة، وتصبح الأمّة مندكّةً في الفرد، كما وصف الله سبحانه خليله إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا﴾ (النحل: 120). ويصبح عندها المجتمع الإنسانيّ مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"(1).
3- الإنسانيّة تُقاس بالقيم: إنّ قياس إنسانيّة الإنسان لا يتمّ بالشكل والصورة المميّزة له، عن سائر ما خلق الله تعالى، بل من خلال القيم والمعاني الإنسانيّة التي يملكها. وهذا مخالفٌ للحاصل في أيّامنا؛ إذ يتلهّى الناس بقشور الماديّات، وعلى أساسها يقدّرون قيمة الفرد والمجتمع.
من هنا، على الإنسان الذي يريد أن يعيش ضمن معايير الإنسانيّة أن يتمسّك بهذه القيم؛ فيحمل في قلبه حبّ الخير والشعور بالآخر ومواساة الأفراد، ويبني سلوكه عليها، ويرى حياته قائمةً على مبدأ أنّ أحبّ الخلق إلى الله تعالى أنفعهم لعياله؛ فيصبح حبّ الخلق لديه من حبّ الله، وخدمة عياله لحبّ خالقهم، عندها، يصبح إنساناً بمعنى الكلمة.
* ثانياً: المواساة مسؤوليّةٌ دينيّة
لا شكّ في أنّ الإسلام، بأوامره ونواهيه، موافقٌ لما زُرع في هذه الفطرة الإنسانيّة ومُنسجم معها؛ فالدين القويم والفطرة السليمة يدلّان على أمر واحد، ويرشدان إلى طريق واحد.
وهذا ما أشارت إليه الآيات القرآنيّة والروايات، نشير إلى بعضها في ما يأتي:
1- المواساة في القرآن: على صعيد القرآن، نجد العديد من الآيات الشريفة التي تدعو الإنسان إلى مواساة الآخرين؛ بمعنى المواساة الشاملة، نشير إلى بعض منها:
أ- قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ (الطور: 48).
ففي هذه الآية الشريفة، يُظهر الله سبحانه وتعالى المواساة صفةً من صفاته عزّ وجلّ، حيث واسى نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبره سبحانه أنّه يرى ما يتحمّل صلى الله عليه وآله وسلم من أذى المنكرين لنبوّته، وصعوبات لتطبيق أوامره تعالى، فيأتي كلام الله سبحانه ليواسي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويُشعره بالحضور الدائم.
ب- تتجلّى أيضاً المواساة الإلهيّة عندما واسى الله سبحانه السيّدة مريم عليها السلام، حيث قالت وهي في أحلك ظروفها وأعظمها، فحكى القرآن الكريم قولها: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا﴾ (مريم: 23). فجاءت المواساة الإلهيّة في الآيات التي بعدها: ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ (مريم: 24-26).
ج- وأعظم ما في المواساة أن يقدّم الإنسان الآخرين على نفسه، وهو ما حصل مع أهل بيت النبوّة عليهم السلام: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾ (الإنسان: 8-9)؛ إذ بلغت المواساة حدّ فناء الذات، وتحقيق رضى الله سبحانه، وإظهار المحبّة والطاعة عبر خلقه، فكان المسكين واليتيم والأسير عناوين هذا العشق الإلهيّ.
2- المواساة في الروايات: ثمّة ميزةٌ بارزةٌ في الروايات الشريفة، ذات الطابع التربويّ والتهذيبيّ للإنسان، حيث تطرح أنّ المؤمن يُقاس بمدى خدمته للآخر، لنيل رضى الخالق سبحانه، ليصبح كلّ الوجود انعكاساً للرحمة الإلهيّة، وتجلّياً لحبّ الله لخلقه سبحانه.
وسنذكر في هذا المجال طائفةً من الروايات:
أ- عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من واسى الفقير وأنصف الناس من نفسه، فذلك هو المؤمن حقّاً"(2).
ب- عن إمام المتّقين عليّ بن أبي طالب قوله عليه السلام: "المواساة أفضل الأعمال"(3).
ج- وعن الإمام الصادق عليه السلام: "تقرّبوا إلى الله تعالى بمواساة إخوانكم"(4).
د- ومن عظيم ما ورد، الروايات التي تُخرج المؤمن من دائرة الأخوّة، إذا فقد المواساة لإخوانه، فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام بقوله للوصافي: "أرأيت في من قبلكم إذا كان الرجل ليس عليه رداءٌ، وعند بعض إخوانه رداءٌ يطرحه عليه؟ قال: لا، قال عليه السلام: فإذا كان ليس عنده إزار، يوصل إليه بعض إخوانه بفضل إزاره، حتّى يجد له إزاراً؟ قال: لا. فضرب عليه السلام بيده على فخذه ثمّ قال عليه السلام: ما هؤلاء بإخوة"(5).
* العبّاس عليه السلام.. أعظم المواسين
تبقى أعلى مراتب المواساة ما قام به العبّاس عليه السلام مع أخيه وإمامه وسيّده الحسين عليه السلام، والذي شهد به إمامان من أئمّة أهل البيت عليهم السلام؛ فقد ظهر من كلامهما عليهما السلام أنّ أعظم صفة للعبّاس عليه السلام هي المواساة، فوُصف بـ"المواسي". فقد ورد في زيارة العبّاس عليه السلام الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام: "أشهد لقد نصحت لله ولرسوله، ولأخيك، فنعم الأخ المواسي"(6)، وورد في زيارة الناحية عن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف قوله: "السلام على أبي الفضل العبّاس، ابن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه..."(7).
فأيّ مواساةٍ أعظم من هذه، ومن يُدانيه في هذا المقام؟! حيث واسى العبّاس عليه السلام الحسين عليه السلام بنفسه، مقدّماً نفسه فداءً له قطعةً قطعة، وضربةً بعد ضربة، وطعنةً بعد طعنة، حتّى كان بحقّ، كما كنّاه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، أبا الفضل.
* المواساة.. نمط حياة
يجب أن تتحوّل المواساة إلى نمط حياةٍ يحكم العلاقات بين أفراد المجتمع الإيمانيّ، وبذلك تختفي المشاكل، ويسود الانسجام والمحبّة والوئام.
وإنّ ما نراه في مجتمعنا من تكافل، وأخوّة صادقة، ومواساةٍ حقيقيّة على صعيد تقاسم لقمة العيش، في ظلّ هذا الحصار الظالم على البيئة الممانعة والرافضة للاستسلام أمام مستكبر، هو أحد أشكال المواساة وأهمّها في وقتنا الحاضر. ومن لا يملك القدرة على المساعدة، فالأفضل أن لا يُظهر مأكله ومشربه، فضلاً عن طريقة عيشه؛ كي لا يسبّب الألم والحسرة لغيره، وهذا بحدّ ذاته شعورٌ نبيلٌ وشكلٌ من أشكال المواساة.
وفي الختام، الله الله في المواساة، لنجعلها عنوان تقرّبنا إلى الله تعالى؛ فمن أحبّ الله سبحانه أحبّ خلقه، ومن أحبّ خلقه تعالى سعى لخدمتهم، وجعل خدمتهم الوسيلة للتقرب إليه عزّ وجلّ.
(1) ميزان الحكمة، الريشهري، ج 4، ص 2837.
(2) (م. ن.).
(3) (م. ن.).
(4) (م. ن.).
(5) وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج8، ص 414.
(6) بحار الأنوار، المجلسي، ج98، ص 219.
(7) (م. ن.)، ج45، ص 66.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
هي تعني الوقوف إلى جنب شخصٍ أو مجموعة أشخاص، لمشاركتهم في كلّ ما يعنيهم في حياتهم، فيتحوّل المجتمع بكلّ أفراده إلى كتلةٍ واحدةٍ متراصّةٍ متشابكة. إنّها المواساة، التي سمت على الخلافات البشريّة، والتي سنتناولها في محورَين أساسَين: المواساة من الجهة الإنسانيّة، والمواساة من الجهة الدينيّة، ومسؤولية الإنسان تُجاهها.
* أوّلاً: المواساة مسؤوليّةٌ إنسانيّة
1- دافعٌ فطريّ: من ينظر بعين البصيرة إلى خلق الله تعالى، وبالأخصّ إلى الأحياء منهم، يجد أنّهم يعيشون وفق ما زرع الله تعالى فيهم من نمط سلوك وأسلوب حياة. فالإنسان كائنٌ اجتماعيّ، يعيش نمط الجماعة والأسرة والقبيلة، وهذا النمط الجماعيّ يسمو فوق نمط العيش الفرديّ؛ فالجماعة أكثر رقيّاً وسموّاً من الفرديّة؛ إذ تتجلّى في الجماعة القيم والكمالات. وأبرز هذه القيم التي تؤّمن اللُّحمة والتعاضد والتماسك بين أفراد المجتمع الواحد، هي قيمة المواساة.
ويُستدلّ على فطريّة هذه القيمة من سيرة العقلاء؛ إذ إنّنا نجد عقلاء المجتمعات البشريّة، حتّى غير المتديّنة منها، يمدحون من يملك القيم الأخلاقيّة ويذمّون من يخرج عليها، ويرمون من لا يشعر مع سائر أفراد المجتمع ويواسيهم بأبشع العبارات والتّهم وأقبح الأوصاف، بل يذمّ بعضهم من يؤذي أيّ حيوان، حتّى المفترس منها، وينذرون أنفسهم لخدمة هذه الحيوانات ومنع الاعتداء عليها.
2- المصلحة العامّة: المواساة هي من القيم الأساسيّة التي تنسج بخيوطها قلوب الأفراد فتجعلها متّصلة ومترابطة، فتوحّدها على هدف يخدم المجتمع العام، فيخرج الإنسان من محدوديّة المصلحة الخاصّة إلى المصلحة العامّة غير المحدودة، فيصبح الفرد أمّة، وتصبح الأمّة مندكّةً في الفرد، كما وصف الله سبحانه خليله إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا﴾ (النحل: 120). ويصبح عندها المجتمع الإنسانيّ مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"(1).
3- الإنسانيّة تُقاس بالقيم: إنّ قياس إنسانيّة الإنسان لا يتمّ بالشكل والصورة المميّزة له، عن سائر ما خلق الله تعالى، بل من خلال القيم والمعاني الإنسانيّة التي يملكها. وهذا مخالفٌ للحاصل في أيّامنا؛ إذ يتلهّى الناس بقشور الماديّات، وعلى أساسها يقدّرون قيمة الفرد والمجتمع.
من هنا، على الإنسان الذي يريد أن يعيش ضمن معايير الإنسانيّة أن يتمسّك بهذه القيم؛ فيحمل في قلبه حبّ الخير والشعور بالآخر ومواساة الأفراد، ويبني سلوكه عليها، ويرى حياته قائمةً على مبدأ أنّ أحبّ الخلق إلى الله تعالى أنفعهم لعياله؛ فيصبح حبّ الخلق لديه من حبّ الله، وخدمة عياله لحبّ خالقهم، عندها، يصبح إنساناً بمعنى الكلمة.
* ثانياً: المواساة مسؤوليّةٌ دينيّة
لا شكّ في أنّ الإسلام، بأوامره ونواهيه، موافقٌ لما زُرع في هذه الفطرة الإنسانيّة ومُنسجم معها؛ فالدين القويم والفطرة السليمة يدلّان على أمر واحد، ويرشدان إلى طريق واحد.
وهذا ما أشارت إليه الآيات القرآنيّة والروايات، نشير إلى بعضها في ما يأتي:
1- المواساة في القرآن: على صعيد القرآن، نجد العديد من الآيات الشريفة التي تدعو الإنسان إلى مواساة الآخرين؛ بمعنى المواساة الشاملة، نشير إلى بعض منها:
أ- قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ (الطور: 48).
ففي هذه الآية الشريفة، يُظهر الله سبحانه وتعالى المواساة صفةً من صفاته عزّ وجلّ، حيث واسى نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبره سبحانه أنّه يرى ما يتحمّل صلى الله عليه وآله وسلم من أذى المنكرين لنبوّته، وصعوبات لتطبيق أوامره تعالى، فيأتي كلام الله سبحانه ليواسي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويُشعره بالحضور الدائم.
ب- تتجلّى أيضاً المواساة الإلهيّة عندما واسى الله سبحانه السيّدة مريم عليها السلام، حيث قالت وهي في أحلك ظروفها وأعظمها، فحكى القرآن الكريم قولها: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا﴾ (مريم: 23). فجاءت المواساة الإلهيّة في الآيات التي بعدها: ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ (مريم: 24-26).
ج- وأعظم ما في المواساة أن يقدّم الإنسان الآخرين على نفسه، وهو ما حصل مع أهل بيت النبوّة عليهم السلام: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾ (الإنسان: 8-9)؛ إذ بلغت المواساة حدّ فناء الذات، وتحقيق رضى الله سبحانه، وإظهار المحبّة والطاعة عبر خلقه، فكان المسكين واليتيم والأسير عناوين هذا العشق الإلهيّ.
2- المواساة في الروايات: ثمّة ميزةٌ بارزةٌ في الروايات الشريفة، ذات الطابع التربويّ والتهذيبيّ للإنسان، حيث تطرح أنّ المؤمن يُقاس بمدى خدمته للآخر، لنيل رضى الخالق سبحانه، ليصبح كلّ الوجود انعكاساً للرحمة الإلهيّة، وتجلّياً لحبّ الله لخلقه سبحانه.
وسنذكر في هذا المجال طائفةً من الروايات:
أ- عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من واسى الفقير وأنصف الناس من نفسه، فذلك هو المؤمن حقّاً"(2).
ب- عن إمام المتّقين عليّ بن أبي طالب قوله عليه السلام: "المواساة أفضل الأعمال"(3).
ج- وعن الإمام الصادق عليه السلام: "تقرّبوا إلى الله تعالى بمواساة إخوانكم"(4).
د- ومن عظيم ما ورد، الروايات التي تُخرج المؤمن من دائرة الأخوّة، إذا فقد المواساة لإخوانه، فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام بقوله للوصافي: "أرأيت في من قبلكم إذا كان الرجل ليس عليه رداءٌ، وعند بعض إخوانه رداءٌ يطرحه عليه؟ قال: لا، قال عليه السلام: فإذا كان ليس عنده إزار، يوصل إليه بعض إخوانه بفضل إزاره، حتّى يجد له إزاراً؟ قال: لا. فضرب عليه السلام بيده على فخذه ثمّ قال عليه السلام: ما هؤلاء بإخوة"(5).
* العبّاس عليه السلام.. أعظم المواسين
تبقى أعلى مراتب المواساة ما قام به العبّاس عليه السلام مع أخيه وإمامه وسيّده الحسين عليه السلام، والذي شهد به إمامان من أئمّة أهل البيت عليهم السلام؛ فقد ظهر من كلامهما عليهما السلام أنّ أعظم صفة للعبّاس عليه السلام هي المواساة، فوُصف بـ"المواسي". فقد ورد في زيارة العبّاس عليه السلام الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام: "أشهد لقد نصحت لله ولرسوله، ولأخيك، فنعم الأخ المواسي"(6)، وورد في زيارة الناحية عن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف قوله: "السلام على أبي الفضل العبّاس، ابن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه..."(7).
فأيّ مواساةٍ أعظم من هذه، ومن يُدانيه في هذا المقام؟! حيث واسى العبّاس عليه السلام الحسين عليه السلام بنفسه، مقدّماً نفسه فداءً له قطعةً قطعة، وضربةً بعد ضربة، وطعنةً بعد طعنة، حتّى كان بحقّ، كما كنّاه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، أبا الفضل.
* المواساة.. نمط حياة
يجب أن تتحوّل المواساة إلى نمط حياةٍ يحكم العلاقات بين أفراد المجتمع الإيمانيّ، وبذلك تختفي المشاكل، ويسود الانسجام والمحبّة والوئام.
وإنّ ما نراه في مجتمعنا من تكافل، وأخوّة صادقة، ومواساةٍ حقيقيّة على صعيد تقاسم لقمة العيش، في ظلّ هذا الحصار الظالم على البيئة الممانعة والرافضة للاستسلام أمام مستكبر، هو أحد أشكال المواساة وأهمّها في وقتنا الحاضر. ومن لا يملك القدرة على المساعدة، فالأفضل أن لا يُظهر مأكله ومشربه، فضلاً عن طريقة عيشه؛ كي لا يسبّب الألم والحسرة لغيره، وهذا بحدّ ذاته شعورٌ نبيلٌ وشكلٌ من أشكال المواساة.
وفي الختام، الله الله في المواساة، لنجعلها عنوان تقرّبنا إلى الله تعالى؛ فمن أحبّ الله سبحانه أحبّ خلقه، ومن أحبّ خلقه تعالى سعى لخدمتهم، وجعل خدمتهم الوسيلة للتقرب إليه عزّ وجلّ.
(1) ميزان الحكمة، الريشهري، ج 4، ص 2837.
(2) (م. ن.).
(3) (م. ن.).
(4) (م. ن.).
(5) وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج8، ص 414.
(6) بحار الأنوار، المجلسي، ج98، ص 219.
(7) (م. ن.)، ج45، ص 66.
تعليق