بعد الجرح القاتل الذي اصاب رأس أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) من ضربة سيف (اللعين عدو الله ابن ملجم المرادي) أخذ الامام (ع) يوصي اصحابه ويدعوهم لإقامة حدود الله عزّ وجلّ، يحذرهم من الهوى والتراجع عن حمل الرسالة الإسلامية.
قال محمد بن الحنفية (رض): لما اصبح أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم العشرين من شهر رمضان، استأذن الناس عليه فأذن لهم بالدخول، فدخلوا عليه واقبلوا يسلمون عليه وهو يرد عليهم السلام ثم يقول: (أيها الناس اسألوني قبل أن تفقدوني، وخففوا سؤالكم لمصيبة أمامكم)، فبكى الناس بكاء شديدا، وأشفقوا أن يسألوه تخفيفا عنه فقام إليه (حجر بن عدي الكندي) وانشد قائلا:
فـــــيا أســـــفي عــــلى الــمـولى التقي أبــــــي الأطــــــهار حــــــيدرة الــزكي
قتـله كـــــافر حـنــــــث زنـــيـــــم لعــين فـــــــــاســــق نــــــغل شقـــي
فــــيلعن ربـنا مـــــن حاد عــنكم ويــــــبرء منــــــــكم لعـــــــناً وبيّ
لأنكم بـــــيوم الحـشر ذخـــري وأنــــــتــم عـــــدة الهـــــادي النـــــبي
حجر شهيد البراءة
فلما بصر به الإمام (ع) وسمع شعره قال له: كيف بك إذا دعيت إلى البراءة مني؟ فما عساك أن تقول؟
فقال: والله يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف إربا إربا، وأضرم لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك.
فقال (عليه السلام): وفقت لكل خير يا حجر، جزاك الله عن أهل بيت نبيك.
الأصبغ على باب الامام (ع)
واجتمع الناس على باب بيت الإمام (ع) فخرج إليهم الإمام الحسن (ع) وأمرهم عن قول أبيه (ع) بالانصراف، فانصرف الناس، وكان (الأصبغ بن نباتة) جالسا فلم ينصرف، فخرج الإمام الحسن (ع) مرة ثانية وقال: يا أصبغ أما سمعت قولي عن أمير المؤمنين (ع)؟
فقال: بلى، ولكني رأيت حاله، فأحببت أن أنظر إليه فأسمع منه حديثا، فاستأذن لي رحمك الله.
فدخل الحسن (ع) ولم يلبث أن خرج فقال له: أدخل.
قال الأصبغ: فدخلت على أمير المؤمنين (ع) فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء فلم أشعر أن وجهه أشد صفرة من العمامة أو العمامة أشد صفرة منه.. وقد نزف الدم.. واصفر وجهه.. فأكببت عليه فقبلته وبكيت. فقال لي: لا تبك يا أصبغ.. فإنها والله الجنة.
فقلت له: جعلت فداك إني اعلم والله انك تصير إلى الجنة، وإنما أبكي لفقدك يا أمير المؤمنين. ثم دعى بابنيه الحسن والحسين وفتح يده وضمهما إلى صدره وعيناه تهملان دموعاً، ثم أغمي عليه ساعة طويلة وأفاق، وإذا هو يرفع فخذا ويضع أخرى من شدة الضربة وكثرة السم.
فقال لي: يا أصبغ أما سمعت قول الحسن عن قولي؟
قلت: بلى يا أمير المؤمنين، ولكني رأيتك في حالة فأحببت النظر إليك، وأن أسمع منك حديثا.
وصايا الامام (ع) للأصبغ
فقال لي: اقعد، فما أراك تسمع مني حديثاً بعد يومك هذا، اعلم يا أصبغ أني أتيت رسول الله (ص) عائدا كما جئتَ الساعة فقال: يا أبا الحسن اخرج فناد في الناس: الصلاة جامعة، واصعد المنبر وقم دون مقامي بمرقاة، وقل للناس: ألا من عق والديه فلعنة الله عليه، ألا من أبقَ من مواليه فلعنة الله عليه، ألا من ظلم أجيراً أجرتَه فلعنة الله عليه.
يا أصبغ: ففعلت ما أمرني به حبيبي رسول الله (ص)، فقام من أقصى المسجد رجل فقال: يا أبا الحسن تكلمت بثلاث كلمات أوجزتهن. فلم أر جوابا حتى أتيت رسول الله (ص) فقلت ما كان من الرجل؟
قال الأصبغ: ثم أخذ بيدي وقال: يا أصبغ ابسط يدك، فبسطت يدي، فتناول إصبعا من أصابع يدي وقال يا أصبغ كذا تناول رسول الله إصبعا من أصابع يدي، كما تناولت إصبعاً من أصابع يدك، ثم قال: يا أبا الحسن ألا وإني وأنت أبوا هذه الأمة، فمن عقنا فلعنة الله عليه، ألا وإني وأنت موليا هذه الأمة، من أبقَ عنا لعنة الله عليه، ألا وإني وأنت أجيرا هذه الأمة، فمن ظلمنا أجرنا فلعنة الله عليه، ثم قال: آمين. فقلت: آمين.
قال الأصبغ: ثم أغمي على الإمام فأفاق وقال لي: أقاعد أنت يا أصبغ؟
قلت: نعم يا مولاي.
قال: أزيدك حديثا آخر؟
قلت: نعم، زادك الله من مزيدات الخير.
قال: يا أصبغ لقيني رسول الله (ص) في بعض طرقات المدينة وأنا مغموم، قد تبين الغم في وجهي قال لي: يا أبا الحسن أراك مغموما، ألا أحدثك بحديث لا تغتم بعده أبدا؟ قلت: نعم قال: إذا كان يوم القيامة نصب الله منبرا يعلو منابر النبيين والشهداء ثم يأمرني الله أن أصعد فوقه ثم يأمرك الله أن تصعد دوني بمرقاة ثم يأمر الله ملكين فيجلسان دونك بمرقاة، فإذا استقللنا على المنبر لا يبقى أحد من الأولين والآخرين إلا حضر، فينادي الملك الذي دونك بمرقاة معاشر الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا رضوان خازن الجنان، ألا إن الله بمنه وكرمه وفضله وجلاله أمرني أن أدفع مفاتيح الجنة إلى محمد، وأن محمدا أمرني أن أدفعها إلى علي بن أبي طالب، فاشهدوا لي عليه.
ثم يقوم الذي تحت ذلك الملك بمرقاة منادياً يسمعه أهل الموقف: معاشر الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا مالك خازن النيران، ألا إن الله بمنه وكرمه وفضله وجلاله قد أمرني أن أدفع مفاتيح النار إلى محمد، وأن محمدا أمرني أن أدفعها إلى علي بن أبي طالب، فاشهدوا لي عليه. فآخذ مفاتيح الجنان والنيران. يا علي فتأخذ بحجزتي، وأهل بيتك يأخذون بحجزتك، وشيعتك يأخذون بحجزة أهل بيتك.
قال الإمام: فصفقت بكلتا يدي وقلت: وإلى الجنة يا رسول الله؟ قال: إي ورب الكعبة.
أهل البيت-الكوثر