بقلم: مجتبى السادة
إننا نعيش فترة أيام حاسمة في تاريخ البشرية الفكري، بما تنطوي عليه من تحولات ثقافية ومخاضات فكرية كبرى من قبيل صراع الحضارات أو حوار الحضارات أو تكامل الحضارات أو.... وانطلاقاً من القرآن الكريم الذي أسس لمبدأ (تعارف الحضارات) بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: ١٣).. فالأمم والشعوب والحضارات(١) مهما تنوعت وتوزعت على مساحات الأرض إلّا أنها مطالبة بالتعارف، وهذا ما يريده سبحانه وتعالى للإنسانية، وهو مستوى رفيع وراقٍ من العلاقات، وهذا يستتبع معه الانفتاح والتواصل والحوار، والذي من أبعاده أن تتعرف كل أمّة وكل حضارة على أفكار وثقافات وعقائد الأمم والحضارات الأخرى، ومن هذه الأمور المتفق عليها والمشتركة فكرة المخلص الموعود، مما يتطلب منا مهمة ومسؤولية تعريف وإيضاح حقيقة المهدوية للأمم والشعوب الأخرى.
تعريف المهدوية للآخر ضرورة حضارية:
التطلع إلى قراءة العقيدة المهدوية من منحى عقلي وعلى ضوء فلسفة التاريخ، يتطلب منّا أن ندرسها برؤية حضارية باعتبارها قيمة إنسانية عُليا ومسألة مصيرية متعلقة بمستقبل البشرية.
كثيرون بحثوا القضية المهدوية من ناحية النصوص والروايات، وكثيرون دخلوا في مسائل كلامية ومناظرات بهذا الخصوص، غير أن الدراسات الفكرية والتي تبحث هذه المسألة برؤية حضارية قليلة جداً، ولا نبالغ إن قلنا: ابتعادنا عن دراسة المهدوية من منظار حضاري، يوقعنا في نزاعات كلامية وطائفية هي بعيدة كل البعد عن مقاصد الشريعة الإسلامية وأهداف الأطروحة المهدوية.
إذا تأملنا في مفهوم(٢) أو مصطلح (تعريف المهدوية للآخر)(٣) أو الحضارات المختلفة، يمكننا أن نكتشف قيمته الفكرية والعملية وأهميته الحضارية، من خلال الآتي:
١) الخروج من الإطار الضيق للقضية المهدوية، ونحن الذين حصرناها كأنها مسألة مذهبية خاصة بأتباع أهل البيت (عليهم السلام) فقط، وإن توسعت فتحصر كعقيدة إسلامية تهم المسلمين وحدهم، وهذه تورث السجال الطائفي.. مما يحتاج أن ننظر لها بمنظار أوسع وننطلق من أرضية أن المهدوية لكل البشرية.
٢) تجاوز إشكالية تأطيرها في الجانب العقدي فقط، كأصل من أصول الدين ومن مبدأ الإمامة، ونقتصر بالنظر لها على هذا الأساس.. وهذه الإشكالية تضيق عملية الفهم للمهدوية وفهم المبادئ والقيم المرتبطة بها كالعدالة والعالمية وتطور العلم و...، مما يجعل رؤيتنا قاصرة على الاستفادة فكرياً وحضارياً وعلمياً من خصائصها ومميزاتها العديدة.
٣) فكرة ومبدأ المخلص الموعود موجودة عند كل الأمم والشعوب والأديان، ولكن عندما لا يوجد تعارف بين الحضارات بخصوص هذه الفكرة، فإن هذا الانقطاع عن تكوين المعرفة وسيادة الجهل بالمهدوية لدى الآخر، سيولد نوعاً من سوء الفهم، ويخلق مشكلات فكرية وثقافية مع الحضارات الأخرى انطلاقاً من مبدأ ومفهوم صراع الحضارات.
ولا شك في أن مفهوم أو مصطلح (تعريف المهدوية للحضارات الأخرى) عند بلورته وطرحه على أرض الواقع كمنظومة معرفية متكاملة، سيتيح للأمم والشعوب المختلفة التعرف على واقع وحقيقة المخلص الإسلامي (الأطروحة المهدوية الإمامية) بمنظور شامل ومتكامل ومتزن، وبناءً على القواسم المشتركة لمبدأ وفكرة المخلص عند الحضارات، وسواء نظرنا إلى أصل الفكرة برؤى دينية أو بنظرة فلسفية، فالمهم أن نرسخ حقيقة أن نهاية العالم تقترن مع نشر التوحيد وتحقيق العدالة وسعادة البشرية، وهذه هي الرسالة التي نودّ إيصالها للآخر عند الحديث عن المهدوية.
من هنا نأمل أن يكون هذا البحث دافعاً لدراسة المفاهيم المهدوية برؤية فكرية حضارية تتعالى على النظرات الثقافية الضيقة، وتفتح مجال التفكير في الثقافة المهدوية بمنهج معرفي حضاري يتطابق مع أهداف وغايات الإمامة الخاتمة..
إذاً حاجتنا إلى رؤية حضارية في قراءتنا للمهدوية هو للخروج من أَسْر الماضي وضيقه إلى أفق المستقبل ورحابته، وما إيضاح حقائق المهدوية للأمم والحضارات المختلفة إلّا جانب واحد من هذه الرؤية الحضارية، وقبل ذلك نطمح لبناء المنظومة الفكرية التعريفية للمهدوية على قاعدة القواسم المشتركة لمفهوم (المخلص)، وبما يخدم الإنسانية ويحقق بعض الأهداف المهدوية.
وعلينا أن نعلم أيضاً أن الإيمان بالإمامة الخاتمة (المهدوية) ومعرفة مكانتها وخصائصها الفريدة، يزيد إحاطة الناس بحقيقتها، فنقل (منظومة البناء المعرفي(٤) للأطروحة المهدوية الإمامية) للآخرين وإيضاحها لهم، له أثر عميق وشفاف لدى الشعوب الأخرى، ولا سيما أهدافها العظمى ومقاصدها الحضارية، إضافة لدورها الوثيق في النظرة التفاؤلية الإيجابية للمستقبل ونهاية العالم، فضلاً عن دورها النفسي الهام عند المستضعفين والمحرومين من هذه الشعوب.
يجب الإدراك بأن المهدوية تمتلك المقومات الضرورية في تقديم ذاتها للآخرين بنجاح، فلم يعد ممكناً لكثير من المفكرين الغربيين تصور خيارات أخرى لمستقبل البشرية سوى الصورة (القريبة والمشابهة) للحضارة المهدوية.. وبسهولة يدرك من لديه الحد الأدنى من الاطلاع والمعرفة على أفكار وثقافة الشعوب الغربية وأطروحات فلاسفتهم، والمستوى الذي وصل إليه وضعهم النفسي، سبب شغفهم التام لفكرة (المخلص)، فالحاضر غالباً ما ينساق وراء رؤية المستقبل.
وفي هذا السياق هناك حاجة ملحة وأهمية خاصة لتعريف الآخرين بمبدأ الإمامة الخاتمة (المهدوية) والمستقبل المشرق للإنسانية الذي سيتحقق على يديها، فهذا من أهم الأولويات الفكرية الحالية، وأحد مجالات الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية المطروحة على طاولة البحث والتي تهتم بها مراكز البحوث العالمية، فضلاً على أن كل الديانات السماوية والفلسفات البشرية بشّرت بالمخلص، وهذه الفكرة أمر مشترك بين الأمم والحضارات المختلفة، وتعتبر رمزاً لنشر العدل والسلام.
في هذا البحث نحاول تلمّس معالم طريق التعريف الفكري، فعملية إحاطة الآخر (غير المسلم) بمفهوم المهدوية ليست عملية عفوية وعابرة يمكن أن تتحقق ببساطة ومن دون بصيرة وهداية، فلا بد أن نعي بوضوح مواقع أقدامنا في ساحة بناء المنظومة الفكرية التعريفة والعمل الميداني الإيضاحي حتى تفلح جهودنا وتتحقق تطلعاتنا.. وقبل ذلك تحمّل مسؤولية نشر العدالة على وجه البسيطة كلها وهداية البشرية جمعاء إلى الطريق السوي، وأن تتحول الأهداف المهدوية الكبرى إلى حاجة نفسية عميقة وهدف حضاري واضح عند المؤمنين المنتظرين، فنحث الخطى بثبات في طريق عمارة الأرض وبناء حضارة آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المنشودة.
التعريف المطلوب:
لا نقصد بالتعريف أن يقتصر على: [تقديم معلومات كافية وشاملة عن المهدوية للأمم والشعوب المختلفة، والكشف لهم عن حقيقتها وخصائصها ومميزاتها، وإيضاح أهدافها والنتائج التي ستتحقق على يديها].. فإن هذا تعريف شكلي وهو مقبول نوعاً ما، أمّا من حيث المضمون والأساس فإن التعريف المطلوب هو: [القدرة على إدخال مفهوم المهدوية (بما يحتويه من قيم ومبادئ إنسانية) إلى المنظومة الفكرية للحضارات الأخرى، وترسيخ الفكرة لدى الرأي العام، بحيث يصبح هذا المفهوم من الأسس الثقافية الثابتة والبديهة عندهم].
فالتعريف الذي نطمح إليه لا يولد بكتابة مقالة أو بحث حول المخلص أو المنقذ الموعود أو الإمام المهدي (عليه السلام)، لأن هذا لا يحقق الشرط الأساس من التعريف، فقد نكتب مئات المقالات حول (المهدوية) من وجهة نظرنا وندعمها بالأدلة الإسلامية، ونترجمها بعدة لغات مختلفة وننشرها هنا وهناك، ويعتبر ذلك مهماً بحد ذاته ولكنه غير كافِ ولا يحقق ما نهدف إليه، لأنه يعكس تفكيرنا ومعتقدنا الذي لا يؤمن به الآخرون.. فيجب أن نتجاوز الحدود السطحية (للتعريف) إلى ما هو أعمق من ذلك، بحيث يكون للمهدوية حضور وفاعلية استثنائية في رسم الرؤى الأساسية للحضارة الإنسانية ومستقبلها.
يتبع
تعليق