مرتضى علي الحلّي - النجف الأشرف
قالَ اللهُ تبارك وتعالى:
((وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) (التوبة: 122).
1- إنَّ هذه الآيةَ الشريفةَ تجمعُ وزاناً بين الخروج إلى الجهاد وإلى طلبِ العِلمِ وتحصيل التفقّه في الدِّين مطلقاً، أصولاً وفروعاً وطريقاً ومنهجاً وسلوكاً، وفيها تحضيض وتأكيد على وجوب التصدّي لذلك وبنحو الوجوب الكفائي.
2- تُقدّمُ هذه الآيةُ المُباركةُ مُنتظَمَاً مَكيناً يقوم على دعامتين رئيسَتين تحفظان نظام المجتمع وأمنه عسكريّاً وتدبيريّاً ومعرفيّاً ودينيّاً:
الدعامةُ الأولى: طائفةٌ تنبري للجهاد الكفائي والمُرابطة حفظاً للإسلام والبلد والأعراض والحرمات.
الدعامة الثانية: تتصدّى للتعلّم وتحصيل المعرفة اليقينيّة بالدّين عقيدةً وشريعةً ومنهاجا.
3- من أهم أهداف التصدّي لطلبِ العِلْمِ أولاً وبالذات هو تقرير المعرفة في النفس والعقل والإذعان بها، ومن ثُمَّ تعليمها وتبليغها الباقين ممن يتعذّر عليهم تحصيلها، وهذا هو معنى الإنذار في الآية الشريفة والتحذير.
4- في الآية الشريفة ظهورٌ مُبين بحجيّة دور طائفة المُتفقهة من العلماء وطلاّب العلم في نقلهم للأحكام الشرعيّة - ودليلُ ذلك لو لم تثبت لهم الجُجيّة جعلاً من الله تعالى لكان تشريع هذا النفر العلمي والمعرفي على نحو الوجوب الكفائي أو الترخيص على أقل تقدير، لكان لغواً بلا فائدة بعد نفي وجوب النفر العيني على الجميع، بل لو لم يكن نقل العلماء الفقهاء وأهل العلم والاختصاص للأحكام حجّةً شرعيّةً لما بقيت طريقة لتعلّم الأحكام تكون مُعَذِّرَةً للمُكلَّف وحُجّةً له أو عليه في حال عدم تصدّيه بنفسه لتحصيل العلم والمعرفة بالأحكام والتفقّه بالدّين عموماً.
5- بعد جعل هذه الآية الشريفة جعلاً إلهيّاً في مصححيَّة نقل الأحكام من قبل العلماء الفقهاء يثبتُ لهم حُجيّة تحصيلهم اجتهاداً وفتوىً وتدبيرا وقبولاً بالنسبة لمن يتلقّى منهم بعنوان تقليدهم ومتابعتهم والرجوع إليهم، بل هذه الآية الشريفة تدلُّ صراحةً على وجوب قبول فتوى المجتهد الفقيه العالم الفعلي بخصوص تقليده من قبل العامّة.
6- وبحكم الأمر بالتفقّه في الدّين يظهرُ وجوب الاجتهاد في عصر الغيبة الكبرى وجوباً كفائياً تتصدّى له طائفةٌ قادرةٌ على تحصيل ملكة الاستنباط واستخراج الأحكام الشرعيّة من أدلّتها التفصيليّة الشرعيّة والعقليّة والعقلائيّة وغيرها.
7- الآيةُ الشريفة تدعو عامةَ الناس للحذر من مخالفة الدّين أصولاً وفروعاً بتركهم الأخذ به اعتقاداً والعمل به طريقا.
8- تُعالجُ هذه الآيةُ المُباركةُ إشكاليّة انسداد العلم بالأحكام الشرعيَة الواقعية المحفوظة عند الإمام المعصوم، وخاصة في عصورنا المتأخرة عن عصر النص والحضور ووقوع الغيبة الكبرى لإمامنا المَهدي (عجّل اللهُ فرجَه الشريف من قريب) بتقرير الانفتاح على العلم بالأحكام الظاهريّة والأصول العمليّة تكليفاً وتنجيزاً وتعذيراً ووظيفةً وخياراً.
وقد وردَ هذا المعنى الناجز في رواياتنا المُعتبرة بما يوافق ويُطابقُ مدلولَ هذه الآية الشريفة تماماً، ففي الكافي (بإسناده عن يعقوب بن شعيب قال: قلتُ لأبي عبد الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عز وجل: ﴿فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾ قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم.
وعن عبد الاعلى قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول العامة: إن رسول الله (ص) قال: "من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية"، فقال: الحق والله، قلت: فإن إماما هلك ورجل بخراسان لا يعلم من وصيه لم يسعه ذلك؟ قال: لا يسعه إن الامام إذا هلك وقعت حجة وصيه على من هو معه في البلد وحق النفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم، إن الله عز وجل يقول: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون".
(الكافي، الكليني، ج١، ص ٣٧٨، باب ما يجب على الناس فعله عند مضي الإمام).
9- إنَّ الظهور الدلالي للآية الشريفة يقرُّ أمرين يُؤكّدهما العقل، وهما: وجوب التعلّم وتحصيل المعرفة الدّينيّة اليقينيّة وما قاربها شرعا وعقلاً وعُقلاءً، وبداهة رجوع الجاهل إلى العالم وإلى أهل الاختصاص والأخذ عنهم ومتابعتهم وقبول أحكامهم.
10- تقرير وتثبيت مسؤوليّة تعلّم الأحكام العقائديّة والشرعيّة وتعليمها، وكشف جلي عن وجود ظاهرة الرجوع إلى الطائفة المُتفقهة في زمن النبي الأكرم (ص)، الآخذَة منه والمُتلقيّة عنه، وهذا بحد ذاته دليلٌ ضمني ولُبّي على مشروعيّة التقليد تعبداً وقرآناً وسنّةً وعملاً.