بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ))[1]
وصف الحق تبارك وتعالى هذا الكتاب المنزل بانه مهيمناً على ذلك الكتاب الذي عند الله تبارك وتعالى[2]، ومنه يتضح هيمنة القرآن على سائر الكتب السماوية والشرائع السابقة فمن المحال اشتمالها على احكاما او حقائق او عقائد غير موجودة في الكتاب الذي عند الله تبارك وتعالى وبما ان هذا القرآن المنزل مهيمنا عليه فمن المحال خلوه قرآننا المنزل من حقيقة او حكم واقعي موجود في تلك الكتب.
بقي عندنا نقطة مهمة وهي معنى هيمنة القرآن على غيره؟
يقول العلامة الراحل السيد محمد حسين الطباطبائي (ره): هيمنة الشيء على الشيء كون الشيء ذا سلطة على الشيء في حفظه ومراقبته وأنواع التصرف فيه[3].
والمُهَيْمِنُ والمُهَيْمَنُ: اسم من أَسماء الله تعالى في الكتب القديمة، كما في القرآن.
واذا كنا نتحدث عن سلطة القرآن، فإننا نؤكد على الفرق بين السلطة والسلطان. وان هذا الفرق سار على القرآن الكريم.
في اللغة العربية، نجد الأثر التالي: (ان الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). والواضح ان النص يتحدث عن امرين: السلطان، والقرآن، الذي نقول انه له سلطة، وليس سلطانا.
نجد كلمة السلطان في ثلاثة عشر موضعا في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:
((وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))[4].
وقوله ايضا: ((إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ))[5].
في هذه الآيات تجد الفرق واضحا ايضا، فإبليس ليس له سلطان على الناس، لكن لديه سلطة عليهم. يؤثر فيهم، لكنه لا يجبرهم ولا يعاقب من لا يمتثل له.
توضح الباحثة ميريام دالون، في كتابها (سلطان البدايات) الفرق بين السلطة والسلطان.
تقول ان السلطة هي الحق في الأمر، وهي القدرة على الحصول على سلوك معين من قبل اولئك الذين يخضعون لها من دون اللجوء الى اكراه جسدي. على العكس من ذلك السلطان الذي يستطيع ان يأمر، لكن امره يكون مقرونا بالقدرة على استخدام الأكراه، السلطان يفترض بالفعل قوة قهرية، القدرة على فرض ارادة ما.
يقول شيشرون في شأن القنصل كوينتس ميتيلوس: ان ما لم يكن بوسعه تحقيقه من خلال السلطان، حصل عليه من خلال السلطة. يعني من خلال التأثير النفسي والعاطفي على الناس. كان الرومان يميزون بشكل كبير وواضح بين السلطة والسلطان. يقول اوغسطس في (اخبار الملوك): لقد كانت سلطتي اعلى من الجميع، الا ان سلطاني لم يكن اكبر من سلطان زملائي في هيئات القضاء.
والخلاصة: ان معنى هيمنة القرآن الكريم على سائر الكتب والشرائع يتلخص بان هناك احكاماً ثابتة ومتغيرة في كل الشرائع وهذه الأحكام المتغيرة تتناسب مع واقع المجتمعات المكلفة بهذه الشرائع فرب حكم في واقعة لقوم يتغير بالنسبة لقوم آخرين، وهنا يأتي دور الهيمنة فيغير الكتاب اللاحق بعض هذه الأحكام، وهو نوع هيمنة وسلطة منه على الكتاب السابق تتمثل بالتصرف فيه، يقول العلامة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ))[6] هيمنة الشيء على الشيء - على ما يتحصل من معناها - كون الشيء ذا سلطة على الشيء في حفظه و مراقبته و أنواع التصرف فيه، و هذا حال القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه تبيان كل شيء بالنسبة إلى ما بين يديه من الكتب السماوية: يحفظ منها الأصول الثابتة غير المتغيرة و ينسخ منها ما ينبغي أن ينسخ من الفروع التي يمكن أن يتطرق إليها التغير و التبدل حتى يناسب حال الإنسان بحسب سلوكه صراط الترقي و التكامل بمرور الزمان قال تعالى: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ))[7] و قال: ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا البقرة))[8]، وقال: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ))[9].
فهذه الجملة أعني قوله: "و مهيمنا عليه" متممة لقول: "و مصدقا لما بين يديه من الكتاب" تتميم إيضاح إذ لولاها لأمكن أن يتوهم من تصديق القرآن للتوراة و الإنجيل أنه يصدق ما فيهما من الشرائع و الأحكام تصديق إبقاء من غير تغيير و تبديل لكن توصيفه بالهيمنة يبين أن تصديقه لها تصديق أنها معارف و شرائع حقة من عند الله و لله أن يتصرف منها فيما يشاء بالنسخ و التكميل كما يشير إليه قوله ذيلا: "و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما آتاكم".
فقول: "مصدقا لما بين يديه" معناه تقرير ما فيها من المعارف و الأحكام بما يناسب حال هذه الأمة فلا ينافيه ما تطرق إليها من النسخ و التكميل و الزيادة كما كان المسيح (عليه السلام) أو إنجيله مصدقا للتوراة مع إحلاله بعض ما فيها من المحرمات كما حكاه الله عنه في قوله: ((وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ))[10].
[1] المائدة: 48.
[2] بحث سابق بعنوان (تعدد الحقائق بحسب العوالم- القرآن انموذجاً) مراجعة الرابط في منتدى الكفيل: http://www.alkafeel.net/forums/showthread.php?t=91717
[3] الميزان في تفسير القرآن: ج5ص200.
[4] ابراهيم: 22.
[5] الحجر 52.
[6] المائدة: 48.
[7] الإسراء: 9.
[8] البقرة: 106.
[9] الأعراف: 175.
[10] آل عمران: 50.