بسم الله الرحمن الرحيم
وهذه العقيدة قد صرح بها القرآن الكريم في اكثر من مناسبة وهي نسخ شريعة عيسى لموسى عليهما السلام، فالقرآن يصدح بانه جاء مصدقاً لتوراة موسى في مجال العقيدة، يقول صاحب تفسير الميزان (ره):
فقوله: "و قفينا على آثارهم بعيسى بن مريم" استعارة بالكناية أريد بها الدلالة على أنه سلك به (عليه السلام) المسلك الذي سلكه من قبله من الأنبياء، و هو طريق الدعوة إلى التوحيد و الإسلام لله.
و قوله: "مصدقا لما بين يديه من التوراة" تبيين لما تقدمه من الجملة و إشارة إلى أن دعوة عيسى هي دعوة موسى (عليه السلام) من غير بينونة بينهما أصلا[1].
واما في مقام الشريعة (الفقه) فنقرأ قوله تعالى:
قوله تعالى: و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، فإن الله تعالى كان حرم عليهم بعض الطيبات، قال تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" الآية: النساء - 160.
و الكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه (عليه السلام) لأحكام التوراة إلا ما نسخه الله تعالى بيده من الأحكام الشاقة المكتوبة على اليهود، و لذا قيل: إن الإنجيل غير مشتمل على الشريعة، و قوله: و لأحل، معطوف على قوله: بآية من ربكم، و اللام للغاية، و المعنى: قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة عليكم[2].
وملخص ما تقدم يبينه المفسر الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي (ره) بقوله:
قوله تعالى: "و آتيناه الإنجيل فيه هدى و نور و مصدقا لما بين يديه من التوراة" إلخ سياق الآيات من جهة تعرضها لحال شريعة موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزولها في حق كتبهم يقضي بانطباق بعضها على بعض و لازم ذلك: أولا: أن الإنجيل المذكور في الآية - و معناها البشارة - كان كتابا نازلا على المسيح (عليه السلام) لا مجرد البشارة من غير كتاب غير أن الله سبحانه لم يفصل القول في كلامه في كيفية نزوله على عيسى كما فصله في خصوص التوراة و القرآن قال تعالى في حق التوراة: "قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي فخذ ما ءاتيتك و كن من الشاكرين و كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء": الأعراف: 154 و قال: "أخذ الألواح و في نسختها هدى و رحمة للذين هم لربهم يرهبون": الأعراف: 145.
و قال في خصوص القرآن: "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين": الشعراء: 159 و قال: "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين": الشعراء: 159 و قال: "إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين": التكوير: 21 و قال: "في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة": عبس: 16 و هو سبحانه لم يذكر في تفصيل نزول الإنجيل و مشخصاته شيئا، لكن ذكره نزوله على عيسى في الآية محاذيا لذكر نزول التوراة على موسى في الآية السابقة، و نزول القرآن على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يدل على كونه كتابا في عرض الكتابين.
و ثانيا: أن قوله تعالى في وصف الإنجيل: "فيه هدى و نور" محاذاة لقوله في وصف التوراة: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور" يراد به ما يشتمل عليه الكتاب من المعارف و الأحكام غير أن قوله تعالى في هذه الآية ثانيا: "و هدى و موعظة للمتقين" يدل على أن الهدى المذكور أولا غير الهدى الذي تفسيره الموعظة فالهدى المذكور أولا هو نوع المعارف التي يحصل بها الاهتداء في باب الاعتقادات، و أما ما يهدي من المعارف إلى التقوى في الدين فهو الذي يراد بالهدى المذكور ثانيا.
و على هذا لا يبقى لقوله: "و نور" من المصداق إلا الأحكام و الشرائع، و التدبر ربما ساعد على ذلك فإنها أمور يستضاء بها و يسلك في ضوئها و تنورها مسلك الحياة، و قد قال تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس": الأنعام: 122.
و قد ظهر بذلك: أن المراد بالهدى في وصف التوراة و في وصف الإنجيل أولا هو نوع المعارف الاعتقادية كالتوحيد و المعاد، و بالنور في الموضعين نوع الشرائع و الأحكام، و بالهدى ثانيا في وصف الإنجيل هو نوع المواعظ و النصائح، و الله أعلم.
و ظهر أيضا وجه تكرار الهدى في الآية فالهدى المذكور ثانيا غير الهدى المذكور أولا و أن قوله "و موعظة" من قبيل عطف التفسير و الله أعلم.
و ثالثا: أن قوله ثانيا في وصف الإنجيل: "و مصدقا لما بين يديه من التوراة" ليس من قبيل التكرار لتأكيد و نحوه بل المراد به تبعية الإنجيل لشريعة التوراة فلم يكن في الإنجيل إلا الإمضاء لشريعة التوراة و الدعوة إليها إلا ما استثناه عيسى المسيح على ما حكاه الله تعالى من قوله: "و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم": آل عمران: 50.
و الدليل على ذلك قوله تعالى في الآية الآتية في وصف القرآن: "و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه" على ما سيجيئ من البيان[3].
[1] الميزان ج5 ص188.
[2] الميزان ج3 ص112.
[3] الميزان ج5 ص199-200.
تعليق