شعار (اللهم تقبل منا هذا القربان)، شعار من نوع فريد، لا يصدر إلا عن إنسان فريد يحمل بين خافقيه سراً من أسرار النبوة، وسراً من عظمة الإنسان، الإنسان المملوء طهراً ونقاء.. هذا الشعار الملحمي الخالد لا تقف عظمته عند حدود الإدراك الحسي؛ لأنه يتحدى جميع العواطف الإنسانية، يخالف كل نواميس الطبيعة البشرية المعروفة، شعار يتحدى منظومات السلوك والتصرف والفعل ورد الفعل وجميع النظريات الاجتماعية والتربوية والنفسية والأخلاقية.
هذا الشعار، أطلقه لأول مرة في كربلاء الإمام الحسين (عليه السلام) ظهيرة الطف، فبعد أن قطعوا رأسه الشريف الذي لثمه رسول الله (ص) مئات المرات، وحملوه ليقايضوه بثمن بخس دراهم معدودات، وبعد أن داست خيلهم الجسد المطهر، وبعد أن انجلت غبرة الحرب، تحمل معها حقد التاريخ، لتعطر به قادم التاريخ المملوء زيفاً، وقفت السيدة زينب على جسد أخيها الطاهر، لتشعل وسط هذه العتمة مصباح أمل، وتزرع في صحراء هذه الكراهية زهرة عقيدة، ورفعت يديها نحو السماء، وأطلقت أعظم صرخة في التاريخ تصدر من قلب مكلوم: "اللهم تقبل منا هذا القربان".
أربعة عشر قرناً، اختفى فيها هذا الشعار من الوجود؛ لأن هذه القرون خلت من زينب، إما لأن هناك من قالته ولم نسمعها، وإما لأنه لم تولد فيها زينب حقيقية تتاجر مع الله تعالى تجارة لن تبور، وتقايض جسد حسينها بقبول الله من يومها إلى يومنا الحاضر، لم أر زينب ترفع يدها نحو السماء، وتردد الشعار الزينبي، وكنت أتمنى من كل قلبي أن أسمع زينب اخرى تردده قبل أن أموت، لا حباً باستشهاد الأبطال، ولكن لكي أطمئن أن الخط الزينبي لا زال موجودا في قلوب نساء العقيدة، في قلوب الأمهات الطاهرات، فالأم مدرسة إذا صلحت، تنتصر العقيدة مهما اشتدت شراسة هجمات الأعداء.
وها هي أم الشهيد اللبناني (علي) تقف على جثمان ولدها الذي استشهد دفاعاً عن زينب؛ لتشكره؛ لأنه مات دفاعاً عن أنموذجها الأسمى في الحياة، وهي لكي تعلن زينبيتها وانتمائها لهذا الخط العقدي الطاهر، لم تودعه كما تودع الأمهات الثكلى فلذات أكبادهن، وإنما وقفت بشموخ لتردد الشعار الزينبي: "اللهم تقبل منا هذا القربان".
ومع أني بكيت بحرقة وأنا أرى فيها كل هذا الصمود، إلا أني حمدت الله كثيرا أن العقيدة لا زالت بخير، وأن كيد المجرمين سيرتد إلى نحورهم ليعمروا قعر جهنم، بموعدهم مع شياطينهم، اليوم قدمنا القرابين لوجه الله فلذات قلوبنا وخرجن أمهات يرفعن الارواح نداء زينبياً وينادين: "اللهم تقبل منا هذه القرابين نصرة للدين والمذهب وموعدنا غداً مع زينب ومع الحسين، وإن غداً لناظره قريب".