( ١ )
ثلاثة محددات مهمة وراء فكرة تصميم وتنفيذ المراقد الدينية للائمة والصالحين ، بل للأبنية الإسلامية والدينية عموماً ، وهي :
المحدد الأول : المنطلق الديني والتشريعي البحت ، كالوجوب والاستحباب الشرعي والذي يتعلق بهذه الأبنية ، تارةً لرفع انتهاك حرمة ، أو لتعظيم شعيرة ، أو لمندوبية عامة .. قال تعالى ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) البقرة ١٢٧ ، وقال تعالى ( .. فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ۖ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) الكهف ٢١ .
المحدد الثاني : وظيفي ، بمعنى أن يكون التصميم موافقاً للوظيفة التي سيؤديها هذا المبنى ولطبيعة الاستخدام والتشغيل .. فالمساجد مثلاً تحتاج الى فناء واسع للصلاة ، والمدارس الدينية الى قاعات صغيرة وكثيرة للدراسة .. وهكذا .. قال تعالى ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) البقرة ١٢٥ .
المحدد الثالث : تعبيري أو رمزي ، وهذا يعتمد على ممازجة الخيال الهندسي المعماري مع روح المبنى والعقيدة الدينية التي انطلق منها ويعود اليها ، كالقباب الإسلامية مثلاً والتي تشير الى فلسفة التوحيد في الإسلام ، والنجمة السداسية التي تشير الى نبي الله سليمان عند اليهود .. وهكذا .
ولو أردنا تطبيق هذه المحدّدات الثلاثة على أبنية مراقد أهل البيت عليهم السلام في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة .. وباقي المشاهد المشرّفة لرأينا اجتماعها فيها .. فهي من جانب تعظّم من قبور الائمة وتهتم بحرمة مراقدهم بعد أن تعرّضت الى انتهاكات تاريخية متعددة على ايدي طغاة العصور ، كالمتوكل الذي حرث قبر الحسين ع ، وصدام اللعين الذي ضربه بالمدافع ، وكجريمة تفجير مرقد العسكريين ع وتهديم قبور الانبياء والصالحين على ايدي الدواعش .. الخ
أمّا من الجانب الوظيفي ، فهي مصمّمة لاداء حاجات فعلية ومهيئة بشكل يتم فيه تيسير حركة الزائرين ، وتوفير مساحات لإقامة الصلوات والشعائر الدينية ، وغرف للإستراحة والدرس او للإدارة وبعض الأنشطة المختلفة .. ولهذا الغرض نجد التوسعة مستمرة في الاماكن الإسلامية المقدسة ، كالمسجد الحرام والمسجد النبوي ومراقد أهل البيت .. وهي توسعة من أجل استيعاب الوظائف الأساسية والمتجددة لها ..
وأما المحدّد الثالث ، فهي بلا شك تُصمم وفق فلسفات هندسية إسلامية ، ويحرص المصممون على تجسيد العقائد والأفكار الحقة فيها بالإضافة الى المعايير الإسلامية العامة للأبنية والتي لا يتسع المجال الى ذكرها هنا ..
اذن .. ابنية مراقد المعصومين ليست مجرد قبور ، وإنما باتت حواضر إسلامية كبيرة وضخمة تؤدي وظائف كبيرة ومتشعبة وتعكس عقائد وتشريعات جليلة .. فهذا قبر الرسول ومسجده شهد على مرّ العصور توسعات كبيرة وآخرها في العقود المعاصرة حيث بات مسجداً يستوعب ملايين الزائرين والمصلّين ، ويضم مؤسسات ودوائر رسمية ضخمة ومتعددة الأغراض والمهامّ .. وهذا ما نلمسه بفضل الله في المدن التي تشرفت بمراقد المعصومين ..
وعليه : اقترح تصميم نموذج معماري لإعادة بناء ائمة البقيع تراعى فيه هذه المحددات وبنفس الوقت محددات المملكة السعودية والجهات الدينية فيها وقابل للمناقشة معهم .. ولا نكتفي بالمطالبات فقط ..
( ٢ )
لم تعد الأبنية العالية والفخمة والمزيّنة تشكل خطراً على عقيدة الإنسان او توجهاته الروحية او الفكرية عموماً كما كان سابقاً .. ففي عصورنا الحاضرة شهدت الدنيا صروحاً معمارية وتكنولوجية مُبهرة وتكاد تكون اعجازية وبدون ان يكون لها تأثيراً سلبياً على عقائد الناس ومتبنيّاتهم الروحية .. بل بالعكس ، نحن في الإسلام قد نحتاج الى هذا النوع من المعاصرة والموائمة وأن لا نُشعر الآخرين بالتخلّف والانحطاط والتحجر .. ما دام ذلك يجلب نفعاً ويدفع ضررا ..
في القرآن الكريم آيتان تعززان هذه الفكرة ، نذكرهما :
الأولى : تأثّر عقيدة بلقيس - وهي كافرة - ( إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ) النمل ٤٣ ، بعقيدة نبي الله سليمان عليه وعلى نبينا السلام بعد أن انبهرت بالصرح الذي يجلس فيه سليمان عليه السلام والقدرات الخارقة التي تمتلكها سلطته ، قال تعالى ( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) النمل ٤٤ .
الثانية : الإشارة الى الانعكاسات السلبية على الناس ما لو انحصرت المباني الفخمة والتقنيات المتطورة بأيدي الكافرين دون المؤمنين ، قال تعالى ( وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) الزخرف ٣٣ ، يعلّق صاحب الميزان على هذه الآية : قالوا : المراد بكون الناس أمة واحدة كونهم مجتمعين على سنة واحدة هي الكفر بالله لو رأوا أن زينة الدنيا بحذافيرها عند الكافر بالله والمؤمن صفر الكف منها مطلقا، والمعارج الدرجات والمصاعد .
نريد من هذا المنشور والذي قبله فتح أبواب فكرية ودينية لتقبّل فكرة بناء وإعمار مراقد الأنبياء والاولياء والصالحين بما يعود بالإيجاب على الدين الإسلامي في عصورنا الحاضرة .. بدلاً من التحجّر على اراء تبتني على أفكار أقل ما يمكن وصفها بأنها قابلة للمناقشة ..
( ٣ )
تخضع الكثير من أحكام الإسلام الى البيئة المعاشة والظروف الخاصة والأعراف السائدة وقتئذ والضرورات الطارئة والاستثناءات الحرجة .. الخ ، فتتغير بعض الأحكام وفق بعض المتغيرات وتتبعها ، فيصبح الحرام حلالاً والجائز ممنوعاً .. وهكذا .
والتغيير هذا تارةً يُجريه نفس القرآن الكريم أو تقوم به السنّة الشريفة وحديث المعصوم ، وهو ما يُعرف بنسخ القرآن والسنّة ، وأخرى يكون من صلاحيات وليّ الأمر وفقاً لمصالح عامة يراها ، وتارةً ثالثة تكون من صلاحيات وإمكانيات الفقهاء وفقاً لقواعد وأصول شرعية يعملون على أساسها ويستنبطون وفقها ، قال تعالى ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ) النساء ٨٣ . والضرورات في الإسلام تبيح المحظورات ، فأكل بعض انواع اللحوم حراماً ، ولكن عند الضرورة تصبح جائزة ، قال تعالى { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ } الأنعام ١١٩ .
فزيارة القبور مثلاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قد تغيّر حكمها من المنع الى الجواز ، فورد عن رسول الله : { كنتُ نهيتُكم عن زيارَةِ القبورِ ألا فزورُوها ، فإِنَّها تُرِقُّ القلْبَ ، و تُدْمِعُ العينَ ، وتُذَكِّرُ الآخرةَ ، ولا تقولوا هُجْرًا } الراوي : أنس بن مالك | المحدث : الألباني المصدر : صحيح الجامع الصفحة أو الرقم : 4584 خلاصة حكم المحدث : صحيح ، التخريج : أخرجه أحمد (13487) ، وأبو يعلى (3707) مطولاً ، والحاكم (1393) واللفظ له .
وكذلك بالنسبة للبناء على القبور ، فعلى الرغم من اختلاف علماء الإسلام ومذاهبه في ذلك ، فبعضهم أجاز وبعضهم منع ، والجواز تارة يكون مطلقاً وتارة يكون لضرورات ، ومن بين تلك الضرورات التي ذكروها مثلاً :
١. عندما تكون الأرض رخوة او ذات مياه جوفية عالية بحيث لا يمكن الدفن بها ، فيصار الى الدفن فوق الأرض وبناء القبر فوق مستوى التربة ..
٢. في حالة عدم وجود مساحات كافية للدفن وتعذّر توفير ذلك فيصار الى البناء بأكثر من طابق ..
والضرورتان أعلاه حددهما الأزهر الشريف في مصر ..
٣. قال ابن حجر الهيتمي : " نعم إن خُشي نبش أو حفر سبع أو هدم سيل لم يكره البناء والتجصيص بل قد يجبان " من " تحفة المحتاج " ( 3 / 196 ) .
والأمثلة كثيرة واستثناءات الأحكام أكثر .. نريد أن نقول أن مسألة زيارة القبور والبناء عليها من الأحكام الخاضعة للرأي والاجتهاد والاستثناء ، وخاضعة لتغيير بعض المعطيات الخاصة بها وليست من الأحكام القطعية والعقائد التي يدور إسلام الفرد وإيمانه مدارها .. ومن يجعلها سبباً للفرقة بين المسلمين وتكفيرهم فإنه قد جافى الشرع والعقل والمنطق ..
8 شوال
فاجعة البقيع
ثلاثة محددات مهمة وراء فكرة تصميم وتنفيذ المراقد الدينية للائمة والصالحين ، بل للأبنية الإسلامية والدينية عموماً ، وهي :
المحدد الأول : المنطلق الديني والتشريعي البحت ، كالوجوب والاستحباب الشرعي والذي يتعلق بهذه الأبنية ، تارةً لرفع انتهاك حرمة ، أو لتعظيم شعيرة ، أو لمندوبية عامة .. قال تعالى ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) البقرة ١٢٧ ، وقال تعالى ( .. فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ۖ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) الكهف ٢١ .
المحدد الثاني : وظيفي ، بمعنى أن يكون التصميم موافقاً للوظيفة التي سيؤديها هذا المبنى ولطبيعة الاستخدام والتشغيل .. فالمساجد مثلاً تحتاج الى فناء واسع للصلاة ، والمدارس الدينية الى قاعات صغيرة وكثيرة للدراسة .. وهكذا .. قال تعالى ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) البقرة ١٢٥ .
المحدد الثالث : تعبيري أو رمزي ، وهذا يعتمد على ممازجة الخيال الهندسي المعماري مع روح المبنى والعقيدة الدينية التي انطلق منها ويعود اليها ، كالقباب الإسلامية مثلاً والتي تشير الى فلسفة التوحيد في الإسلام ، والنجمة السداسية التي تشير الى نبي الله سليمان عند اليهود .. وهكذا .
ولو أردنا تطبيق هذه المحدّدات الثلاثة على أبنية مراقد أهل البيت عليهم السلام في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة .. وباقي المشاهد المشرّفة لرأينا اجتماعها فيها .. فهي من جانب تعظّم من قبور الائمة وتهتم بحرمة مراقدهم بعد أن تعرّضت الى انتهاكات تاريخية متعددة على ايدي طغاة العصور ، كالمتوكل الذي حرث قبر الحسين ع ، وصدام اللعين الذي ضربه بالمدافع ، وكجريمة تفجير مرقد العسكريين ع وتهديم قبور الانبياء والصالحين على ايدي الدواعش .. الخ
أمّا من الجانب الوظيفي ، فهي مصمّمة لاداء حاجات فعلية ومهيئة بشكل يتم فيه تيسير حركة الزائرين ، وتوفير مساحات لإقامة الصلوات والشعائر الدينية ، وغرف للإستراحة والدرس او للإدارة وبعض الأنشطة المختلفة .. ولهذا الغرض نجد التوسعة مستمرة في الاماكن الإسلامية المقدسة ، كالمسجد الحرام والمسجد النبوي ومراقد أهل البيت .. وهي توسعة من أجل استيعاب الوظائف الأساسية والمتجددة لها ..
وأما المحدّد الثالث ، فهي بلا شك تُصمم وفق فلسفات هندسية إسلامية ، ويحرص المصممون على تجسيد العقائد والأفكار الحقة فيها بالإضافة الى المعايير الإسلامية العامة للأبنية والتي لا يتسع المجال الى ذكرها هنا ..
اذن .. ابنية مراقد المعصومين ليست مجرد قبور ، وإنما باتت حواضر إسلامية كبيرة وضخمة تؤدي وظائف كبيرة ومتشعبة وتعكس عقائد وتشريعات جليلة .. فهذا قبر الرسول ومسجده شهد على مرّ العصور توسعات كبيرة وآخرها في العقود المعاصرة حيث بات مسجداً يستوعب ملايين الزائرين والمصلّين ، ويضم مؤسسات ودوائر رسمية ضخمة ومتعددة الأغراض والمهامّ .. وهذا ما نلمسه بفضل الله في المدن التي تشرفت بمراقد المعصومين ..
وعليه : اقترح تصميم نموذج معماري لإعادة بناء ائمة البقيع تراعى فيه هذه المحددات وبنفس الوقت محددات المملكة السعودية والجهات الدينية فيها وقابل للمناقشة معهم .. ولا نكتفي بالمطالبات فقط ..
( ٢ )
لم تعد الأبنية العالية والفخمة والمزيّنة تشكل خطراً على عقيدة الإنسان او توجهاته الروحية او الفكرية عموماً كما كان سابقاً .. ففي عصورنا الحاضرة شهدت الدنيا صروحاً معمارية وتكنولوجية مُبهرة وتكاد تكون اعجازية وبدون ان يكون لها تأثيراً سلبياً على عقائد الناس ومتبنيّاتهم الروحية .. بل بالعكس ، نحن في الإسلام قد نحتاج الى هذا النوع من المعاصرة والموائمة وأن لا نُشعر الآخرين بالتخلّف والانحطاط والتحجر .. ما دام ذلك يجلب نفعاً ويدفع ضررا ..
في القرآن الكريم آيتان تعززان هذه الفكرة ، نذكرهما :
الأولى : تأثّر عقيدة بلقيس - وهي كافرة - ( إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ) النمل ٤٣ ، بعقيدة نبي الله سليمان عليه وعلى نبينا السلام بعد أن انبهرت بالصرح الذي يجلس فيه سليمان عليه السلام والقدرات الخارقة التي تمتلكها سلطته ، قال تعالى ( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) النمل ٤٤ .
الثانية : الإشارة الى الانعكاسات السلبية على الناس ما لو انحصرت المباني الفخمة والتقنيات المتطورة بأيدي الكافرين دون المؤمنين ، قال تعالى ( وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) الزخرف ٣٣ ، يعلّق صاحب الميزان على هذه الآية : قالوا : المراد بكون الناس أمة واحدة كونهم مجتمعين على سنة واحدة هي الكفر بالله لو رأوا أن زينة الدنيا بحذافيرها عند الكافر بالله والمؤمن صفر الكف منها مطلقا، والمعارج الدرجات والمصاعد .
نريد من هذا المنشور والذي قبله فتح أبواب فكرية ودينية لتقبّل فكرة بناء وإعمار مراقد الأنبياء والاولياء والصالحين بما يعود بالإيجاب على الدين الإسلامي في عصورنا الحاضرة .. بدلاً من التحجّر على اراء تبتني على أفكار أقل ما يمكن وصفها بأنها قابلة للمناقشة ..
( ٣ )
تخضع الكثير من أحكام الإسلام الى البيئة المعاشة والظروف الخاصة والأعراف السائدة وقتئذ والضرورات الطارئة والاستثناءات الحرجة .. الخ ، فتتغير بعض الأحكام وفق بعض المتغيرات وتتبعها ، فيصبح الحرام حلالاً والجائز ممنوعاً .. وهكذا .
والتغيير هذا تارةً يُجريه نفس القرآن الكريم أو تقوم به السنّة الشريفة وحديث المعصوم ، وهو ما يُعرف بنسخ القرآن والسنّة ، وأخرى يكون من صلاحيات وليّ الأمر وفقاً لمصالح عامة يراها ، وتارةً ثالثة تكون من صلاحيات وإمكانيات الفقهاء وفقاً لقواعد وأصول شرعية يعملون على أساسها ويستنبطون وفقها ، قال تعالى ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ) النساء ٨٣ . والضرورات في الإسلام تبيح المحظورات ، فأكل بعض انواع اللحوم حراماً ، ولكن عند الضرورة تصبح جائزة ، قال تعالى { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ } الأنعام ١١٩ .
فزيارة القبور مثلاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قد تغيّر حكمها من المنع الى الجواز ، فورد عن رسول الله : { كنتُ نهيتُكم عن زيارَةِ القبورِ ألا فزورُوها ، فإِنَّها تُرِقُّ القلْبَ ، و تُدْمِعُ العينَ ، وتُذَكِّرُ الآخرةَ ، ولا تقولوا هُجْرًا } الراوي : أنس بن مالك | المحدث : الألباني المصدر : صحيح الجامع الصفحة أو الرقم : 4584 خلاصة حكم المحدث : صحيح ، التخريج : أخرجه أحمد (13487) ، وأبو يعلى (3707) مطولاً ، والحاكم (1393) واللفظ له .
وكذلك بالنسبة للبناء على القبور ، فعلى الرغم من اختلاف علماء الإسلام ومذاهبه في ذلك ، فبعضهم أجاز وبعضهم منع ، والجواز تارة يكون مطلقاً وتارة يكون لضرورات ، ومن بين تلك الضرورات التي ذكروها مثلاً :
١. عندما تكون الأرض رخوة او ذات مياه جوفية عالية بحيث لا يمكن الدفن بها ، فيصار الى الدفن فوق الأرض وبناء القبر فوق مستوى التربة ..
٢. في حالة عدم وجود مساحات كافية للدفن وتعذّر توفير ذلك فيصار الى البناء بأكثر من طابق ..
والضرورتان أعلاه حددهما الأزهر الشريف في مصر ..
٣. قال ابن حجر الهيتمي : " نعم إن خُشي نبش أو حفر سبع أو هدم سيل لم يكره البناء والتجصيص بل قد يجبان " من " تحفة المحتاج " ( 3 / 196 ) .
والأمثلة كثيرة واستثناءات الأحكام أكثر .. نريد أن نقول أن مسألة زيارة القبور والبناء عليها من الأحكام الخاضعة للرأي والاجتهاد والاستثناء ، وخاضعة لتغيير بعض المعطيات الخاصة بها وليست من الأحكام القطعية والعقائد التي يدور إسلام الفرد وإيمانه مدارها .. ومن يجعلها سبباً للفرقة بين المسلمين وتكفيرهم فإنه قد جافى الشرع والعقل والمنطق ..
8 شوال
فاجعة البقيع
تعليق