السيد محمد القبانجي
تمهيد: اهتمام أهل البيت (عليهم السلام) بالعقيدة المهدوية:لعلَّ من أبرز الأُمور الملفتة لنظر الباحثين في الموروث الإمامي هو ما نجده من اهتمام بالغ من قِبَل أهل البيت (عليهم السلام) لبيان العقيدة المهدوية وغرسها في قلوب المؤمنين، وجعلها معلماً بارزاً في ضمن تراتبية العقائد الإسلاميّة عموماً والشيعية بنحو خاصّ، لذا لم يخلُ معصوم عن التحدّث عن خصائص هذه العقيدة وبناء مرتكزاتها وتحليل أبعادها كلٌّ بحسب ظرفه وزمانه، وإن كنّا نجد أنَّه لم يصل إلينا من بعضهم (عليهم السلام) الشيء الكثير، لكن يمكن إرجاع ذلك إلى ضياع الكثير من تراث أهل البيت (عليهم السلام) بسبب الممارسات القمعية والتعتيم الإعلامي على كلّ ما صدر منهم (عليهم السلام)(١) من قِبَل السلطات الغاشمة وطواغيت العصر هذا من جهة، ومن جهة أُخرى يمكن إرجاعه إلى التقيّة المكثَّفة التي مارسها بعض الأئمّة (عليهم السلام) نظراً للظروف الاستثنائية التي مرّوا بها.
ويمكن إحصاء ما وصل إلينا من قِبَل المعصومين (عليهم السلام) في حقّ القضيّة المهدوية وما يتعلَّق بها بحسب ما جاء في معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) (٥٦٠ حديثاً)، أمير المؤمنين (عليه السلام) (١٢٩ حديثاً)، الحسن (عليه السلام) (٩ أحاديث)، الحسين (عليه السلام) (٩ أحاديث)، السجّاد (عليه السلام) (٢٢ حديثاً)، الباقر (عليه السلام) (١٦٠ حديثاً)، الصادق (عليه السلام) (٢٩٧ حديثاً)، الكاظم (عليه السلام) (٢٠ حديثاً)، الجواد (عليه السلام) (٣١ حديثاً)، الهادي (عليه السلام) (١٣ حديثاً)، العسكري (عليه السلام) (٤٢ حديثاً).
فمجموع ما روي عنهم (عليهم السلام) يقرب من (١٣٣٢ حديثاً)، هذا مضافاً إلى ما ورد عن صاحب العصر والزمان من التوقيعات الشريفة على يد سفرائه الأربعة (رحمهم الله).
كما ذكر الصدوق (رحمه الله) حديث اللوح عن الزهراء (عليها السلام) في الرواية المعروفة عن جابر الأنصاري (رحمه الله). هذا مضافاً إلى عشرات الأحاديث في بيان عدد الخلفاء بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
ولو نظرنا إلى ما جاءت به الكتب السماوية من الإشارات والتلميحات عن عصر الظهور والمصلح العالمي، لوجدنا الشيء الكثير، ممَّا يدلّل على أنَّ العقيدة المهدوية هي عقيدة ليست إسلاميّة فحسب، بل هي عقيدة الشرائع السماوية، وهذا بحث له مجاله الخاصّ لا نريد التعرّض إليه في هذا المختصر.
تراث الإمام الحسن (عليه السلام) المهدوي:
رغم قلَّة ما وردنا من التراث الحسني في العقيدة المهدوية، والذي بلغ (٩) روايات كما جاء في (المعجم)، والتي لو محَّصناها لوجدنا أنَّ واحدة منها لا تخصّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فقد جاء فيه نقلاً عن تفسير القمّي(٢) بسنده عن الحسن السبط (عليه السلام) أنَّه قال: «... ثمّ عيسى بن مريم، روح الله وكلمته، وكان عمره في الدنيا ثلاثة وثلاثين سنة، ثمّ رفعه الله إلى السماء، ويهبط إلى الأرض بدمشق، وهو الذي يقتل الدجّال»، فهي تشير إلى عيسى بن مريم (عليه السلام) وخروجه في آخر الزمان وقتله للدجّال، وهكذا رواية أُخرى(٣) مردَّدة بين الإمام الحسن (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام)، وإن أوردها الطوسي في غيبته(٤) وصاحب الخرائج(٥) عن الإمام الحسن (عليه السلام)، إلَّا أنَّ البعض الآخر ذكرها عن الحسين (عليه السلام) كما في عقد الدرر وفوائد الفكر(٦)، وآخرون ذكروا أحد(٧) الإمامين بين قوسين دون الآخر إلفاتاً إلى الترديد في مصدر الرواية.
وأمَّا الثالثة فهي وإن نُسبت إلى الإمام الحسن (عليه السلام) باعتبار مشاركته في الرواية وجوابه للخضر (عليه السلام)، إلَّا أنَّ الإقرار بالأئمّة ومنهم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كان من قِبَل الخضر (عليه السلام)، فلا يمكن اعتبارها موروثاً حسنياً وإن ذكرها الصدوق وغيره فيما ورد عن الحسن (عليه السلام) في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(٨).
وعوداً على بدء فإنَّ الموروث الحسني في العقيدة المهدوية رغم قلَّته، لكنَّه يوقفنا على الجهد المتميّز للإمام الحسن (عليه السلام) في عرض القضيّة المهدوية أوَّلاً، وفي التركيز ثانياً على تعيين المصلح العالمي الذي يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً من خلال التنوّع في طرحه للقضيّة المهدوية، إذ لم يكتفِ (سلام الله عليه) بالأُطروحة العامّة، وأنَّه لا بدَّ لهذه الأُمَّة من المصلح العالمي وتحقّق العدالة الإلهية على يديه، بل حاول - وبامتياز - إعطاء المواصفات الخاصّة التي لا يمكن أن يكون لها مصداق غير الحجَّة بن الحسن (عليه السلام).
ويمكن معرفة ذلك من خلال موروثه المهدوي، حيث تحرَّك على ثلاثة أبعاد:
البعد الأوَّل: حصر الإمامة في اثني عشر إماماً (عليهم السلام).
البعد الثاني: معالجة الشبهات المهدوية المستقبلية.
البعد الثالث: ذكر الخصائص المهدوية.
البعد الأوَّل: حصر الإمامة في اثني عشر:
إنَّ انحصار الإمامة في اثني عشر فقط لا غير يعتبر من الأُمور الهامّة التي ركَّز عليها أهل البيت (عليهم السلام) بشكل عامّ، وتداولها شيعتهم حتَّى أصبحت سمة بارزة في التعريف بالهوية الشيعية، فسُمّي أتباعهم بـ(الاثني عشرية) تمييزاً لهم عن الزيدية والإسماعيلية وغيرهم في فِرَق الشيعة.
ويضمّ الموروث الإمامي عشرات الروايات، بل المئات(٩) من الأحاديث التي تنصّ على العدد (الاثني عشر) بشكل صريح، ويأتي الموروث الحسني ليؤكّد هذه الهوية انسياقاً مع تأكيد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كما في قوله (عليه السلام): «الأئمّة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) اثنا عشر، تسعة من صلب أخي الحسين، ومنهم مهدي هذه الأُمَّة»(١٠).
وقوله (عليه السلام): «والله إنَّه لعهد عهده إلينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، أنَّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة (عليهم السلام)، ما منّا إلَّا مسموم أو مقتول»(١١).
وهكذا ما جاء على لسان الخضر (عليه السلام) في التنصيص على أسماء الأئمّة الاثني عشر: «أشهد أن لا إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله، وأشهد أنَّ أباك أمير المؤمنين وصيّ محمّد حقَّاً حقَّاً، ولم أزل أقوله، وأشهد أنَّك وصيّه، وأشهد أنَّ الحسين وصيّك، حتَّى أتى على آخرهم...»(١٢).
وأُخرى على نحو التشبيه والمقارنة كما في قوله (عليه السلام): «الأئمّة عدد نقباء بني إسرائيل، ومنّا مهدي هذه الأُمَّة»(١٣).
ولا يخفى أهمّية الأمر الثاني بعد الفراغ من ضرورة التصريح، فإنَّ التشبيه مضافاً إلى كونه حائزاً على المعنى الذي يُرجى من النحو الأوَّل، فإنَّه يعطي دلالة واضحة على أنَّ السنن الإلهية متَّحدة مع بعضها، قال تعالى: ﴿وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً﴾ (الإسراء: ٧٧)، وقال تعالى: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: ٦٢)، وبهذا الأمر تتجلّى وحدة الأديان ووحدة أهدافها، قال تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ (الحجّ: ٧٨)، وآيات أُخرى قريبة من هذا الحصر.
مضافاً إلى كلّ ذلك فإنَّ حصر الإمامة بهذا العدد المحدَّد يسدُّ كلّ أبواب الانحراف ونوافذ الزيغ لمن يريد أن يتشبَّث بالمتشابهات من الروايات ويستعين بالاحتمالات الواهية لزيادة العدد أو نقصانه كما نجده اليوم في محاولات البعض من جعل الأئمة ثلاثة عشر أو أربعة وعشرين كما سيأتي في البعد الثاني.
هذا ولا يخفى تواتر حديث الاثني عشر بصيغه المختلفة وألسنته المتنوّعة، حتَّى أصبح من الأُمور المتسالمة إسلاميَّاً وليس مذهبياً فقط.
قال الشيخ الطوسي(١٤): ومما يدل على إمامة صاحب الزمان ابن الحسن بن علي بن محمد بن الرضا (عليهم السلام) وصحة غيبته ما رواه الفريقان المختلفان والفرقتان المتباينتان العامة والإمامية أن الأئمة (عليهم السلام) بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) اثنا عشر لا يزيدون ولا ينقصون... ثم يقول: ونحن نذكر مجملاً من ذلك ونحيل القارئ إلى الكتب المصنفة في هذا المعنى... - إلى أن قال: - فأمّا ما روي من جهة الخاصة فأكثر من أن يحصى غير أننا نذكر طرفاً منها.
فالحصر بالاثني عشر إماماً كلهم من قريش لا يصدق - من دون تشويق ولا اضطراب - إلّا على أئمة الشيعة (عليهم السلام)، دون غيرهم من ملوك بني أمية والعباسيين، ولذا اختلفوا في المصاديق لهؤلاء الخلفاء، فشرَّق بعض وغرَّب آخرون، ولم يجدوا في تشريقهم وتغريبهم رشداً، ولم يروا حقَّاً(١٥).
يتبع
تعليق