{ الشيخ ثناء الدين الدهلكي - أستاذ في جامعة المصطفى(صلى الله عليه واله) العالمية، من العراق }
عند دراستنا لآيات القرآن الكريم، تنكشف أمامنا موضوعات قرآنية متعدّدة يمكن استخدامها في عملية نقد القراءة الميثولوجية لعاشوراء، وقد تقدّم في القسم الأوّل من هذه الدراسة الحديث عن القاعدة الأساسية للخلاص في القرآن الكريم، حيث تمّ بيانها في ضوء مسألتين أساسيتين، تكمن الأُولى في كون الخلاص هو حاصل الفعل الإنساني، وتتجلّى الثانية في نفي مقولة (تحمّل الذنب بالنيابة)، واستكمالاً لما مرّ بيانه في القاعدة الأساسية يدفعنا الحديث إلى الإجابة عن سؤالين يتّصلان بمحلّ البحث، وهما:
1ـ بعد أن ورد مصطلح الفداء بصيغتيه الاسمية والفعلية في عدة آيات قرآنية، يقع السؤال التالي: ما هي المعاني التي ينطوي عليها هذا المفهوم قرآنياً؟ وما هي السياقات التي برزت في ضوئها هذه المعاني؟
2ـ ما هي العوامل والسبل التي عرضها القرآن الكريم والتي يمكن سلوكها للوصول إلى السعادة الأُخروية والنعيم الأبدي؟
سنحاول ـ من خلال المطلبين التاليين ـ بسط الإجابة عن هذين السؤالين.
المطلب الأوّل: نفي الفداء في سياق التصوير القرآني ليوم الحساب
من المعلوم أنّ السؤال الأوّل قد سبق وأن تـمّت الإجابة عنه في الإطار المفاهيمي من القسم الأوّل، وقد ذكرنا في محلّه أنّ مصطلح الفداء قد ورد ذكره في القرآن الكريم بصيغتيه الاسمية والفعلية، وأُريد منه المعاني التالية: عوض الأسر، والكفّارة (بالاصطلاح الفقهي)، وبدل الخلع، والعوض عن ذبح إسماعيل(عليه السلام)، والبدل عن العقاب الأُخروي.
واستكمالاً لمعاني الفداء في القرآن سنحاول في هذا المطلب تسليط الضوء على المعنى الخامس، حيث وردت فيه آيات متعددة تتحدّث عن العقوبة الحتمية لطوائف من الناس، لتأكّد أن لا نجاة لها من العقاب حتّى وإن افتدت بأفضل ما تملكه أو تحبّه.
ومن أجل إيضاح الفكرة بشكل جلي، نعرض النصوص القرآنية التي ورد فيها فعل الفداء منفياً في سياق التصوير القرآني ليوم الحساب وذلك بلحاظ العناوين التي تحتَّم عليها العقاب الأُخروي:
1ـ عنوان الكفر
يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ)[1].
ويمكن أن يقال في تقريب الآية: إنّ الكلام قد وقع على سبيل الفرض والكناية؛ بلحاظ أنّ الذهب باعتبارٍ مادّي يكون أعزّ شيء لدى الإنسان، فإذا ما وجد إليه الكافر سبيلاً وقدر على بذله وهو غاية في الكثرة لما تمكّن من تخليص نفسه من عذاب الله، ونتيجة ذلك أنّ العقاب محتوم عليه البتّة إلى حدّ حرمانه من النصرة والشفاعة أيضاً؛ ويؤيّده ما روي عن النبي(صلى الله عليه واله) قوله: «يُجاء بالكافر يوم القيامة فيُقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم. فيقال: لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك»[2].
وزيادة على اشتمال هذه الآية على نفي الفداء فإنّها تنفي تحقّق النصرة لديهم، فلا فداء ولا شفاعة يمكن تصوّرها في ذلك المشهد العظيم على أن يكونا بدلاً عن التوبة أو المغفرة، «والبدل إنّما يكون من فائت يفوت الإنسان وقد فاتتهم التوبة في الدنيا ولا بدل لها يحلّ محلّها في الآخرة؛ ومن هنا يظهر أنّ قوله وماتوا وهم كفّار في معنى: وفاتتهم التوبة»[3].
وقريب من الآية السابقة آية أُخرى وردت في سياق بيان عاقبة الكافرين، وقد توفّرت على مصطلح الفداء بصيغته الفعلية، إذ تنفي تحقّق الفداء وعدم قبوله حتّى وإن كان ضعف ما في الأرض جميعاً، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[4].
2ـ عنوان النفاق
هناك آية كريمة أُخرى تصوّر لنا مشهداً آخر من مشاهد يوم القيامة وقد توفّرت على دلالات متعددة، كما برز فيها مصطلح الفدية في سياق النهي عن أخذها من المنافقين والكافرين، يقول تعالى: (فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[5].
والمنافق هو مَن أسلم ظاهراً وأنكر الإسلام باطناً، ويُعرف ذلك من خلال أفعاله وسلوكياته، التي تتناقض وروح الإسلام وتعاليمه، يقول تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)[6].
ثمّ إنّ نفي أخذ الفدية من المنافقين في هذه الآية لا يعني تحقّق ذلك في غيرهم من الناس؛ والدليل عليه يتجلّى في القاعدة القرآنية الأساسية الحاكمة بأنّ النفس الإنسانية رهينة العمل والكسب، ولا مكانة للفداء في عالم الخلاص والنجاة، ولم يثبت الاستثناء إلّا في مورد الشفاعة كما سيتّضح ذلك لاحقاً.
3ـ عنوان الظلم
هناك آيتان جاء فيهما فعل الفداء ماضياً، وهي قريبة من الآيات السابقة، إذ تعكس حقيقة هول يوم القيامة وسوء ما يحلّ بالظالمين من العذاب الأليم؛ ما يدفعهم إلى تمنّي أن لو كان لهم ما في الأرض جميعاً لافتدوا به عوضاً عن ذلك العذاب، يقول تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[7]. ويقول تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[8].
وقد اختُلف في معنى الظلم في الآيتين، فذهب بعض إلى أنّه الكفر[9]، وفسّره بعض بأنّه الشرك، ومال آخرون إلى إرادة عموم الظلم[10]، ولعلّ منشأ ذلك العموم أنّ بعض الأفعال الإنسانية ـ من وجهة قرآنية ـ يمكن أن توصف بالظلم وذلك في ضوء العلاقات السلبية التالية:
1ـ علاقة الإنسان بخالقه، وأعظمها الكفر والشرك والنفاق، كما في قوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[11].
2ـ علاقة الإنسان بنفسه، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ)[12].
3ـ علاقة الإنسان مع الآخرين من أبناء جلدته، كقوله تعالى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ)[13].
ومن المعلوم فإنّ شمول هاتين الآيتين لهذه المعاني المتعدّدة يتحقّق فيما لو تلبّس الإنسان بمبدأ الظلم ولم يتبعه بتوبة واستغفار وأداء الحقوق، وأصرّ على ما ارتكبه من الإثم والعدوان حتّى أدركه الموت.
4ـ عنوان عدم الاستجابة
يقول تعالى: (...وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[14].
جاءت الاستعارة التخيلية مرّة أُخرى في هذه الآية الكريمة لتنبّه على شدّة هول يوم القيامة وحتمية العذاب الذي لا تنفع معه الوسائط المتعدّدة، مع تغيّر الوصف من الكفر والنفاق والظلم إلى عدم الاستجابة.
ومعنى عدم الاستجابة ينطوي على مظاهر متعددة منها: عدم استجابة الدعوة إلى الحقّ، وعدم الإقرار بالنبي والعمل بما دعا إليه[15]، وقد بيّن الله سبحانه في هذه الآية آثار الاعتقاد الباطل نتيجة عدم تحقّق الاستجابة.
5ـ عنوان الإجرام
يقـول تعالى: (...يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى... )[16].
في هذا المقطع من القرآن الكريم ورد أيضاً مصطلح الفداء بصيغته الفعلية من باب الافتعال، حيث يتمنّى المجرم ـ من شدّة ما يراه من العذاب ـ الافتداء بأعزّ الناس إليه وأكرمهم لديه، فيأتي الجواب بـ(كلا) ردعاً لما يتمنّاه من الافتداء بكلِّ هذه الأصناف.
والمجرم ـ كما عن تفسير الميزان[17] ـ مَن تلبّس بالإجرام، وهو أعمّ من الكافر، أو هو خصوص الكافر كما عن مقاتل[18] وآخرين، أو هو المشرك كما عن الثعلبي[19]، أو كلّ مَن أذنب ذنباً استحقّ به النار[20]، سواء تلبّس بمبدأ الكفر أم لم يتلبّس، ولعلّ هذا الأخير مأخوذ من المعنى اللُّغوي من كون الجرم هو الذنب[21]، وهذا المعنى قريب إلى ما ذكره صاحب (الميزان) من كون المجرم في الآية أعمّ من الكافر.
النتيجة
من خلال ما تقدّم يمكننا القول: إنّ عذاب يوم القيامة إنّما ينشأ جرّاء الأعمال القبيحة والأفكار الفاسدة، فيطرأ نتيجة ذلك تراكم الحجب والظلمات بين النفس الإنسانية ونور الرحمة الإلهية، وإذا ما تحقّق ذلك الانفصال فلا يفيد في رفعه وإصلاحه الفداء، فإنّ الفداء لا يتناسب ورفع الحجب عن النفس، ولا يؤثّر في إزالة آثار الظلم والطغيان والانحراف والعصيان.
المطلب الثاني: عوامل الخلاص في القرآن الكريم
في إطار الإجابة عن السؤال الثاني نؤكّد أنّ القرآن الكريم قد أولى أهمّية بالغة للخلاص الأُخروي، وأعطى صورة واضحة له لا تحتمل الإبهام والشكّ والتأويل، ولا تعكس ألواناً تحاكي الرؤية الميثولوجية في الخلاص، بل إنّ كلّ ما تعكسه من عوامل يُظهر أنّ الخلاص هو حاصل الفعل الإنساني بعد أن كانت الخطيئة فعلاً من أفعاله كذلك، ومنه يتجلّى عنصر الاختيار الذي أضحى مشكلة أساسية حال تفسير الفداء على أُسس عقلية ومنطقية.
والتحقيق يدلّنا على وجود عوامل متعددة للخلاص والغفران في القرآن الكريم، ولكن إمعان النظر يرشدنا إلى كون الكثير من هذه العوامل منضوية تحت لواء الفعل والعمل، حيث تحدّث القرآن الكريم عن وسائل من قبيل: التقوى[22]، إطاعة الرسول(صلى الله عليه واله) واتّباعه[23]، الجهاد والهجرة والإيذاء والقتل في سبيل الله[24]، اجتناب كبائر الذنوب[25]، الإقراض[26]، صدقة السرّ[27]، وغيرها.
ومنه يمسي الحديث عن الخلاص في القرآن الكريم يدور مدار الفعل الإنساني. نعم، هناك وسيلتان أُخريان تحدّث عنهما القرآن الكريم وقد تجلّت فيهما الرحمة الإلهية على العباد المنيبين، يتمثلان بالتوبة والشفاعة.
وعليه؛ يمكن تقسيم عوامل الخلاص في القرآن الكريم على ثلاثة أقسام رئيسة:
يتبع
تعليق