امتاز الإنسان عن غيره من المخلوقات بنعمة العقل وأعني بالعقل هنا هو العمليات الذهنية والنشاط المعرفي الذي ميّز الإنسان بالناطقية التي خصّها المناطقة بالإنسان الذي عرفوه بأنه حيوان ناطق وليس الناطقية هنا سوى النشاط العقلي في إجراء العمليات الفكرية لكشف المجهول ومعرفة حقائق الأمور .
فالحيوان في تعريف المناطقة هو الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة وليس الحيوان بمفهومه العرفي الذي يطلق على الدواب بكل أصنافها فهي أيضًا مما تحله الحياة ولها عقل خاص بها يتسم بالبساطة ولكنه خالٍ من التفكير والتدبر وهاتان الصفتان هما اللتان ميزتا الإنسان عن غيره .
من هنا ومن هذا المنطلق توجه الخطاب القرآني إلى النفس البشرية والعاقلة من حيث هذه المواصفات وما تحمله من خصائص ولكن في المقابل بيّن للبشرية مغادرتها للعقل والتفكّر والتأمل وبخاصه في مسألة التوحيد قال تعالى ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ وبحسب المصادر أن ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ وردت 14 مرة وهذا فيه الكثير من التأمل للباحث عن حقيقة العقل أو أهميته في القرآن الكريم وهو الخطوة الأولى في إدراك الأشياء لذلك صار الشرك صفة مذمومة تجاوزت العقل في ترتيب عمليات التفكير .
فعقلَ الشيء أدركه ، وعقلَ المسألة فهمها .
من هنا نفهم أن الخطاب القرآني المذيّل بــ ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ هو خطاب لمن غرق في الجهل وتعاطاه حد الثمالة بدليل أنه لم يتجاوز المرحلة الأولى للناطقية وهي عملية استقبال المعلومة الذي هو مصداق قوله تعالى ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعقلونَ﴾ وهذه الآية هي تصريح خطابي قرآني لتحديد مصير من يعزف عن إعمال العقل في حقائق الأمور ليصل به إلى المجهول .
ولو تجاوزنا مرحلة التعقّل التي تعني إدراك حقائق الأمور ووعيها وخزنها وتهيأتها لعملية قابلة أهم من الأولى وهي مرحلة التفكّر والتأمّل وهي ما يعني التدبّر الذي يعد المرحلة اللاحقة التي حفّز بها الباري عز وجل الإنسان لينتقل من السكون والركود إلى عملية الحركة والنشاط الذهني .
فالتأمّل عبادة العلماء والمفكرين والفلاسفة وقد ورد كثير من الأحاديث المروية عن الرسول (صلى الله عليه و آله) وأئمة آل البيت (عليهم السلام ) بخصوص أهميته لذلك هو أفضل عبادة ، فتأمل ساعة خير من عبادة ألف سنة .
وتتسم هذه المرحلة (التأمّل والتفكّر) بالربط بين العلاقات والأسباب ثم تأتي عملية الاستنتاج والوصول إلى فهم أعلى وأعظم من مجرد المعرفة لذا هي مرحلة بعد التعقّل .
وأكيد من فقد التعقّل لا يصل إلى التفكّر والتأمّل فالمقدمات أساس النتائج فإذا فقدت المقدمات انعدمت النتائج فتكون سالبة بانتفاء الموضوع .
على الرغم من ورود آيات في التعقّل أكثر من مرة إلّا أن ﴿أفلا يتفكّرون﴾ هي واحدة وهذا طبيعي لأنه مهما تعددت الأسباب فالنتيجة واحدة لذا فتعدد الاستفهام الإنكاري الذي هدفه التوبيخ والتعريض يقرر حالتهم المأساوية فكانت عقولهم عاجزة وقاصرة عن الوقوف على إدراك الحقائق القرآنية أو استشعار دلالة الخطاب القرآني في أن هناك إلهًا واحدًا لا شريك له وهو خالق هذا الكون لذلك جاءت ﴿أفلا تتفكّرون﴾ بحسب بعض المصادر تعريضًا بعجز عقولهم وقصورها بها عن التفكير والفهم وهي المرحلة اللاحقة بعد التعقل فإذا فقد الإنسان التعقل فبالضرورة يفقد التفكّر والفهم لذلك كانت النتيجة ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلْأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾.
في كل ما تقدم فلسفة خاصة في الخطاب القرآني للكشف عن حقيقة البشر فكانت الناطقية علامةً للفكر والتأمّل والتفكير الذي هو عملية هضم المعلومة وتقديمها للآخر ليفيد منها في زيادة وعيه وثقافته من هنا نفهم المعجزة التي قدمها الخطاب القرآني للإنسانية لينتشلها من الجهل والتخلف إلى العقل والتفكر وهذا ملموس في حياة المسلمين .
فبعدما كانت حياة العرب بسيطة يلهثون وراء الماء والكلأ ولا يعرفون للاستقرار سبيلاً منحهم الخطاب القرآني الحياة الفكرية التي كانت مدعاةً للشعوب الأخرى من غير العرب إلى دخول الإسلام وطرق باب العلوم حتى صارت أمة محمد (صلى الله عليه و آله) أمة مفكرة ولكنها تشظت إلى ثلاث وسبعين فرقة .
وعلى الرغم من الاجتهادات الباطلة لبعض الفرق الإسلامية ومواقفها السلبية التي طرقت باب الجهالة ونَكَصت مره أخرى لعدم التعقل الذي يؤدي إلى التفكير السلبي فصار مصيرها النار ، أقول على الرغم من ذلك لم نعدم وجود الفرقة الناجية التي اتبعت القرآن الناطق عليّاً وآل بيته الكرام وأفادت من علوم آل بيت محمد (صلى الله عليه و آله ) وصنعت التاريخ المشرّف للكلمة الحقة المنجية من النار .
من هنا صار الفكر والتأمّل معجزة أخرى للرسول (صلى الله عليه و آله) الذي انتشل الأمة من الجهل إلى العلم والمعرفة .
وبالعلم تزدهر الشعوب .
من العتبة الحسينية المقدسة