إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التحول الثقافي وتناقض الأفكار

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التحول الثقافي وتناقض الأفكار


    بسم الله الرحمن الرحيم
    اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
    وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
    وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
    السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته


    قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب )
    .

    [القرآن الكريم]

    آثار التحول الثقافي :

    أخذت ثقافات الدول تتحول بسرعة في عالم اليوم ، وكذلك تتغير المباني العلمية والبرامج التربوية دائماً ، ويقدم العلماء كل يوم نظريات جديدة في مواضيع مختلفة للعالم ، وكل نظرية ، صحيحة كانت أم خاطئة ، تترك آثاراً على أفكار الناس .
    والتحول الثقافي غيّر جميع شؤون حياة الإنسان ، فردياً واجتماعياً ، وبدل أخلاق الشعوب وسلوكها ، كما أنه أضعف العقيدة الدينية في باطن الأشخاص ، وزعزع المبادئ الأخلاقية الثابتة ، وقلل من أهمية التقوى والطهر . وأدى هذا التحول إلى اختلاف معايير الفضيلة والرذيلة ، وفقدت الآداب والسنن الإجتماعية أهميتها ، وفي بعض المواضع حلت أعراف جديدة مكانها .
    واختلط الصحيح والخطأ في الثقافة الجديدة ، فإلى جانب التعاليم الصحيحة والمفيدة وجدت تعاليم خاطئة ومضرة ، وعلى اثر التعاليم السيئة فقد
    تعقّد الصواب والخطأ يوماً بعد آخر ، وأصبح من الصعب التمييز بين الخير والشر ، كما ازدادت حيرة الناس في معرفة المباح والمحرّم .
    فالأطفال ينشأون في العائلة طبقاً لمعتقدات الوالدين والسنن والآداب والإجتماعية . وعلى هذا الأساس تثبت أعمدة شخصياتهم ، ولكنهم عندما يصلون سن الشباب ، ويدخلون المجتمع ، ويواجهون التعاليم المخالفة لتربيتهم في عهد الطفولة ، يصابون بالقلق ، ونتيجة التضاد الداخلي والاضطراب الفكري تتزعزع شخصياتهم .

    اهتزاز الشخصية :
    « يقول جان ديوي : يرزح الإنسان اليوم تحت تأثير عوامل كثيرة كل منها يترك في ذهنه أثراً يدفعه إلى التفكير .
    ومن الطبيعي أن أثر المبادئ الدينية والصحف والمجلات ومراكز التعليم والمدارس والجامعات ومعاشرة الناس ، ليس متساوياً . وفي الوقت نفسه فإن لكل شخص مبادئ تعليمية وتربوية مختلفة ، وهناك اختلاف شديد بين العادات ، كما أن أعمدة الشخصية مهتزة وغير ثابتة ، والمبادئ الأخلاقية ضعيفة والتصرفات غير مطمئنة » (1) .
    « يقول صموئيل كينغ : إن المجتمع المتحضر اليوم متناقض جداً ومعقد ، ويفرط خاصة في توقع الأفضل من الأفراد . ويشاهد غالباً أن هناك اختلافاً كبيراً بين تربية البيت والمسجد ، أو الكنيسة والمدرسة وبين التعليم الذي يتوقعه المجتمع » (2) .
    ____________
    (1) الأخلاق والشخصية ، ص 126 .
    (2) علم الاجتماع ، ص 111 .
    ضياع الشباب :
    « يقول الدكتور هاريس: تطرح الحياة خارج محيط المنزل والمدرسة ، ( أي في صالات السينما والمحافل ، ومواضيع الكتب والمجلات والتلفزيون ) ، أمام الشباب مواضيع ليس لها ذكر في البيت والمدرسة والمراكز الدينية ، أو هي مواضيع مخالفة لمواضيع هذه الأماكن ، ولذا فإن الشباب ، الذين لم ينضجوا عقلياً بموازاة النمو الجسمي ، يصابون بالضياع ولا يستطيعون أيجاد انسجام بين أحاسيسهم وحقائق المجتمع » (1) .
    لقد اُصيب إنسان اليوم ، نتيجة التحول الثقافي ، باضطراب نفسي وتناقض فكري لدرجة أن البعض قد تعرض لأمراض نفسية . إن ثقافة اليوم قد ألحقت أضراراً بالمبادئ الإيمانية والأخلاقية ، التي هي نقطة ارتكاز النفس ، والمقر الأساسي لهدوء الضمير ، وسلبت راحة الفكر من الناس . إن الكثير من الأشخاص تأثروا تأثيراً كبيراً بالمواضيع المتناقضة للثقافة الجديدة لدرجة أنهم أخذوا ينظرون إلى جميع القضايا الدينية والعلمية والأخلاقية الأساسية نظرة شك وتردد فيها الكثير من سوء الظن أدت بهم إلى الضياع والحيرة وجعلت في داخلهم صراعاً دائماً مع النفس في اتخاذ أي قرار ، وفي انسجامهم مع الظروف المحيطة .

    عجز في مواجهة التغييرات :
    « إن التغييرات السريعة في الثقافات أوجدت أفكاراً جديدة ، وقد أدى هذا الوضع الفوضوي بالكثير من الأشخاص الى الحيرة والضياع وتعذبت نفوسهم نتيجة عدم استطاعتهم إشباع رغباتهم والانسجام مع المقتضيات الإجتماعية ، ولهذا السبب فمن المحتمل أن يصاب مثل هؤلاء الأشخاص بمختلف أنواع الأمراض
    ____________
    (1) المشاكل النفسية للشباب ص 20 .


    والعقد النفسية ، التي تؤدي بهم إلى الانتحار ، أو الانخراط في زمرة المجرمين .
    يذكر ( بلوك ) في كتابه ( الاختلال الفردي والاجتماعي ) أن الأشخاص عندما يواجهون تغييرات اجتماعية عميقة غير متوقعة ، ويعجزون عن الانسجام مع هذه التغييرات يحتمل أن يسلكوا خمس طرق :

    1 ـ الانسجام مع الآداب والتقاليد الجديدة .
    2 ـ إيجاد طريقة أخلاقية خاصة والسعي لكي يقبل المجتمع ذلك .
    3 ـ سلوك الأساليب غير الاجتماعية كالجريمة والتمرد على النظام الموجود والهجوم عليه .
    4 ـ الابتعاد عن المجتمع والابتلاء بالأمراض النفسية المختلفة .
    5 ـ سلوك طريق الانتحار ، هرباً من الحياة » (1) .

    اختلاف الآراء لدى الشيوخ والشباب :
    إن التحول السريع للثقافة في عصرنا ترك أثراً عميقاً في المجتمعات البشرية وأحدث تغييرات في مختلف مجالات العقائد والآراء لجميع الطبقات . والتحول الثقافي غيّر كيفية تفكير الناس في الكثير من القضايا الدينية والعلمية والأخلاقية والاجتماعية والتعليمية والتربوية ، والقضايا النظرية والعملية الاخرى ، ونتيجة لذلك ظهر اختلاف في وجهات النظر ، وتناقض في التفكير لدى الكثير من الشبان والكبار في العائلات والمجتمعات .
    من الملاحظ أن هناك فوارق بين الناس في كسب العلم واستيعابه كما
    ____________
    (1) علم الإجتماع ، ص 112 .

    تختلف مستوياتهم العلمية ، ولهذا السبب تختلف أيضاً وجهات النظر بين الشيوخ والشباب في العائلات ، وإن نقاشهم وبحثهم يتناسب والمستوى العلمي والثقافي لكل عائلة .


    العائلات المتعلمة :

    ففي العائلات التي يكون الشيوخ فيها أو على الأقل كبير العائلة يكون متعلماً ، والشباب فيها مثقفون ، إذا حصل اختلاف في الرأي بينهم في بعض القضايا ، فمن الممكن حله بالبحث والتفاهم ، وإذا كانت الاختلافات عميقة ومبدئية ولا يمكن حلها بالطريقة السابقة فإنهم يقطعون النقاش ويبقى كل واحد منهم على رأيه ، والحقيقة أنه من النادر أن يحدث في مثل هذه العائلات اختلافات علمية ونظرية تؤدي إلى العداء والخصومة وتوتر أجواء البيت لدرجة وقوع جرائم .

    العائلات الأمية :

    أما اختلافات الشيوخ والشباب في العائلات الاُمية فليس هناك أي أساس علمي لذلك وإنما يعود معظمه إلى الانحرافات الأخلاقية لدى الفتيان والفتيات فشباب هذه العائلات لم يحصلوا على القدر الكافي من العلوم ولم يدخلوا المدارس لاكتساب العلم ، ولم يستفيدوا مما دونه العلماء في كتبهم ليرتفع مستوى تفكيرهم ، وهم اُميون كآبائهم واُمهاتهم . ولكن مشاهدة الأفلام المنحطة والجنائية التي هي من مظاهر الثقافة الجديدة ، وكذلك المعاشرات الفاسدة ، ومشاهدة المناظر الضالة ، استطاعت أن تترك أثراً على أخلاق وتصرفات بعض هؤلاء ، فدفعت بهم نحو الفساد والشر ، وشرب الخمر والمقامرة ، والسرقة والجريمة ، وبقية الممارسات الضارة .
    للأسف أن الإنسان يتعلم الرذائل بسهولة أكثر من اكتسابه الفضائل وتعلمه للشر أسرع من تعلمه للخير . ومن الصعب جداً بلوغ العدالة والإنصاف والتخلق بالعفة وكف النفس عن الخبائث ، وغيرها من السجايا الإنسانية ، لكن


    من السهل جداً تعلم الظلم والاستبداد ، والفساد واللامبالاة ، وغيرها من الرذائل الأخلاقية .
    قال علي عليه السلام : « ما أصعب اكتساب الفضائل وأيسر إتلافها » (1) .

    العار الاجتماعي :

    إن الوالدين والكبار في هذه العائلات يتأثرون لمشاهدة التصرفات الشريرة للشباب ، وذلك خوفاً مما قد يصيب العائلة من سمعة سيئة وعار اجتماعي ويقولون : إن هؤلاء الشباب قد أساءوا لسمعة العائلة وكرامتها بتصرفاتهم السيئة .
    وإذا كان الكبار في العائلة متمسكين بالتعاليم الدينية فإن انزعاجهم يكون مضاعفاً ، أولاً للإساءة إلى سمعة العائلة ، وثانياً بسبب مخالفة القرارات الدينية .
    إن الخلاف بين الكبار والشباب في هذه العائلات لا يمكن أن يأخذ شكلاً علمياً واستدلالياً ، لأن الطرفين يفتقدان العلم والاستدلال ، ويتصف اختلافهم بالاعتراض والمؤاخذة ، أو العنف ، أو المشاجرة والصراخ ، وقد ينتهي أحياناً بالضرب والجرح ، وربما القتل والجريمة .

    الشباب المتعلم والشيوخ الاميون :
    إن المشكلة الكبرى هي في العائلات التي يكون كبارها قد حرموا من التعليم في مرحلة الطفولة لعدم وجود مدرسة أو معلم أو لأي سبب آخر وبقوا اُميين ، ولكن أبناءهم الشباب درجوا في مدارج العلم نتيجة وجود الظروف التعلمية ، ودخلوا المدارس منذ الصغر . في مثل هذه العائلات ولاختلاف المستوى العلمي والثقافي ، توجد خلافات كثيرة بين الشباب والشيوخ في الكثير من القضايا ، وهذا ما يدفعهم للمواجهة .
    ____________
    (1) شرح ابن أبي الحديد ، ج 20 ص 259 الكلمة ، 38
    .
    فالشباب المثقف فضلاً عن أنهم لا يعيرون أهمية لآراء الكبار ولا يتبعون أفكارهم ، وإنما عندما يشاهدون شيئاً يستوجب اختلاف الرأي يفتحون أفواههم بالانتقاد ويرفضون اسلوب آبائهم واسلوب الكبار ويعتبرونه خاطئاً مما يدفع بالكبار لاتخاذ موقف دفاعي عن آرائهم من خلال البحث والنقاش الذي قد يؤدي في بعض الأحيان إلى النزاع ، وإذا تطور يصل الجدال إلى قطع العلاقات العائلية ، فينفصل الأبناء عن الآباء ، والنساء عن الأزواج ، فتتدمر العائلات وتتشتت .
    العائلات والتحول الثقافي :
    وعليه فإن التحول الثقافي يترك أثراً ـ بشكل ما ـ على العائلات المثقفة وغير المثقفة ، ويوجد الاختلاف بين الشيوخ والشباب ، ولكي نوضح جانباً صغيراً من هذا الاختلاف الكبير ، ونقدم سبلاً لتقليل هذا التضاد وعدم الانسجام ، نناقش هنا قسماً من مطالب الشباب المتعلم ، التي تدورغالباً حول ثلاثة مواضيع تعاني منها أكثر العائلات .
    أحدها انتقادهم لبعض الآداب والتقاليد الاجتماعية ، وهذا ما سنبحثه في هذه المحاضرة ، والآخر اسئلة الشباب حول الله تبارك وتعالى والقضايا الدينية ، التي يكون البحث فيها في المحاضرتين القادمتين . ولتوضيح البحث يلزم أولاً أن نقدم توضيحاً عن الآداب والتقاليد الاجتماعية .

    العادات والتقاليد :
    منذ القدم كانت هناك آداب وتقاليد وسنن وآراء تعتنقها الشعوب المختلفة ، البعض منها ، يمكن تبريره تبعاً للظروف الزمانية والمكانية وطبقاً للحاجات الاقتصادية والمصالح الاجتماعية وشؤون العائلة ، والبعض الآخر منها نتيجة الجهل والخرافات ، التي قد يكون لها أحياناً جانب جنائي ، وتعتبر من الممارسات اللاإنسانية . وسنورد مثالاً لك قسم من هذه الأقسام الثلاثة .
    القسم الأول : العادات التي يمكن تبريرها نتيجة ظروف الزمن :

    « 1 ـ المرأة المطلقة في قبيلة ( سكالا واي ) في مدغشقر لا تتمكن بدون موافقة زوجها السابق أن تتزوج ثانية ، والزوج السابق يعقد اتفاقية مع الزوج الجديد على أن يكون الأطفال الثلاثة الأوائل من الزوج الجديد أبناءً له . ويقول أهالي هذه القبيلة إن فائدة هؤلاء الأطفال كفائدة أطفاله له ، وهذا العمل يدل على أن للأطفال فائدة اقتصادية » (1) .
    « 2 ـ إن القبائل البدائية غالباً ما يتزوج أفرادها من خارج قبيلتهم . ويعتقد تايلور (tylor) أن الزواج من خارج القبيلة يؤدي إلى علاقات ودية مع عدة قبائل اخرى هي بدورها تعقد مثل هذا الزواج مع قبائل اخرى فتعود عليهم هذه العلاقات بالنفع ( على القبائل الوحشية أن تتذكر دائماً أن أمامها أمرين : إما أن يتزوج أفرادها من القبائل الاخرى أو يُقتلون خارج قبيلتهم ) ، وبما أن الزواج من القبائل الأخرى له هذه الفائدة ، فإن الزواج من القبيلة نفسها يجب أن يكون مذموماً ومرفوضاً » (2) .
    « 3 ـ أن ينجب المرء ابناً يعتبر في الصين من الواجبات لأنه يهتم بقبور والديه ويحرق لذكراهم البخور ، وبهذا الشكل فإنه يقوم بتخليدهما . وعلى هذا فمن الممكن أن يكون طلب الولد هو خلود الإنسان من خلال الآخرين » (3) .
    القسم الثاني : العادات الخرافية والوهمية :
    « 1 ـ كان ( الأريون ) يعتقدون أن أرواح الأموات تحتاج إلى الطعام والشراب والمسكن ، وأن الأرواح التي لا تملك مسكناً وطعاماً تبقى جائعة وضائعة دائماً فإنها لا تستطيع المحافظة على
    ____________
    (1) علم النفس الإجتماعي ، ج 1 ص 89 .
    (2 و 3) المصدر السابق ، ج 1 ص 89 و 149 .

    أفراد العائلة بل تكون طيفاً مرعباً لهم . إن هدوء الروح لا يتم إلا بدفن الميت باحترام وخشوع ويوضع في قبره الخمر والحليب والعسل .
    2 ـ يجب أن يكون المدفن أمام المنزل ليس بعيداً عن الباب وقريباً من أفراد العائلة لكي يواجهوا أرواحهم في دخولهم وخروجهم ويتحدثوا إليهم ويتضرعوا ويبكوا .
    3 ـ وكانوا يملكون مكاناً خاصاً لإشعال النار المقدسة داخل المنزل ويضعون الطعام في النار ، وكانوا يعتقدون أنه طالما كانت النار مشتعلة فإن أرواح الأموات تحوم حولها ، ولذا يجب أن تكون النار مشتعلة دائماً ، إلى أن يموت آخر فرد في العائلة وتنقرض بكاملها » (1) .
    القسم الثالث : العادات والتقاليد ذات الطابع الإجرامي اللاإنساني فضلاً عن بعدها الخرافي :
    « 1 ـ كان المصريون القدماء يطرحون في النيل فتاة يسمونها عروس النيل حين يتم فيضانه كتقدمة شكر له على اعتقاد أنه إله الخصب ، وما زالت هذه العادة تتوارثها الأجيال المصرية حتى اليوم ، وإنما تغير الجوهر والعرض معاً (2) .
    2 ـ في الهند ، كانت العادة أن يلقوا بأشخاص في النهر قرابين للآلهة بغية استنزال المطر . وفي عام 1924 ، شح المطر في منطقة من مناطق الهند ، واعتقد الناس أن آلهة المطر غضبت على شخص ما ولذا شح المطر ، فأخذوا يبحثون عن هذا الشخص حتى
    ____________
    (1) علم الإجتماع ، نقولا حداد ، ج 2 ص 265 .
    (2) علم الإجتماع ، نقولا حداد ، ج 1 ص 141 .

    إذا وجدوه أحرقوه حياً ليزول غضب الألهة فترسل مطراً ، وعلمت الحكومة بهذا الأمر فأعلنت أن من يشترك في هذا الموضوع سيعاقب بشدة .
    3 ـ في الهند ، كانت العادة أنه عندما يموت الزوج ، فلا يجب أن تبقى الزوجة على قيد الحياة ، ولهذا فعندما كانوا يدفنون الميت كان الناس يحضرون ويضعون الزوجة الحية في القبر ويهيلون عليها التراب » (1) .
    وفي عصرنا هذا أيضاً ، هناك شعوب متقدمة ومتخلفة ونامية ، لها عقائد وآراء وتقاليد بعضها عقلاني يمكن تبريره ، وبعضه الآخر وهمي وخرافي بل وربما ظالم ولا إنساني .
    في الدول الغربية المتقدمة ، يعتقد أتباع الكنيسة بالأقانيم الثلاثة الأب والإبن والروح القدس ، إن فكرة التثليث الخرافية تغطي ككتلة من سحاب قاتم سماء أوربا وأمريكا .
    وهناك الكثير من الناس في بلاد المغرب يعتقدون بالأعمال الوهمية للسحرة والمشعوذين ، ويعتبرونها عادات مقبولة ، وينفقون سنوياً قسماً من أموالهم ووقتهم في هذا المجال .

    التشاؤم من الرقم 13 :
    كما أن عالم الغرب المتمدن يعتبر الرقم 13 رقماً مشؤوماً ، ولذا لا يرغب الناس أن يكون رقم منزلهم 13 ، أو رقم غرفتهم 13 في الفندق أو المكان الذي يسكنون فيه ، ولا يرغبون تناول الطعام على مائدة عليها ثلاثة عشر شخصاً .
    ____________
    (1) علم الإجتماع ، نقولا حداد ، ج 1 ص 180 .

    « يقول الدكتور مارتين لوثركينغ : إن أكبر حاجات الإنسان هو أن يجعل نفسه فوق مستنقع الدعايات الكاذبة ، فالأشخاص المصابون بالأمراض والضعف النفسي يستسلمون بسرعة إلى الخرافات ، وأنفسهم قلقة وخائفة دائماً ، يخافون من يوم الأحد الثالث عشر من الشهر ، ومن القطة السوداء التي تضع يديها فوق بعض على شكل صليب . ولقد لاحظت شخصياً عندما كنت في مصعد كهربائي في فندق كبير بنيويورك أن الفندق ليس فيه طابق برقم 13 ، بل يوجد طابق 14 بعد طابق 12 ، فسألت موظف المصعد عن السبب فأجاب إن هذه العادة متبعة في معظم الفنادق ، لأن عدداً كبيراً من النزلاء يخافون الإقامة في الطابق 13 ، ثم أضاف : بل إن البعض عندما يرون أن الطابق 14 هو بدل الطابق 13 يمتنعون عن الإقامة فيه » (1) .

    الصنم والتضحية بالأبناء :

    في الشرق ، أيضاً ، توجد عقائد خرافية كثيرة ، ولا يزال عدد كبير من الناس يعبدون الأوثان ، ويصرون على ذلك ، حتى إن البعض من هؤلاء الناس أصبحوا أسرى الأوثان الجامدة ، وتصوروا أنها مصدر قرار يؤثر في حياتهم ، لدرجة أنهم مستعدون لتقديم أبنائهم قرابين لها ، فقبل ثلاث سنوات ذكر نبأ في صحيفة أن المحكمة الجنائية في مدينة ( جيبور ) الهندية قد حكمت بالإعدام على شخصين لتقديمهما صبياً في الثانية عشرة من عمره قرباناً لأحد الآلهة الهنود . وكان هذان الشخصان قد عقدا اتفاقية لصنع أحواض الماء مع دائرة المياه الصالحة للشرب في المدينة ، وقبل قيامهم بالعمل ذبحا الصبي أمام الصنم وهما يطلبان رضى الآلهة ومنحهما ذلك التوفيق في العمل الذي عقدا الاتفاقية عليه .
    ____________
    (1) النداء الأسود ص 7 .

    إن الامم والشعوب المختلفة في العالم ، قديماً وحديثاً ، كانوا ولا يزالون أسرى العقائد الخرافية والأفكار الخاطئة .
    والطريف إن عقائد وآراء الشعوب والاُمم ، صحيحة كانت أم خاطئة ، هي التي تبني المحيط الاجتماعي وهو بدوره يكون قوياً لدرجة أن أحكامه وقوانينه تُفرض على الشخص وتنشئه على التماثل مع المجتمع .
    إن العلماء يعتقدون أن المحيط الاجتماعي يلعب دوراً أكثر تأثيراً من المحيط الطبيعي في صنع الشخصية وتنشئة الأفراد .

    دور المحيط في شخصية الفرد :
    « إننا غارقون في عادات محيطنا مثل غرق خلايا النسيج في السوائل العضوية . ونحن مثل هذه الخلايا عاجزون عن الدفاع عن أنفسنا ضد تأثير المجتمع . إن الجسم يقاوم العالم الكوني بقوة أكثر مما يقاوم بها العالم النفسي . . . إنه محروس ضد غارات أعدائه الطبيعية والكيميائية بواسطة الجلد والأغشية المخاطية للجهازين التنفسي والهضمي أما حدود العقل فهي على العكس من ذلك مفتوحة دائماً ، وهكذا يتعرض الشعور لهجوم المحيط العقلي والروحي وتبعاً لطبيعة هذا الهجوم ينمو العقل إما في حالة طبيعية أو ناقصاً » (1) .
    « إن للمجتمع قوة اجتماعية ونفسية ، والأشخاص يفتقرون إليها منفردين ، وهذه القوة هي ( الثقافة ) أو ( الآداب والتقاليد ) . فالأداب والتقاليد الاجتماعية هي عبارة عن وسائل يضعها المجتمع تحت تصرف الأشخاص ، كما أن هذه الآداب والتقاليد هي التي تفرض على الفرد السلوك الاجتماعي ، ولهذا السبب يجب اعتبارها أعلى من الفرد » (1) .
    ____________
    (1) الإنسان ذلك المجهول ص 143
    .


    من الضروري القول إن المحيط الإجتماعي مع قوته وقدرته على فرض رغباته على الأفراد وتحميلهم صفات المجتمع ، إلا أن ذلك ليس ثابتاً ودائماً ، لأن هناك عوامل وأسباب عديدة من الممكن أن تغير المحيط الإجتماعي ، وتغير السنن والتقاليد العامة ، وتحارب العقائد الخرافية ، وتحول دون الأعمال الاإنسانية .

    عوامل تغيير المحيط :
    ومن تلك العوامل القادرة على تغيير المحيط هي قرارات الحكومات القوية ، وإرادة الأشخاص العظماء ، وارتفاع مستوى الثقافة لدى الناس . لتوضيح هذا الموضوع نشير إلى هذه العوامل باختصار :
    الحكومات القوية : إن أحد العوامل التي بإمكانها التأثير في المحيط الاجتماعي وتغير مسير المجتمع ، هو عزم الحكومات ، فالحكام المقتدرون يستطيعون من خلال قواتهم العسكرية والمدنية ، محاربة الأفكار الخاطئة والعقائد الخرافية ، وإلغاء الآداب والتقاليد الباطلة المتفشية بين الناس ، ومنع الأعمال غير العقلانية والتصرفات الاإنسانية للجهلة عن طريق القوة . طبعاً هذه المكافحة يجب أن تكون عميقة ومستمرة ، لدرجة تبعث اليأس في قلوب اُولئك الجهلة من القيام بأعمالهم الخاطئة وتجعلهم ينسون رويداً رويداً أفكارهم الباطلة .
    فلولا وجود حكومات قوية في البلدان التي تشيع فها عبادة الأوثان ، ولولا وجود القوانين الجزائية لذهب الكثير من الأطفال قرابين يقدمها عباد الأوثان الجهلة .
    ولولا أن الحكومة الهندية قامت بمنع التقاليد الجاهلية لتم دفن عدد من
    ____________
    (1) علم الإجتماع صموئيل كينغ ص 392 .

    النساء الأحياء مع أجساد أزواجهن الأموات في كل سنة ، وربما قام أشخاص بتقديم قرابين بشرية لآلهة المطر بإلقائهم في أمواج النهر الثائرة .
    على أية حال ، تعتبر الحكومة من العوامل التي تستطيع أن تغير الآداب والتقاليد الإجتماعية في المحيط الاجتماعي . ورغم أن التربية في مرحلة الطفولة تترك أثراً في أعماق كيان الإنسان ، ويبقى هذا الأثر حتى آخر العمر ، إلا أن الحكام المقتدرين بإمكانهم التغلب على آثار التربية عند الناس ، وإزالة ما تعلق لدى الأطفال من الأساليب التي تعلموها من الوالدين ، وإحلال أساليبهم مكانها .
    قال علي عليه السلام : « الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم » (1) .
    إرادة العظماء :

    إن وجود العظماء ذوي الإرادة القوية هو عامل من عوامل تحول المجتمع . فإن عامة الناس يقعون تحت تأثير محيطهم الإجتماعي شاءوا أم أبو ، فيتبعون الآداب والتقاليد الحسنة والسيئة لمجتمعهم ، وينشأون عليها كسائر الناس بوعي منهم أو بدون وعي . ولكن أحياناً يظهر في المجتعات البشرية أشخاص عظماء ونوابغ ذووا إرادة صلبة لا تلين يختطون لأنفسهم مناهج غير تلك التي يسير عليها المجتمع ويعارضون ما دأب المجتمع على اتباعه من تقاليد خرافية وسنن خاطئة ، فيبدأون نضالاً من أجل ذلك ، دون أن يثني عزمهم شيء ويزعزع من إرادتهم أمر ، فإنهم يصمدون حتى الوصول إلى الهدف دون أن يشعروا بكلل أو ملل .
    قال الصادق عليه السلام : « ما ضعف بدن عما قويت عليه النيّة » (2) .
    إن اُولئك النوابغ وبإرادة الإصلاح الخيرة يقومون في سبيل الوصول إلى هدفهم المقدس ، بجهاد متواصل ومساع حثيثة ولا يضعفون أمام ردود فعل الناس بل يقاومون ، ويكتسبون ذوي الاستعداد من الناس بالمنطق والاستدلال ، ويجعلونهم إلى جانب عقائدهم بالتدريج ، ومن ثم ينسجمون مع بعض حتى الوصول إلى هدفهم ، وينقذون المجتمع من الأعراف ويحررون الناس من قيود الجهل
    ____________
    (1) تحف العقول ص 208 .
    (2) وسائل الشيعة ج 1 باب استحباب نية الخير ص 7 .

    التعديل الأخير تم بواسطة عطر الولايه; الساعة 17-08-2015, 11:07 PM.

  • #2

    الأنبياء وإصلاح المحيط :

    يقف الأنبياء والرسل عليهم السلام على رأس مجموعة الرجال العظماء ذوي الإرادة في العالم . إن الأنبياء عليهم السلام أمضوا أعمارهم الشريفة في محاربة الشرك وعبادة الأوثان والجهل والجريمة والأخلاق السيئة ، والأعمال المضللة . إن هؤلاء العظماء قاموا بجهاد عظيم لإنقاذ الإنسان ، وإزالة الآداب والتقاليد الباطلة من المجتمعات البشرية ، وتحملوا في هذا الطريق المشاق والصعاب الكثيرة ، والبعض ضحى بحياته في هذا السبيل ، وكان النصر الكبير يتوج جهودهم ويكلل متاعبهم .
    لقد نهض نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم في مكة عندما كان ظلام الشرك والضلال يلف جميع أرجاء الجزيرة العربية ، والناس يغرقون في الجهل ، وعبادة الأوثان شائعة في كل مكان بل كانت تعتبر من أقدس الآداب والتقاليد الاجتماعية ، في تلك الأيام . فالناس يعبدون هذه الأصنام ويطلبون منها ما يتمنون وللتقرب منها كانوا يقدمون الأبقار والأغنام والجمال ، وأحياناً أطفالهم قرابين لها .
    إن المحيط الاجتماعي القوي فرض هذه السنة الخاطئة على جميع الناس رجالاً ونساءً ، شيباً وشباباً ، بدواً وحضراً بتقليد هذه العادة تقليداً أعمى هم يشعرون براحة لعبادة الحجر والخشب ، ولم يكن هناك أحد يجرؤ على مخالفتها ، حتى إنهم لم يفكروا بالتمرد أو الاعترض على هذا التقليد الخاطئ .

    الرسول الأكرم ( ص ) وجيل الشباب :

    لقد بعث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة ، وطبقاً لأمر الله تبارك وتعالى أعلن معارضته للشرك وعبادة الأوثان ، ولقد واجه في هذا الطريق مقاومة شديدة

    من قبل الشيوخ المتعصبين والمحافظين ، وتصدوا له من كل جانب ، ولكن الشبان ذوي الفطرة السليمة والطبيعة الحرة ، كانوا يستمعون بشوق لكلماته الإلهية ، ونتيجة للفكر والتدبر توصلوا إلىالحقيقة ، وأقبلوا بإخلاص على الدين الإسلامي ، ورغبوا عن ديانة آبائهم نحو عبادة الواحد الأحد رغم أنوف آبائهم . وهذا الأمر أدى إلى إيجاد انشقاق واختلاف وإحداث فجوة في جبهة المشركين .
    إن اندفاع الجيل الجديد ، في ذلك العهد ، إلى دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، بشكل متزايد ، جعل الشيوخ يغضبون بشدة ويظهرون اعتراضهم في المحافل ، ويبدون قلقهم . وقد وصف المشركون إسلام الشباب بالفساد ، ووردت هذه الأوصاف على ألسنتهم لدى بث شكواهم على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم . وقد قال ( عتبة ) أحد أشراف مكة لأسعد بن زرارة :
    ـ خرج فينا رجل يدعي أنه رسول الله سفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبّاننا وفرق جماعتنا (1) .
    ونهض الشبان المتحمسون المؤمنون ووقفوا بوجه الرجال والشيوخ المتعصبين ، في سبيل نشر التوحيد والعلوم الإسلامية ، ولذا نشطوا في محيط العائلات والمجتمع ، وهدفهم زعزعة أساس عبادة الأوثان ، وإزالة سنة الشرك الحمقاء من المحيط الاجتماعي ، وإنقاد أفكار كبار السن من الجهل ، وإزالة هذا العار من المجتمع ، ومن ثم الوصول إلى الهدف وتحرير المحيط الاجتماعي في الجزيزة العربية من أسر عبادة الأوثان .
    صنم ( مناة ) :
    كان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سلمة ، وشريفاً من أشرافهم ، وكان قد اتخذ في داره صنماً من خشب يقال له ( مناة ) كم كانت الأشراف تصنع ، تتخذه إلهاً تعظمه وتطهره فلما أسلم فتيان من بني سلمة :
    ____________
    (1) بحار الأنوار ج 6 ص 405 .

    معاذ بن جبل ، وابنه معاذ بن عمرو بن الجموح ، في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة ، كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه ويطرحونه في بعض حفر بني سلمة ، وفيها عذر الناس منكساً على رأسه ، فإذا أصبح عمرو قال : ويلكم ! من عدا على آلهتنا هذه الليلة ؟ ثم يغدو يتلمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه ، ثم قال : أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه ، فإذا أمسى عمرو ونام عدوا عليه ، ففعلوا به مثل ذلك ، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى ، فيغسله ويطهره ويطيبه ، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك ، فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوماً فغسله وطهره وطيبه ، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ، ثم قال : إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى ، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك .
    فلما أمسى عمرو ونام ، عدوا عليه ، فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلباً ميتاً فقرنوه به بحبل ، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس ، ثم عدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به .
    فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلب ميت ، فلما رآه وأبصر شأنه ، وكلمه من أسلم من قومه فأسلم برحمة الله ، وحسن إسلامه ، فقال ، حين أسلم وعرف من الله ما عرف ، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره ، ويشكر الله تعالى الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة :

    والله لـو كنت إلهاً لم تكن * أنت وكلب وسط بئرٍ في قرن
    أف لملـقـاك إلهاً مستدن * الآن فتشناك عـن سوء الغبن
    الحمد لله العـلي ذي المنن * الواهب الرزاق ديـان الدين
    هو الذي أنقـذنـي من أن * أكون في ظلمة قـبر مرتهن
    بأحمد المهدي النبي المرتهن (1)

    * * * * * ____________
    (1) سيرة ابن هشام ، ج 2 ص 300 ـ 301 ـ 302 طبعة دار الجيل 1991 ، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد
    .

    لقد نهض النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمعارضة سنة عبادة الأوثان التي كانت من أكبر وأهم الآداب والتقاليد الاجتماعية في الجزيزة العربية ، وواصل جهاده بالتعاون مع الشبان المؤمنين حتى بلغ مرحلة الانتصار ، فلقد تمكن قائد الإسلام العظيم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أن يحطم 360 صنماً كانت موجودة داخل الكعبة المكرمة ، وكذلك الأصنام الموجودة في سائر المدن والقرى آنذاك ، فأزال عادة عبادة الأوثان الجاهلية من المحيط الاجتماعي ، وأنقذ الناس من هذه العقيدة الخرافية .

    تقاليد الجاهلية :

    إن فساد وانحراف العرب قبل الإسلام لم يقتصر على عقيدة الشرك الوهمية وعبادة الأوثان ، وإنما كانت الآداب والسنن المناقضة للعقل والفطرة في جميع مظاهر حياة الناس ، وكذلك تفشي التقاليد المخالفة للعدل والإنصاف في جميع الأماكن .
    فقد كان الاعتداء يقع على شرف وحياة الناس في المحيط الجاهلي ، وكانوا يهدرون كرامة الأشخاص في المحافل والمجالس ، والسيوف تشهر لأدنى ذريعة ، والدماء تسفك دون سبب معقول ، في ذلك المحيط أيضاً لم يكن الأطفال بمنجىً ، فطبقاً للعادات المحلية كان وأد البنات وقتل الأطفال الأبرياء من إملاق عرفاً قائماً .
    وأما بالنسبة للنساء ، اللواتي كن يمثلن نصف المجتمع ، فلم يعترفوا لهن بحق ، فكانوا يحتقرونهن بشتى الوسائل ، وأحياناً كان الأزواج يبيعون زوجاتهم كالأغنام في سوق النخاسة ، وأحياناً يخسرونهن في المقامرة ، وكانت المرأة مجبرة أن تستسلم للرابح في المقامرة .

    الاعتداء على الأموال :

    كذلك كانت أموال وثروات الناس ، كعرضهم وشرفهم ، عرضةً للنهب والسلب ، فالقوافل التجارية كانت تتعرض للهجوم والسرقة ، وكانوا يعتقدون أن

    هذا العمل دليل على الشجاعة والشهامة ، وفي المدن كان الأقوياء ورؤساء القبائل يغتصبون أموال الناس بالقوة ، ويرثون الموتى دون أن يعطوا لذويهم شيئأً ويأكلون أموال اليتامى ، ويخونون الأمانة . كانت جميع هذه الممارسات الظالمة والخاطئة من عادات وتقاليد مجتمع ذلك العهد . والأجيال تأخذها عن المجتمع وتقلدها بشكل أعمى .
    لقد قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصلابة وإرادة لا تتزعزع ، طوال ثلاثة وعشرين عاماً ، هي مدة رسالته ، على جميع هذه الآداب والتقاليد الخاطئة ، وطهر المجتمع من جميع هذه الشرور ، وفي حجة الوداع ، في السنة الإخيرة من عمره الشريف ، ألقى خطبة في جمع من الناس ، أشار في جوانب منها إلى الأنحرافات الإجتماعية في العصر الجاهلي ، وأشار إلى تعاليم القرآن الكريم وبين الإصلاحات الأساسية للإسلام في ذلك المجال . ولمزيد من الإطلاع ننقل فيما يلي جانباً من عبارات تلك الخطبة .

    الاسلام والاصلاحات السياسية :

    حول احترام النفس والعرض في المجتمع قال صلى الله عليه وآله : « أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم » .
    وحول ضرورة أداء الأمانة ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها » .
    وحول الانتقام وأساليبه الخاطئة في العهد الجاهلي ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « . . . . وإن دماء الجاهلية موضوعة . . . وإن مآثر الجاهلية موضوعة » .
    وحول حقوق النساء وإحياء شخصيتهن الاجتماعية قال صلى الله عليه وآله وسلم : « أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حقاً » .
    بهذه العبارة القصيرة بين الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الحقوق المتقابلة للمرأة والرجل في الإسلام ، ورفض تضييع حقوق النساء ، الأمر الذي كان سائداً في الجاهلية
    وحول احترام شرعية وقانونية أموال الناس قال صلى الله عليه وآله وسلم : « أيها الناس ( إنما المؤمنون إخوة ) ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا من طيب نفسه » .
    وهذا الحكم الإسلامي أنهى جميع أنواع الاعتداء على أموال الغير الذي كان سائداً في العصر الجاهلي .
    وحول مساواة حقوق الناس قال صلى الله عليه وآله وسلم : « أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى » .
    إن ما جاء في هذه العبارات من خطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو جزء من البرنامج الإصلاحي للقرآن الكريم الذي حل محل الآداب والتقاليد الخاطئة للعهد الجاهلي . إن المحيط الاجتماعي قد تغير تماماً بما بذله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهود ، فأنقذت التعاليم الإسلامية المجتمع من الشرك وعبادة الأوثان ، بالإضافة إلى تطهيره من الظلم والاستبداد والفساد والانحطاط ، ووجهت الناس نحو التكامل والسعادة .
    نستخلص مما ذكرنا أن الرجال العظام والمصلحين الكبار ، والأنبياء عليهم السلام في مقدمتهم ، يستطيعون بإرادتهم القوية وتصميمهم القاطع أن يغيروا أوضاع المجتمع ، وأن يكافحوا الآداب والتقاليد والسنن الباطلة ، وأن يزيلوا جذور التقاليد الخرافية ، لإنقاذ الناس من أغلال الجهل .

    الإرتقاء العلمي :

    إن أحد العوامل الاخرى التي لها تأثير كبير في إيجاد التحول في المجتمع ، وبإمكانها تغيير أوضاع وظروف المحيط الاجتماعي ، وإزالة السنن والأوهام والتقاليد والآداب الخرافية ، وإنقاذ الناس من أغلال الجهل ، هو نمو العلم الإجتماعي .
    مما لا شك فيه أن اكتساب العلم والمعرفة هو من معايير الفضيلة والكمال الحقيقي للإنسان . إن اكتساب العلم ينمي عقل الإنسان ، ويقوي الذاكرة ، ويرفع من مستوى الإدراك ويحرك وعي الإنسان إزاء الحقائق .
    إن الأشخاص المثقفين ، نتيجة كسب علم أكثر ، يفهمون أكثر وبإمكانهم تحليل المواضيع بصورة أفضل ، وبمقدار ما اكتسبوه من العلم يمكنهم أن يعرفوا الصحيح من الخطأ . إن إشعاع العلم ينير ضمير الإنسان ، ويغير من نظرته إلى الأشياء ، ويكشف له عن الحقائق الكامنة . إذاً فإن هناك فارقاً كبيراً بين المتعلمين والجهلة ، كما جاء في القرآن الكريم : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) (1) .
    قال علي عليه السلام : « ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم بل أي شيء فات من أدرك العلم » (2) .

    النفس الضعيفة :

    إن اكتساب العلم وارتفاع مستوى الفكر ، من أفضل الوسائل للخلاص من قيود الخرافات والمعتقدات الوهمية ، ولهذا السبب فإن العائلات المثقفة وكذلك الشعوب المتطورة علمياً وثقافياً نادراً ما تتعرض للأفكار الخرافية والآداب والتقاليد الجاهلية . وبالعكس فإن العائلات الاُمية والشعوب التي لم تتلق ثقافة صحيحة ، ومتخلفة علمياً ، تكون نفوسها ضعيفة ، سرعان ما تؤثر فيها الأفكار الخاطئة . إن هؤلاء ونتيجة فقدانهم للمعلومات ، ولعدم نضوج أفكارهم ، لا يمكنهم أن يعرفوا علل الأشياء ولا يستطيعون تحليل الاُمور وفهمها ومعرفة الصواب من الخطأ ، ولهذا السبب فإنهم يتقبلون الخرافات والأوهام بسهولة .


    الاعتقاد بالأوهام :

    « سايغون ـ وكالة الأنباء الفرنسية : ظهرت ثلاث قطع كبيرة جداً وعجيبة من البطاطا في ثلاثة أماكن مختلفة دفعة واحدة في
    ____________
    (1) سورة الزمر ؛ الآية : 9 .
    (2) شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة ، ج 20 ص 289 ، كلمة 299 .


    ضواحي مدينة سايغون وزن كل قطعة منها ما بين عشرين إلى ثلاثين كيلو غراماً وقطرها يصل إلى 30 سم ولقد أوجدت هذه الظاهرة لدى الفيتناميين نوعاً من العبادة . والشيء الملفت للنظر في هذه المسألة أن هذه البطاطات الثلاث قد نمت وترعرعت من نفسها دون أن يقوم أحد بزراعتها ، وبشكل منفصل عن بعضها البعض ، وقد نمت إحداها في أرض قتل فيها عدد لا حصر له من الجنود عام 1968 . واعتقد صاحب المزرعة أن أرواح الجنود تدب فيها ، فلم يجرؤ على أكلها ، وفي كل ليلة كان يشعل أعواد البخور أمام منزله ، وعندما شاع هذا الخبر انهال سيل المرضى والمعاقين على بيت هذا المزارع ، يلمسون حبة البطاطا ويشربون من ماء بئر قريبة ويأخذون قليلاً من الماء ثم يذهبون » (1) .



    ضرورة التعليم والتعلم :

    إن مسألة التعليم والتعلم أصبحت حاجة ضرورية لا يمكن اجتنابها مع تقدم الحضارة في المجتمعات البشرية اليوم ، فإذا أرادت الشعوب السير مع التقدم في العالم جنباً إلى جنب والحصول على مزايا الحياة الجديدة ، فلابد من الإهتمام بالدراسات العلمية والتعاليم المدرسية .
    في الماضي كان اكتساب العلم مقتصراً على مجموعة خاصة ، ولم تكن الغالبية تشعر بأهمية تلقي الدروس العلمية والثقافية ، لأن الناس في كل عصر يرثون تجارب آبائهم وأجدادهم ، ولذا كانت تجارب الأجيال السابقة ـ طوال القرون والأعصار ، تلبي حاجة حياة إنسان ذلك العصر . ولكن تغيرت الحياة مع اتساع الحضارة وظهور التمدن الصناعي ، واضطر الناس بالإضافة إلى تعلم تجارب الأجيال السابقة ، أن يتلقوا العلوم الحديثة أيضاً ، وأن يستفيدوا من معلومات العلماء الماضين والمعاصرين في مختلف الفروع .
    ____________
    (1) صحيفة كيهان ، العدد : 9178 .
    التعديل الأخير تم بواسطة عطر الولايه; الساعة 17-08-2015, 11:16 PM.

    تعليق


    • #3
      إن الحياة في عالم اليوم بحاجة إلى تخصص ومهارة فنية ، ولا يمكن الحصول على المعلومات المتخصصة إلا عن طريق اكتساب العلم والدخول في المراحل التخصصية .
      المراكز التعليمية :
      « مع انتشار المدنية ، لم يعد باستطاعة الأطفال أن يتعلموا بصورة صحيحة نهج الحياة في المجتمع من خلال الاشتراك بالأعمال المعقدة للكبار ، لأن الكثير من أعمال الكبار ينجز بعيداً عن محل سكنى الصغار ، والكثير من هذه الأعمال يقصر فهم الطفل عن استيعابه . ولذا فإن تقليد الطفل يفقد ، بالتدريج ، أهميته التربوية الاُولى ، ويصبح من الضروري على المجتمع أولاً أن يعد أفراده ويربيهم لنشاطات الحياة ، ومن ثم يدفعهم للعمل ، وهذا يؤدي اضطراراً إلى إنشاء مؤسسات يطلق عليها ( مراكز تعليمية ) تقدم فيها مواضيع منظمة تسمى ( دروس ) تعلم للأطفال .
      في المجتمعات المتحضرة لا يمكن نقل جميع العلوم المتوارثة والذخائر الاجتماعية الواسعة إلا من خلال التربية والتعليم الرسميين بالإضافة إلى ذلك ، فإن الأطفال ، في التربية والتعليم الرسميين يألفون الكتابة والمطالعة اللتين تعتبران وسيلة لانتشار المعلومات ومن البديهي أنه لا يمكن تعلم الكتابة من الحياة العملية ومن التعاون مع العاملين في الميادين المختلفة » (1) .

      طريقة انتقال المعلومات :
      في عصرنا الحاضر تنتقل معلومات الجيل السابق ، التي هي ميراث اجتماعي ، عن طريقين إلى الجيل اللاحق ، أحدهما غير مباشر من خلال
      ____________
      (1) مقدمة على فلسفة التربية والتعليم ، ص 10
      .

      التعايش الاجتماعي ، والآخر بصورة مباشرة في المراكز التعليمية أو بعبارة اخرى إن إنسان اليوم يجب أن يتلقى العلم من مدرستين : الأولى ، مدرسة المجتمع والثانية مركز التعليم ، ففي المجتمع وبتقليد أعمال الكبار وبالتعاون معهم يحصل على تجارب ومعلومات ، وفي مركز التعليم وبالاستماع إلى دروس العلم ومطالعة كتب الأساتذة يتعرف على أفكار العلماء فيزيد بذلك من معلوماته ، وهاتان المدرستان لهما تأثير في ازدهار العقل وتنمية الفكر .
      قال علي عليه السلام : « العقل غريزة تزيد بالعلم والتجارب » (1) .

      التقليد والاقتباس :
      لا يظهر أي خلاف أو تناقض بين الجيلين القديم والجديد طالما أن الشباب يأخذون معلوماتهم عن طريق التقليد الإقتباس من كبار السن ويتخذون من عقائدهم وآرائه وآدابهم وتقاليدهم وأعمالهم قدوة لأنفسهم ، وذلك لتماثل سلوك الجيلين واسلوب تفكيرهما ؛ ولا زالت هذه الطريقة موجودة في بعض العائلات والقرى وفي المدن التي يفتقر شبانها للتعليم المدرسي ، ولذا فإن التنسيق والتوافق من حيث العقيدة والرأي والسنن والتقاليد بين الأبناء والوالدين يكون قائماً . ولكن منذ أن توجه الشباب إلى مراكز التعليم ، وبدأُوا بالدراسة ومطالعة الكتب العلمية ، وحل التحقيق والدراسة في الكثير من المواضيع ، محل الاقتباس والتقليد ، فإن اختلاف وجهات النظر بدأ بالظهور تدريجياً ، كما ازداد البحث والانتقاد مع ازدياد التعليم .
      « يتلقى الناس معظم معلوماتهم من خلال الدروس الرسمية والعامة ، ولهذا فإنهم يهتمون بهذه المعلومات ، ولكنهم يحصلون على قسم آخر من معلوماتهم من خلال حياتهم اليومية ونتيجة احتكاكهم بالآخرين ، ولذا فإنهم لا يلحظون كيفيتها ، وعليه فإنه
      ____________
      (1) غرر الحكم ، ص 256 .

      كلما اتسع نطاق التربية والتعليم الرسميين ازداد تعارض هذه النوعين من المعلومات ( الإرادية واللاإرادية ) ، فيحظى حل هذا التعارض بأهمية أكبر » (1) .
      إن الآباء والأمهات الذين لم يحصلوا على تعليم مدرسي ، تنحصر معلوماتهم نتيجة تجاربهم الحياتية التي اكتسبوها بصورة غير مباشرة من الكبار ، وما تعلموه من المجتمع ، ولعلمهم أن مقدار هذه المعلومات لا يكفي لتلبية حاجات عالم اليوم فإنهم يبعثون بأبنائهم منذ الصغر إلى المدارس ليكسبوا علماً يمكنهم من خلاله رسم حياتهم المستقبيلة الملائمة لظروف الحياة الجديدة .

      بداية الاختلاف :

      يذهب الأطفال إلى المدرسة ، ويحصلون طوال سنوات على معلومات مختلفة تترك بالتدريج آثاراً على أفكارهم ، وتتسع قوة استدلالهم ويزداد مستوى إدراكهم . وعندما يصلون سن الشباب ويستيقظ فيهم حس البحث والتحقيق ، عندها يرون أن قسماً من آراء وعقائد الكبار ، وكذلك جزءاً من الآداب والتقاليد الموجودة في العائلة والمجتمع لا تنسجم مع ما تعلموه في المدرسة ، أو يبدو لهم ذلك ، وكلما استمروا في دراساتهم فإن مواضع الاختلاف تزداد .
      إن هذا ( التضاد ) الفكري ، يدفع بالشبان المثقفين أن يطرحوا مطالبهم أمام الوالدين والكبار ، وأن يناقشوهم ، وينتقدوا أفكارهم وأعمالهم ، لكي يثبتوا وجودهم ويظهروا كفاءاتهم عن هذا الطريق .

      الانتقاد بحسن النية :

      إن بعض الشباب ينتقدون عن حسن نية وواقعية ، بهدف إصلاح العائلة والمجتمع ، ولهذا السبب فإنهم يراعون حدود الأدب والأخلاق في كلامهم ، ويدلون بانتقادهم مع حفظ احترام الوالدين والكبار .
      ____________

      (1) مقدمة على فلسفة التربية والتعليم ، ص 12 .

      في مثل هذه العائلات ، مع أن الشبان لديهم آراء مخالفة للكبار في بعض القضايا ، قلما يؤدي الاختلاف إلى تضادٍ ينتهي إلى مشاجرة .


      الانتقاد التحقيري :

      إن بعض الشباب المتسرع والمتطرف في الغرور والكبر نتيجة إنهائهم بعض المراحل الدراسية ، يقدمون على أعمال خاطئة بحجة انتقاد أساليب الكبار في محيط العائلة أو المجتمع ، لأنهم يعتبرون أنفسهم ممثلين عن الثقافة الجديدة ، أو من أتباعها ، وتقدميين ، ولذا يتجاهلون الكثير من الحقائق ، كما يتجاهلون التعاليم الإلهية ، ويحتقرون الأشخاص المؤمنين ، ولا يعيرون المبادئ الأخلاقية أهمية ، ويعتبرون الآداب والسنن الاجتماعية تافهة ، ويسحقون المبادئ التي تشكل أساس سعادة الفرد والمجتمع ، وهم بعد كل ذلك فرحون لأنهم يتصورون أنفسهم أحراراً .
      إن أمثال هؤلاء الشباب يهينون وبكل وقاحة الكبار في العائلات ويتهمونهم بالخرافية وبأنهم أتباع الثقافة القديمة والأفكار الرجعية والأعمال الخاطئة ، وهؤلاء الشباب لا يطيعون الشيوخ وتقاليدهم بل هم يهاجمونهم قدر ما يستطيعون ، وينتقدونهم ، بحق أو غير حق . وأحياناً ، ولكي يشعروا الآخرين بوجودهم ، يتجاوزون حدود الإنتقاد إلى السخرية من أفكارهم والاستهزاء بأعمالهم . فيغضب الكبار للتصرفات المهينة والكلمات الحادة التي يوجهها لهم الشباب المغرور ، فينهضون لمواجهتهم بالبحث والنقاش ، ولكي يثبتوا صحة أفكارهم وأعمالهم ، يأتون بالأدلة ، ولكن وبسبب جهلهم ، وافتقارهم إلى العلم ، ونتيجة أفكارهم واستدلالاتهم الضعيفة ، فإنهم لا يتمكنون من البحث بقوة ، أو إثبات صحة أقوالهم ، حتى وإن كانت صحيحة فعلاً ، ونهاية الأمر أن النزاع والخلاف يبقى يهدد المحيط العائلي ، ثم إنه لو فرض أن أقوالهم كانت صحيحة ومستدلة ومقبولة فإن الشبان لا يرضخون لهم أيضاً ، ولا يقبلون استدلالهم ، لأنهم يتصورون أن منزلتهم العلمية أكبر وهم غير مستعدين للإستسلام والاعتراف بالفشل .



      قال علي عليه السلام : « لا يسلم لك من اعتقد أنه أتم معرفة بما أشرت عليه به منك » (1) .

      الاختلاف بين المتعلم والجاهل :

      إن ارتفاع المستوى العلمي للمجتمع ، هو أحد أسباب تغيير المحيط الاجتماعي ، كما أن الدراسة العلمية تزيد من إدراك الشباب ، وتغير طريقة تفكيرهم ، مما يؤدي إلى بروز اختلاف في الآراء في الكثير من العقائد والآراء والآداب التقاليد الاجتماعية من الشيوخ الاميين ، فيناقشونهم . وكلما ازداد المستوى العلمي ، وازداد عدد الشبان المثقفين ازدادت الخلافات في وجهات النظر على مستوى أوسع ، فتتغير عاجلاً أم آجلاً بعض العادات والتقاليد والآداب من المحيط الاجتماعي .
      ولكي لا يدفع خلاف هذين الجيلين ، الشباب إلى التمرد والعصيان ، والكبار إلى العنف والقسوة ، ويحدث فساد وانحراف ، ولكي لا تهتز العلاقات العائلية والنظام الإجتماعي ، فينتج انفصال الوالدين عن الأبناء والزوجات عن الأزواج ، فمن الضروري أن تكون نظرة الجيلين واقعية عند البحث والنقاش فلا تحيد عن الحق والحقيقة وتتجنب العناد .
      ويجب أن يتذكر الكبار أنه يوجد شيء من الحقيقة في حديث الشبان المثقفين لا يمكن تجاهله ولذا عليهم أن يأخذوه بعين الاعتبار ويتقبلوه بأحسن قبول ، وإن وقوفهم اللامنطقي بوجهه ينافي الواقع والحقيقة ، بل يمكن أن يؤدي إلى مفاسد لا يمكن التعويض عنها ، فيتحول الشبان العقلاء إلى أشخاص متمردين عصاة .
      إن بعض الكبار الاُميين ورثوا بعضاً أو سلسلة من العقائد الخرافية والتقاليد الوهمية عن أسلافهم ، يؤمنون بها . فمثلاً يتوسلون بشجرة لطلب
      ____________
      (1) شرح ابن أبي الحديد ؛ ج 20 ص 337 ، كلمة 860 .

      تعليق


      • #4


        الحاجة ويربطون بها خيطاً ، أو لكي يعالجوا شخصاً مصاباً بالصرع يتوجهون إلى ( مشعوذ ) ويطلبون مساعدته ، ولكي يبقوا بعيداً عن ( عين الحسود ) يحرقون البخور ، ولكي يطلعوا على مستقبلهم يستعينون بالمنجمين أو الفلكيين والعشرات من هذه الأمثلة .


        واجب الكبار :

        إن هذه العقائد الخرافية ناتجة عن جهل الكبار وتؤدي إلى انتقاد الشباب المتعلم الذي يرفضها جملة وتفصيلاً . والواجب على الكبار في هذه الحالات تجنب الجدال والبحث وترك العناد والتشدد واستخدام العقل والفكر بدقة والاستماع لحديث أبنائهم العقلاء ، وباتباع الحق والحقيقة يحررون أنفسهم من قيود الجهل والخرافة .

        الشباب والمشاعر الانسانية :

        بالإضافة إلى التعليم والدراسات العلمية ، فإن المشاعر الإنسانية والرغبات النفسية للشباب هي أيضاً مصدر لاختلافاتهم مع الكبار . فللشباب نفوس طاهرة ونظيفة ، وهؤلاء الذين دخلوا الحياة الإجتماعية حديثاً ، ولم تتعرض فطرتهم الإنسانية وضمائرهم وأخلاقهم لأية صدمة من مظالم المجتمع ، يعشقون بطبيعتهم الحقيقة والفضيلة ويريدون العيش في محيط خالٍ من الظلم والاستبداد ، ولكنهم يرون عكس هذه الخصال في الكبار ذوي الأخلاق السيئة إذ يعتدون على حقوق الآخرين ويحامون عن بعض المعتدين ، والبعض الآخر منهم يتحكمون بالضعفاء ، بالإضافة إلى وقوف البعض من ذلك موقف المتفرج .
        إن الشباب يشهد ظواهر الظلم والجور والعنف والقسوة وتضييع حقوق الضعفاء أمراً شائعاً في المجتمع ، بينما الكبار ألفوا هذه الأعمال وكأنهم لا يدركون قبحها !
        إن مشاهدة هذه الأعمال من قبل الشبان المثقفين تدفعهم إلى الغضب والاعتراض وانتقاد أساليب الكبار . وفي مثل هذه المواقف على الكبار أن يقبلوا حديث الشباب ويذعنوا للحق ، ويصلحوا أنفسهم ، ويتركوا الصفات السيئة ، لا أن يقحموا أنفسهم في جدال ونقاش ويردوا على تلك النصائح بعنف دفاعاً عن ممارستهم الخاطئة .
        إن الشبان المثقفين أيضاً ، ولكي لا يندفعوا كثيراً في انتقادهم ولا يتجاوزوا حدود الحق والمصلحة العامة ، ولا يصبحوا سبباً للخصومة والعداء في العائلة والمجتمع ، يجب عليهم أن يراعوا نقطتين :

        الشباب والحقائق المجهولة :

        الأولى : يجب أن ينتبهوا أن دراسة عدة سنوات يجب أن لا تؤدي إلى الغرور والتعالي ، ولا يعتقدوا أن جميع الحقائق موجودة في معلوماتهم القليلة ، ولا يعتبروا فكرهم المحدود معياراً لمعرفة الحق والباطل . وليعلموا أن الإنسان مهما كان علمه ودراسته ، فإن الحقائق المجهولة أكثر بكثير مما يعلمه .
        « يقول أديسون : إننا نعلم فقط نسبة واحد من مليون من 1% من مجموع العلوم . وقد قال نيوتن : إن العلم كخليج أخذت أنا وزملائي عدة حصيات من ساحله الواسع » (1) .
        قال علي عليه السلام : « لا تعادوا ما تجهلون فإن أكثر العلم فيما لا تعرفون » (2) .

        المعايير القاصرة :

        إن بعض الشباب يخلطون الحق بالباطل في انتقادهم ، وبالإضافة إلى رفضهم لما هو خاطئ فهم يرون بعض القضايا الصحيحة خاطئة ، ولذا يتصورون أن الواقع يكمن في الأشياء التي يعرفونها هم ، أو يقيسون الأشياء
        بمعايير اليوم القاصرة .

        ____________
        (1) النجوم للجميع ص 106 .
        (2) غرر الحكم ص 55 .


        فإذا كان هناك شيء غير مقبول بالمعايير الحالية فإنهم يعتبرونه غير صحيح ، ولهذا السبب ينفون بعض المسائل الدينية ، أو على الأقل ينظرون إليها بشك ، ويمتنعون عن أداء الواجبات الإسلامية ، التي هي طريق للسمو الروحي والتكامل المعنوي ، ويطرحون تساؤلاتهم الانتقادية إلى الكبار المؤمنين حول العبادة وأداء الفرائض ، كالصلاة والصوم . وهذه المسألة من المسائل الأساسية لاختلاف الشيوخ والشباب في العائلة والمجتمع .
        ولكي يتضح هذا الموضوع المهم أكثر ، ويقف الشباب على القيم الإسلامية بصورة أدق ولا يفرطوا في انتقادهم ، فإن المحاضرتين التاليتين ستختصان بموضوع الإيمان بالله تبارك وتعالى ، ومناقشة القضايا الدينية ، بالإضافة إلى بحث في بعض تساؤلات الشباب .

        الانتقاد ومراعاة الأدب :

        الثانية : عندما تكون انتقادات الشباب صحيحة وبناءة ، ولكي تترك أثراً مفيداً لدى الكبار وتحررهم من المعتقدات الخرافية والتصرفات المذمومة ، يجب مراعاة الأدب والاحترام في الحديث ، والابتعاد عن السخرية والإهانة ، واجتناب اللوم والتوبيخ . باختصار يجب أن يكون الانتقاد بشكل لا يحطم حب الذات والشخصية لدى الكبار ، لأن الانتقاد الممزوج بالإهانة واللوم والتوبيخ لا يترك أي استجابة نافعة بل على العكس يضر الموقف إذ يدفعهم إلى الإصرار والبقاء على ممارساتهم الخاطئة ، ومن ثم يؤدي إلى العداء والخصومة ، ويحول محيط العائلة إلى ساحة شجار وحرب .
        قال علي عليه السلام : « الإفراط في الملامة تشب نيران اللجاج » (1) .
        وهذا يعني أن اللوم المتكرر للأشخاص ، لن يدفعهم فقط إلى عدم
        الكف عن أعمالهم الخاطئة ، بل سيجعلهم يصرون على ممارسة تلك الأعمال .
        ____________
        (1) تحف العقول ص 84 .


        سر تأثير الكلام :

        إن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يتصرف برفق لهداية الناس ، ويذكرهم بالتعاليم الإصلاحية بكل أدب ولين ، وهذا العمل بحد ذاته كان من عوامل نفوذ كلامه صلى الله عليه وآله وسلم في قلوب الناس .
        عن هلال بن الحكم قال : لما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمت اُموراً من اُمور الإسلام ، وكان فيما علمت ، قيل لي : إذا عطست فاحمد الله وإذا عطس العاطس اطلب الرحمة له . فبينا أنا في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل ، فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : ما لكم تنظرون إليّ بعين شزر ، فسبح القوم فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاته ، قال : من المتكلم ، قالوا : هذا الأعرابي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : « إنما الصلاة للقراءة ولذكر الله عز وجل ، وإذا كنت في الصلاة فليكن ذلك حالك » قال فما رأيت معلماً أرفق من رسول الله صلى الله عليه وآله (1) .
        ____________
        (1) اسد الغابة ج 5 ص 66 .

        تعليق

        المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
        حفظ-تلقائي
        Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
        x
        يعمل...
        X