بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
أنّ طلب الحاجة من غير اللّه مع الاعتقاد بأنّ المسؤول لا يملك شيئاً من شؤون المقام الإلهي، وأنّه عبد من عبيده لم يفوِّض إليه شيئاً، ولو قام بفعل شيء ما فإنّما يقوم به بإذن اللّه، فلا يُعدُّ ذلك شركاً.
وبقي في هذا المجال مطلب آخر، وهو أنّ القرآن الكريم نهى ـ في موارد متعدّدة ـ عن دعوة غير اللّه سبحانه، واعتبر أنّ تلك الدعوة عبادة وكأنّه قد اقترنت الدعوة بالعبادة، وإليك الآيات المتضمّنة، بل المصرّحة بذلك:
(وَان الْمَساجِدَ للّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) .( [1])
(لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجيبُونَ لَهُمْ بِشَيْء... ) .( [2])
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) .( [3])
(...وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ) .( [4])
(إِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ... ) .( [5])
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنْكُمْ وَلا تَحْويلاً ) .( [6])
(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبّهِمُ الوَسِيلَة ) .( [7])
(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ... ) .( [8])
(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَ آءَكُمْْ... ) .( [9])
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ لا يَسْتَجيبُ لَهُ إِلى يَومِ الْقِيامَةَ... ) .( [10])
ولقد استنتج الوهابيّون من هذه الآيات مساوقة دعوة الصالحين والأولياء مع عبادتهم، فلو وقف شخص إلى جنب قبر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أو في مكان بعيد وقال متوسّلاً: يا محمد، فنداؤه ودعوته بنفسها عبادة للمدعو،كما يقول الصنعاني في هذا الصدد:
«وقد سمّى اللّه الدعاء: عبادة بقوله: (أُدْعُوني أَسْتَجِب لَكُمْ إِنَّ الّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادتي ) ومن هتف باسم نبي أو صالح بشيء أو قال اشفع لي
إلى اللّه في حاجتي أو استشفع بك إلى اللّه في حاجتي أو نحو ذلك أو قال: اقض ديني أو اشف مريضي أو نحو ذلك فقد دعا ذلك النبي و الصالح، والدعاء عبادة بل مخها، فيكون قد عبد غير اللّه و صار مشركاً، إذ لا يتم التوحيد إلاّبتوحيده تعالى في الإلوهية باعتقاد أن لا خالق ولا رازق غيره، وفي العبادة بعدم عبادة غيره ولو ببعض العبادات، وعبّاد الأصنام إنّما أشركوا لعدم توحيد اللّه في العبادة».( [11])
ويرد على كلام الصنعاني هذا أنّه لا مرية أنّ لفظة الدعاء تعني في لغة العرب: النداء لطلب الحاجة، بينما تعني لفظة العبادة معنى آخر، وهو: «الخضوع النابع من الاعتقاد بالإلوهية والربوبية» ولا يمكن اعتبار المفهومين مترادفين ومشتركين في المعنى، أي لا يمكن القول إنّ كلّ نداء وطلب يساوق العبادة والخضوع، وذلك للأسباب التالية:
أوّلاً: إنّ القرآن استعمل لفظة الدعوة والدعاء في موارد لا يمكن أن يكون المراد فيها العبادة مطلقاً، مثل قوله تعالى:
(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوتُ قَومي لَيْلاً وَنَهاراً ) .( [12])
فهل يمكن أن نقول: إنّ نوحاً (عليه السلام) قد عبد قومه ليلاً ونهاراً؟!
وكذلك قال تعالى حاكياً عن الشيطان قوله:
(...وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطان إِلاّ أَنْ دَعَوتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي... ) .( [13])
فهل يحتمل أن يكون مقصود الشيطان هو أنّه عبد أتباعه؟ في حين أنّ العبادة ـ لو صحت وافترضت ـ فإنّما تكون من جانب أتباعه له لا من جانبه اتجاه أتباعه.
في هذه الآيات ونظائرها ـ و التي لم نذكرها روماً للاختصار ـ استعملت لفظة الدعاء والدعوة في غير معنى العبادة، ولهذا لا يمكن أن نعتبرهما مترادفتين،ولذلك فلو دعا إنسان ولياً أو نبياً أو رجلاً صالحاً، فإنّ عمله ذلك لا يكون عبادة له، وذلك لأنّ الدعاء أعمّ من العبادة.( [14])
ثانياً: إنّ المقصود من الدعاء في مجموع الآيات المذكورة هو ليس مطلق النداء، بل نداء خاص يمكن أن يكون ـ مآلاً ـ مرادفاً للفظ العبادة، لأنّ مجموع هذه الآيات وردت حول الوثنيين الذين كانوا يتصوّرون بأنّ أصنامهم آلهة صغار قد فوّض إليها بعض مقام الشأن الإلهي، ويعتقدون في شأنها بنوع من الاستقلال في الفعل، ومعلوم أنّ الخضوع والتذلّل أو أي نوع من القول والعمل أمام شيء باعتقاد أنّه إله كبير أو إله صغير لكونه ربّاً أو مالكاً لبعض الشؤون الإلهية كالشفاعة والمغفرة،يكون عبادة ولا شكّ أنّ خضوع الوثنيين ودعاءهم واستغاثتهم أمام أوثانهم كانت تنبع من اعتقادهم أنّ هذه الأصنام آلهة أو أرباب أو مالكة لحق الشفاعة و...، وباعتقاد أنّها مستقلة في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة، ومن البديهي أنّ أي دعوة لهذه الموجودات وغيرها مع هذه الشروط
عبادة لا محال.
وأوضح شاهد على أنّ دعوتهم كانت مقرونة باعتقاد إلوهية تلك الأصنام الآية التالية:
(...فَما أَغْنَتْ عَنْهُمءَالِهَتُهُمُ الَّتي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْء... ) .( [15])
وعلى هذا الأساس فإنّ الآيات المذكورة لا ترتبط بموضوع بحثنا مطلقاً، إذ الموضوع في بحثنا هو الدعوة مجرّدة عن الاعتقاد بالإلوهية والمالكية والاستقلالية في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة، بل تكون الدعوة نابعة من كون المدعو عبداً من عباد اللّه المكرمين،وأنّه ذو مقام معنوي استحقّ به منزلة النبوّة أو الإمامة، ولأنّه وعد المتوسلين به باستجابة دعائهم وإنجاح طلباتهم فيما إذا قصدوا اللّه عن طريقه، قال تعالى في حقّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) :
(...وَلَو أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَروا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رََحِيماً ) .( [16])
ثالثاً: إنّ في نفس الآيات المذكورة إشارة واضحة إلى أنّ المقصود ليس مطلق الدعاء وطلب الحاجة، بل المقصود قسم خاص منه، وهو ما كان ملازماً للعبادة، ومن هذه الجهة نجد أنّ في بعض الآيات وبعد الإتيان بلفظ الدعوة يستعمل مصطلح العبادة في نفس المعنى المقصود، مثل قوله تعالى:
(وَقالَ رَبّكُم ادْعُوني أَسْتَجِب لَكُمْ إِنَّ الَّذينَ يَسْتَكْبِرونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ ) .( [17])
وبإمعان النظر في الآية المباركة نجد أنّه قد جاء في صدرها لفظ (ادْعُوني ) وفي ذيلها استعمل لفظ ( عبادَتي ) ، وهذا شاهد جليٌّ على أنّ المقصود من هذه الدعوة هو دعوة واستغاثة خاصة في مقابل موجودات يعتقد أنّها تمتلك صفات الإله.
قال الإمام السجاد (عليه السلام) في دعائه:
«فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكباراً و توعّدت على تركه دخول جهنم داخرين». ( [18])
وربّما وردت في إحدى الآيتين ذاتي المضمون الواحد لفظة الدعوة، ووردت في الآية الأُخرى لفظة الدعاء، مثل قوله تعالى:
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً... ) .( [19])
وفي آية أُخرى يقول سبحانه:
(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا... ) .( [20])
وفي آية أُخرى:
(...وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ) .( [21])
فقد استعمل في هذه الآية لفظ (تَدْعُونَ ) وفي نفس الوقت استعمل لفظ ( تَعْبُدُونَ ) في آية أُخرى تحمل نفس المضمون وهي قوله تعالى:
(...إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً... ) .( [22])
وقد ترد كلتا اللفظتين في آية واحدة وتستعملان في معنى واحد كما في قوله سبحانه:
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ... ) ( [23]) . ( [24])
ونحن ندعو القارئ الكريم أن يراجع بنفسه المعجم المفهرس مادتي «عبد» و «دعا» ليرى بنفسه كيف عُبِّر عن مضمون واحد في آية بلفظ العبادة وفي آية أُخرى عُبِّر عن نفس المضمون بلفظ«الدعوة»، وهذا بنفسه شاهد على أنّ المقصود من الدعوة في هذه الآيات هو العبادة والخضوع، وليس مطلق النداء.
هذا والقارئ الكريم إذا درس مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الدعوة وأُريد منه القسم الملازم للعبادة لرأى أنّ الآيات إمّا وردت حول خالق الكون الذي يعترف جميع الموحّدين بإلوهيته وربوبيته ومالكيته. أو وردت في شأن الأوثان التي كان عبدتُها يتصوّرون أنّها آلهة صغيرة ومالكة لمقام الشفاعة، وفي هذه الحالة فإنّ الاستدلال بهذه الآيات في مورد بحثنا الذي يكون فيه دعاء أولياء اللّه والاستغاثة بهم مجرداً عن الاعتقاد بأنّهم يملكون إحدى تلك الصفات الإلهية يكون من أغرب أنواع الاستدلال ومن أعجب العجب.
ثمّ إنّ الاطّلاع على معتقدات الوثنيّين في عصر الرسالة يزيح الستار عن تلك الحقيقة.
------------------------------------------
[1] . الجن: 18.
[2] . الرعد: 14.
[3] . الأعراف: 197.
[4] . فاطر: 13.
[5] . الأعراف: 194.
[6] . الإسراء: 56.
[7] . الإسراء: 57.
[8] . يونس: 106.
[9] . فاطر: 14.
[10] . الأحقاف: 5.
[11] . تنزيه الاعتقاد للصنعاني كما في كشف الارتياب:272ـ 274، والآية 60 من سورة غافر.
[12] . نوح: 5.
[13] . إبراهيم: 22.
[14] . النسبة بين الدعاء والعبادة عموم وخصوص من وجه: ففي هذه الموارد يصدق الدعاء ولا تصدق العبادة، وأمّا في العبادة الفعلية المجردة عن الذكر كالركوع والسجود فتصدق العبادة، لأنّها تقترن مع الاعتقاد بإلوهية المسجود له ولا يصدق الدعاء لخلوّه عن الذكر اللفظي. ويصدق كلا المفهومين «الدعاء والعبادة» في أذكار الصلاة، لأنّها دعوة بالقول ناشئة عن الاعتقاد بإلوهية المدعو.
____________________________
[15] . هود: 101.
[16] . النساء: 64.
[17] . غافر: 60.
[18] . الصحيفة السجادية، دعاء 45. والمقصود الآية 60 من سورة غافر.
[19] . المائدة: 76.
[20] . الأنعام: 71.
[21] . فاطر: 13.
[22] . العنكبوت: 17.
[23] . الأنعام: 56.
[24] . وبهذا المضمون وردت الآية 66 من سورة غافر.
وبقي في هذا المجال مطلب آخر، وهو أنّ القرآن الكريم نهى ـ في موارد متعدّدة ـ عن دعوة غير اللّه سبحانه، واعتبر أنّ تلك الدعوة عبادة وكأنّه قد اقترنت الدعوة بالعبادة، وإليك الآيات المتضمّنة، بل المصرّحة بذلك:
(وَان الْمَساجِدَ للّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) .( [1])
(لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجيبُونَ لَهُمْ بِشَيْء... ) .( [2])
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) .( [3])
(...وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ) .( [4])
(إِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ... ) .( [5])
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنْكُمْ وَلا تَحْويلاً ) .( [6])
(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبّهِمُ الوَسِيلَة ) .( [7])
(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ... ) .( [8])
(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَ آءَكُمْْ... ) .( [9])
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ لا يَسْتَجيبُ لَهُ إِلى يَومِ الْقِيامَةَ... ) .( [10])
ولقد استنتج الوهابيّون من هذه الآيات مساوقة دعوة الصالحين والأولياء مع عبادتهم، فلو وقف شخص إلى جنب قبر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أو في مكان بعيد وقال متوسّلاً: يا محمد، فنداؤه ودعوته بنفسها عبادة للمدعو،كما يقول الصنعاني في هذا الصدد:
«وقد سمّى اللّه الدعاء: عبادة بقوله: (أُدْعُوني أَسْتَجِب لَكُمْ إِنَّ الّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادتي ) ومن هتف باسم نبي أو صالح بشيء أو قال اشفع لي
إلى اللّه في حاجتي أو استشفع بك إلى اللّه في حاجتي أو نحو ذلك أو قال: اقض ديني أو اشف مريضي أو نحو ذلك فقد دعا ذلك النبي و الصالح، والدعاء عبادة بل مخها، فيكون قد عبد غير اللّه و صار مشركاً، إذ لا يتم التوحيد إلاّبتوحيده تعالى في الإلوهية باعتقاد أن لا خالق ولا رازق غيره، وفي العبادة بعدم عبادة غيره ولو ببعض العبادات، وعبّاد الأصنام إنّما أشركوا لعدم توحيد اللّه في العبادة».( [11])
ويرد على كلام الصنعاني هذا أنّه لا مرية أنّ لفظة الدعاء تعني في لغة العرب: النداء لطلب الحاجة، بينما تعني لفظة العبادة معنى آخر، وهو: «الخضوع النابع من الاعتقاد بالإلوهية والربوبية» ولا يمكن اعتبار المفهومين مترادفين ومشتركين في المعنى، أي لا يمكن القول إنّ كلّ نداء وطلب يساوق العبادة والخضوع، وذلك للأسباب التالية:
أوّلاً: إنّ القرآن استعمل لفظة الدعوة والدعاء في موارد لا يمكن أن يكون المراد فيها العبادة مطلقاً، مثل قوله تعالى:
(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوتُ قَومي لَيْلاً وَنَهاراً ) .( [12])
فهل يمكن أن نقول: إنّ نوحاً (عليه السلام) قد عبد قومه ليلاً ونهاراً؟!
وكذلك قال تعالى حاكياً عن الشيطان قوله:
(...وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطان إِلاّ أَنْ دَعَوتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي... ) .( [13])
فهل يحتمل أن يكون مقصود الشيطان هو أنّه عبد أتباعه؟ في حين أنّ العبادة ـ لو صحت وافترضت ـ فإنّما تكون من جانب أتباعه له لا من جانبه اتجاه أتباعه.
في هذه الآيات ونظائرها ـ و التي لم نذكرها روماً للاختصار ـ استعملت لفظة الدعاء والدعوة في غير معنى العبادة، ولهذا لا يمكن أن نعتبرهما مترادفتين،ولذلك فلو دعا إنسان ولياً أو نبياً أو رجلاً صالحاً، فإنّ عمله ذلك لا يكون عبادة له، وذلك لأنّ الدعاء أعمّ من العبادة.( [14])
ثانياً: إنّ المقصود من الدعاء في مجموع الآيات المذكورة هو ليس مطلق النداء، بل نداء خاص يمكن أن يكون ـ مآلاً ـ مرادفاً للفظ العبادة، لأنّ مجموع هذه الآيات وردت حول الوثنيين الذين كانوا يتصوّرون بأنّ أصنامهم آلهة صغار قد فوّض إليها بعض مقام الشأن الإلهي، ويعتقدون في شأنها بنوع من الاستقلال في الفعل، ومعلوم أنّ الخضوع والتذلّل أو أي نوع من القول والعمل أمام شيء باعتقاد أنّه إله كبير أو إله صغير لكونه ربّاً أو مالكاً لبعض الشؤون الإلهية كالشفاعة والمغفرة،يكون عبادة ولا شكّ أنّ خضوع الوثنيين ودعاءهم واستغاثتهم أمام أوثانهم كانت تنبع من اعتقادهم أنّ هذه الأصنام آلهة أو أرباب أو مالكة لحق الشفاعة و...، وباعتقاد أنّها مستقلة في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة، ومن البديهي أنّ أي دعوة لهذه الموجودات وغيرها مع هذه الشروط
عبادة لا محال.
وأوضح شاهد على أنّ دعوتهم كانت مقرونة باعتقاد إلوهية تلك الأصنام الآية التالية:
(...فَما أَغْنَتْ عَنْهُمءَالِهَتُهُمُ الَّتي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْء... ) .( [15])
وعلى هذا الأساس فإنّ الآيات المذكورة لا ترتبط بموضوع بحثنا مطلقاً، إذ الموضوع في بحثنا هو الدعوة مجرّدة عن الاعتقاد بالإلوهية والمالكية والاستقلالية في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة، بل تكون الدعوة نابعة من كون المدعو عبداً من عباد اللّه المكرمين،وأنّه ذو مقام معنوي استحقّ به منزلة النبوّة أو الإمامة، ولأنّه وعد المتوسلين به باستجابة دعائهم وإنجاح طلباتهم فيما إذا قصدوا اللّه عن طريقه، قال تعالى في حقّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) :
(...وَلَو أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَروا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رََحِيماً ) .( [16])
ثالثاً: إنّ في نفس الآيات المذكورة إشارة واضحة إلى أنّ المقصود ليس مطلق الدعاء وطلب الحاجة، بل المقصود قسم خاص منه، وهو ما كان ملازماً للعبادة، ومن هذه الجهة نجد أنّ في بعض الآيات وبعد الإتيان بلفظ الدعوة يستعمل مصطلح العبادة في نفس المعنى المقصود، مثل قوله تعالى:
(وَقالَ رَبّكُم ادْعُوني أَسْتَجِب لَكُمْ إِنَّ الَّذينَ يَسْتَكْبِرونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ ) .( [17])
وبإمعان النظر في الآية المباركة نجد أنّه قد جاء في صدرها لفظ (ادْعُوني ) وفي ذيلها استعمل لفظ ( عبادَتي ) ، وهذا شاهد جليٌّ على أنّ المقصود من هذه الدعوة هو دعوة واستغاثة خاصة في مقابل موجودات يعتقد أنّها تمتلك صفات الإله.
قال الإمام السجاد (عليه السلام) في دعائه:
«فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكباراً و توعّدت على تركه دخول جهنم داخرين». ( [18])
وربّما وردت في إحدى الآيتين ذاتي المضمون الواحد لفظة الدعوة، ووردت في الآية الأُخرى لفظة الدعاء، مثل قوله تعالى:
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً... ) .( [19])
وفي آية أُخرى يقول سبحانه:
(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا... ) .( [20])
وفي آية أُخرى:
(...وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ) .( [21])
فقد استعمل في هذه الآية لفظ (تَدْعُونَ ) وفي نفس الوقت استعمل لفظ ( تَعْبُدُونَ ) في آية أُخرى تحمل نفس المضمون وهي قوله تعالى:
(...إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً... ) .( [22])
وقد ترد كلتا اللفظتين في آية واحدة وتستعملان في معنى واحد كما في قوله سبحانه:
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ... ) ( [23]) . ( [24])
ونحن ندعو القارئ الكريم أن يراجع بنفسه المعجم المفهرس مادتي «عبد» و «دعا» ليرى بنفسه كيف عُبِّر عن مضمون واحد في آية بلفظ العبادة وفي آية أُخرى عُبِّر عن نفس المضمون بلفظ«الدعوة»، وهذا بنفسه شاهد على أنّ المقصود من الدعوة في هذه الآيات هو العبادة والخضوع، وليس مطلق النداء.
هذا والقارئ الكريم إذا درس مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الدعوة وأُريد منه القسم الملازم للعبادة لرأى أنّ الآيات إمّا وردت حول خالق الكون الذي يعترف جميع الموحّدين بإلوهيته وربوبيته ومالكيته. أو وردت في شأن الأوثان التي كان عبدتُها يتصوّرون أنّها آلهة صغيرة ومالكة لمقام الشفاعة، وفي هذه الحالة فإنّ الاستدلال بهذه الآيات في مورد بحثنا الذي يكون فيه دعاء أولياء اللّه والاستغاثة بهم مجرداً عن الاعتقاد بأنّهم يملكون إحدى تلك الصفات الإلهية يكون من أغرب أنواع الاستدلال ومن أعجب العجب.
ثمّ إنّ الاطّلاع على معتقدات الوثنيّين في عصر الرسالة يزيح الستار عن تلك الحقيقة.
------------------------------------------
[1] . الجن: 18.
[2] . الرعد: 14.
[3] . الأعراف: 197.
[4] . فاطر: 13.
[5] . الأعراف: 194.
[6] . الإسراء: 56.
[7] . الإسراء: 57.
[8] . يونس: 106.
[9] . فاطر: 14.
[10] . الأحقاف: 5.
[11] . تنزيه الاعتقاد للصنعاني كما في كشف الارتياب:272ـ 274، والآية 60 من سورة غافر.
[12] . نوح: 5.
[13] . إبراهيم: 22.
[14] . النسبة بين الدعاء والعبادة عموم وخصوص من وجه: ففي هذه الموارد يصدق الدعاء ولا تصدق العبادة، وأمّا في العبادة الفعلية المجردة عن الذكر كالركوع والسجود فتصدق العبادة، لأنّها تقترن مع الاعتقاد بإلوهية المسجود له ولا يصدق الدعاء لخلوّه عن الذكر اللفظي. ويصدق كلا المفهومين «الدعاء والعبادة» في أذكار الصلاة، لأنّها دعوة بالقول ناشئة عن الاعتقاد بإلوهية المدعو.
____________________________
[15] . هود: 101.
[16] . النساء: 64.
[17] . غافر: 60.
[18] . الصحيفة السجادية، دعاء 45. والمقصود الآية 60 من سورة غافر.
[19] . المائدة: 76.
[20] . الأنعام: 71.
[21] . فاطر: 13.
[22] . العنكبوت: 17.
[23] . الأنعام: 56.
[24] . وبهذا المضمون وردت الآية 66 من سورة غافر.