بـسـم الله الـرحـمـٰن الـرحـيـم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الصداقة من الأخلاق الحميدة التي شجّع الإسلام الناس عليها لأنّها تجمع الناس وتقرّبهم من بعضهم البعض وتجعل بينهم أنواعاً من الإلفة والمحبة والإقدام، وتُضفي الصداقة على العلاقات الإجتماعية بين الناس أنواعاً من المساعدة والتعاون من أجل جعل حياة البشر أكثر سعادة وأنساً وهناءً.
والصداقة مشتقّة من "الصدق" وهو كما المعلوم من أرفع الصفات الأخلاقية مدحاً في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلام الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
ولا يمكن لأيّ إنسانٍ أن يستغني عن الأصدقاء، لأنّ الله خلق الإنسان مفطوراً على العيش مع الجماعة ليأنس بها وتأنس به، وليأمن بها وتأمن به، ولأنّ الوحدة والعزلة لا يعيشها إلاّ الإنسان المنحرف المزاج وغير السوي، أو من يعاني من خللٍ معين في شخصيّته تجعله يبتعد عن الناس وينفر منهم، إلاّ أنّ هؤلاء هم مجرد استثناء في كلّ مجتمعٍ ولا يمكن أن نعيش حياة البشر على أساس هؤلاء.
والصداقة هي عبارة عن انفتاح الإنسان على الآخرين بنحوٍ يجعلهم يألفون ويأنسون به ويرتاحون إليه ويبوحون إليه بما يُخالج نفوسهم من شؤون ومشاكل ليعاونهم في إيجاد الحلول المناسبة لها في كلّ المجالات التي يقدر على المساعدة فيها.
إلاّ أنّ هذه الصداقة على أهميتها، لا بدّ أن نستند إلى قواعد متينة وركائز قويّة حتّى تتحقّق الأغراض والأهداف الصحيحة منها، ولهذا عندما نرجع إلى أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) نجد أنّهم وضعوا ورسموا لنا النموذج للصداقة وبالتالي للصديق وهي على النحو التالي:
أولاً- نوعية الأصدقاء: إذ من الواضح أنّ الإنسان لا يمكن أن يأخذ أيّ شخصٍ كان صديقاً له، بل لا بدّ من توافر مواصفات حميدة في هذا الصديق، ومن هنا أرشدنا أهل البيت (عليهم السلام)إلى من ينبغي لنا أن نصادقه، ومن هذه الأحاديث:
1- (إصحب من تتزيّن به، ولا تصحب من يتزيّن بك)1.
2- (من موعظة الإمام الحسن (عليه السلام) لأحد أصحابه قال: (اصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدّق قولك، وإن صلت شدّ صولك، وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن بدت منك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتدأك، وإن نزلت به إحدى الملمّات ساءك)2.
3- (من دعاك إلى الدار الباقية وأعانك على العمل، فهو الصديق الشفيق)3.
وفي نظرةٍ سريعة إلى مضمون هذه الأحاديث نجد أنّ الصديق هو الذي تتوافر فيه صفات الصدق والأمانة والإخلاص وحفظ السر وصون الصديق وعدم فضح عيوبه ومساعدته عند الحاجة والدفاع عنه ضدّ من يريد له الشر، فمن لم تكن فيه هذه الصفات فليس بصديق، بل هو مجرّد منافق زاعم للصداقة ويريد الإنتفاع من الصداقة لنفسه أو لجماعته أو للوصول إلى أهدافٍ غير صحيحة وغير شريفة من وراء ادّعائه للصداقة، ولذا نجد من جهةٍ أخرى التحذير من مصاحبة أشخاص تجرّ صداقتهم إلى ما لا تُحمد عقباه، وقد ورد فيهم:
1-( إحذر من الناس ثلاثة: الخائن والظلوم والنمّام، لأنّ من خان لك خانك، ومن ظلم لك سيظلمك، ومن نمّ إليك سينمّ عليك)4.
2- (إحذر مصاحبة الفسّاق والفجّار والمجاهرين بمعاصي الله)5.
3-(إياك ومعاشرة متتبعي عيوب الناس، فإنّه لم يسلم مصاحبهم منهم)6.
ولم نذكر كلّ الذين لا تفيد مصاحبتهم وإنّما ذكرنا نماذج يمكن القياس عليها، ولذا لا تصادق الكذّاب ولا شارب الخمر، ولا الذي يغتاب الناس أو يغشّهم أو يسرقهم وما أشبه ذلك، لأنّ مصادقتهم تورث السمعة السيئة وهتك حرمة المؤمن الملتزم.
ثانياً- حدود الصداقة: ومع كلّ ما ذكرنا من المواصفات الحميدة للصداقة ينبغي أن يكون لها حدود لا تتجاوزها لأنّها عندما تنقلب إلى ضدّها ستكون ضارّة ومؤذية لأنّ من كان صديقاً ثمّ صار عدواً فهو الأقدر من غيره على إيقاع الأذى والضرر بمن كان صديقه، لذا ورد في الأحاديث حدوداً للصداقة كما في الحديث التالي:
(لا تكون الصداقة إلاّ بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منه، وإلاّ فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة، فأولها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثانية: أن يرى زينك زينه وشينك شينه، والثالثة: أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال، والرابعة: أن لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته، والخامسة: وهي تجمع كلّ الخصال: أن لا يسلمك عند النكبات)7.
ولذا ورد في الحديث أنّ حدود الصداقة تقيها وتحميها وتحفظها لأنّ ذهاب الحشمة والحياء بين الأصدقاء من خلال المزاح الحاد الخارج عن حدود الأدب في الكلام والمحاورة والرياء والمباهاة تذهب بالصداقة وتحوّلها إلى فُرقة وعداوة، ومن هنا جاء في الحديث: (المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلّل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون فيه المغالبة، والمغالبة أسُّ أسباب القطيعة)8.
ثالثاً:- إختبار الصداقة: عندما يأخذ إنسانٌ ما صديقاً له فإنّ عليه أن يختبره لكي يكتشف معدنه وجوهره وحقيقة أمره، فقد يكون هذا الصديق وهماً لا حقيقة، وكذباً لا صدقاً، أو خائناً وليس أميناً، وهكذا في باقي الأمور، والإختبار هو الطريق لكشف الصديق الحقيقي من غيره، وطبعاً هذا الإختبار يبقى في نفس الصديق الذي يريد اختبار صديقه لأنّه لو أخبره لزالت الفائدة المرجوّة، ولذا ورد في الحديث الشريف:
1-: (الطمأنينة إلى كلّ أحد قبل الإختبار عجز)9.
2-( إذا كان الزمان زمان جور وأهله أهل غدر فالطمأنينة إلى كلّ أحدٍ عجز)10.
3-(لا تثق بالصديق قبل الخُبرة)11.
4-(أبذل لصديقك كلّ المودة، ولا تبذل له كلّ الطمأنينة)12.
وقد ورد ما يمكن أن نختبر به من يقول بأنّه صديق، فإذا صدق في موارد الإختبار ونجح فهو الصديق حقاً، ومن لم يصدق وفشل فهو الزاعم للصداقة، وهو بالتالي منافق ومخادع يريد استغلال الصداقة لأهوائه ورغباته، ومن ذلك يمحتن الصديق بثلاث خصال فإن كان مؤاتياً فيها فهو الصديق المعافى، وإلاّ كان صديق رخاء لا صديق شدّة، تبتغي منه مالاً، أو تأمنه على مال، أو تشاركه في مكروه)13.
أو (عند زوال القدرة يتبيّن الصديق من العدو)14 أو (لا تعرف أخاك إلاّ عند حاجتك إليه)15.
من هنا نقول إنّ الصداقة الحقيقية هي التي تتميز بهذه الصفات الثلاث (النوعية والحدود والإختبار) وما دون ذلك فهو الغدر والخيانة والمكر والدهاء والخبث، وهذه الصفات السلبية هي من المساوئ الناتجة عن الصداقة غير الحقيقية والتي يمكن أن نعبّر عنها بـ "التجارة الفاجرة والغادرة" التي يستغلّ فيها إنسانٌ ما صدق الآخر في العلاقة معه، فيغدره في نفسه أو عرضه أو ماله أو أمانته أو أيّ شيءٍ آخر يؤذي من يتعامل مع الآخرين بصدقٍ وإخلاص وشفافية.
فالخيانة بين الأصدقاء هي من أبشع الصفات السلبية التي يمكن أن يتصوّرها إنسان نظراً لما تحمل من دلالاتٍ نفسية وإجتماعية بغيضة ومكروهة عند الله وعند الناس المفطورة على الصدق والحب والخير والصفاء والوفاء، وقد ورد في القرآن العديد من الآيات الذامّة للخيانة مثل :﴿ ... وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ 16و﴿ ... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴾ 17 و﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ 18.
من كلّ ذلك نصل إلى الخلاصة المطلوبة: (إنّ كلّ من أراد أن يتّخذ صديقاً له فعليه أن يأخذ بعين الإعتبار كلّ ما ورد في الأحاديث الواردة عن أهل بيت النبوة والعصمة(عليهم السلام) الذين أوضحوا لنا كلّ ما ينبغي توافره في الصديق الحقيقي من غيره) فضلاً عمّا نسمعه أو نقرأه عن نماذج شنيعة من الخيانات بين الأصدقاء كالتي اتّهمت صديقتها بالسرقة مع أنّها هي التي كانت السبب في حصولها على وظيفة، أو من ائتمنت امرأة صديقة لها على ابنتها فباعتها لعائلةٍ من خارج البلاد بثمنٍ بخس، أو كالذي أرسل المال لصديقه الذي ادّعى أنّه قد صار مفلساً فتبيّن أنّه كاذب، أو كالذي أرسل مالاً لصديقه ليشتري له أرضاً فسجّل الصديق الأرض باسم ابنه ولم يعلم صاحب المال أنّ الأمر كذلك إلاّ بعد وفاة من كان يدّعي الصداقة.
هذا غيضٌ من فيض من الخيانة بين الأصدقاء والتي هي من المحرّمات الشرعية لما تحتويه من كذبٍ ونفاق وافتراء وأكل مال الناس بالباطل وهذه كلّها أمورٌ يعاقب الإسلام فاعلها في الدنيا فضلاً عن العقاب الأخروي عند الله الذي هو أشد وأقسى على الإنسان من عذاب الدنيا.
من هنا نسأل الله عزّ وجلّ أن يحمينا من أصدقاء السوء والخيانة والغدر، لأنّ مثل هؤلاء يقتلون في الإنسان كلّ حبٍّ للخير وكلّ رغبةٍ لمساعدة الآخرين ويقطعون سبيل المعروف بين الناس، وكفى بهذه المفاسد التي هي المنشأ للكثير من الشرور والآثام والجرائم على أنواعها.
والحمد لله ربّ العالمين.
المصادر
1. الإمام الصادق (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج 76 ص-267-.
2. الإمام الحسن (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج44-ص 139-.
3. الإمام علي (عليه السلام)- ميزان الحكمة- ج5- ص203-رقم 10249.
4. الإمام الصادق (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج78-ص230.
5. الإمام علي (عليه السلام)- ميزان الحكمة-ج5-ص304-رقم 10260.
6. الإمام علي (عليه السلام)- ميزان الحكمة- ج5- ص 304- حديث رقم 10265.
7. الإمام الصادق (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج78-ص249.
8. الإمام الهادي (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج78- ص369.
9. الإمام علي (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج103-ص86.
10. الإمام الصادق (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج78- ص239.
11. الإمام علي (عليه السلام)- ميزان الحكمة- ج5- ص311- حديث رقم 10317.
12. الإمام علي (عليه السلام) – بحار الأنوار- ج74- ص165.
13. الإمام الصادق (عليه السلام)- تحف العقول- ص237- وبحار الأنوار- ج78- ص 235.
14. الإمام علي (عليه السلام)- ميزان الحكمة- ج5- ص312- حديث رقم 10323.
15. لقمان الحكيم- بحار الأنوار- ج74- ص178.
16. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 52، الصفحة: 241.
17. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 107، الصفحة: 96.
18. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 27، الصفحة: 180.
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الصداقة من الأخلاق الحميدة التي شجّع الإسلام الناس عليها لأنّها تجمع الناس وتقرّبهم من بعضهم البعض وتجعل بينهم أنواعاً من الإلفة والمحبة والإقدام، وتُضفي الصداقة على العلاقات الإجتماعية بين الناس أنواعاً من المساعدة والتعاون من أجل جعل حياة البشر أكثر سعادة وأنساً وهناءً.
والصداقة مشتقّة من "الصدق" وهو كما المعلوم من أرفع الصفات الأخلاقية مدحاً في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلام الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
ولا يمكن لأيّ إنسانٍ أن يستغني عن الأصدقاء، لأنّ الله خلق الإنسان مفطوراً على العيش مع الجماعة ليأنس بها وتأنس به، وليأمن بها وتأمن به، ولأنّ الوحدة والعزلة لا يعيشها إلاّ الإنسان المنحرف المزاج وغير السوي، أو من يعاني من خللٍ معين في شخصيّته تجعله يبتعد عن الناس وينفر منهم، إلاّ أنّ هؤلاء هم مجرد استثناء في كلّ مجتمعٍ ولا يمكن أن نعيش حياة البشر على أساس هؤلاء.
والصداقة هي عبارة عن انفتاح الإنسان على الآخرين بنحوٍ يجعلهم يألفون ويأنسون به ويرتاحون إليه ويبوحون إليه بما يُخالج نفوسهم من شؤون ومشاكل ليعاونهم في إيجاد الحلول المناسبة لها في كلّ المجالات التي يقدر على المساعدة فيها.
إلاّ أنّ هذه الصداقة على أهميتها، لا بدّ أن نستند إلى قواعد متينة وركائز قويّة حتّى تتحقّق الأغراض والأهداف الصحيحة منها، ولهذا عندما نرجع إلى أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) نجد أنّهم وضعوا ورسموا لنا النموذج للصداقة وبالتالي للصديق وهي على النحو التالي:
أولاً- نوعية الأصدقاء: إذ من الواضح أنّ الإنسان لا يمكن أن يأخذ أيّ شخصٍ كان صديقاً له، بل لا بدّ من توافر مواصفات حميدة في هذا الصديق، ومن هنا أرشدنا أهل البيت (عليهم السلام)إلى من ينبغي لنا أن نصادقه، ومن هذه الأحاديث:
1- (إصحب من تتزيّن به، ولا تصحب من يتزيّن بك)1.
2- (من موعظة الإمام الحسن (عليه السلام) لأحد أصحابه قال: (اصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدّق قولك، وإن صلت شدّ صولك، وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن بدت منك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتدأك، وإن نزلت به إحدى الملمّات ساءك)2.
3- (من دعاك إلى الدار الباقية وأعانك على العمل، فهو الصديق الشفيق)3.
وفي نظرةٍ سريعة إلى مضمون هذه الأحاديث نجد أنّ الصديق هو الذي تتوافر فيه صفات الصدق والأمانة والإخلاص وحفظ السر وصون الصديق وعدم فضح عيوبه ومساعدته عند الحاجة والدفاع عنه ضدّ من يريد له الشر، فمن لم تكن فيه هذه الصفات فليس بصديق، بل هو مجرّد منافق زاعم للصداقة ويريد الإنتفاع من الصداقة لنفسه أو لجماعته أو للوصول إلى أهدافٍ غير صحيحة وغير شريفة من وراء ادّعائه للصداقة، ولذا نجد من جهةٍ أخرى التحذير من مصاحبة أشخاص تجرّ صداقتهم إلى ما لا تُحمد عقباه، وقد ورد فيهم:
1-( إحذر من الناس ثلاثة: الخائن والظلوم والنمّام، لأنّ من خان لك خانك، ومن ظلم لك سيظلمك، ومن نمّ إليك سينمّ عليك)4.
2- (إحذر مصاحبة الفسّاق والفجّار والمجاهرين بمعاصي الله)5.
3-(إياك ومعاشرة متتبعي عيوب الناس، فإنّه لم يسلم مصاحبهم منهم)6.
ولم نذكر كلّ الذين لا تفيد مصاحبتهم وإنّما ذكرنا نماذج يمكن القياس عليها، ولذا لا تصادق الكذّاب ولا شارب الخمر، ولا الذي يغتاب الناس أو يغشّهم أو يسرقهم وما أشبه ذلك، لأنّ مصادقتهم تورث السمعة السيئة وهتك حرمة المؤمن الملتزم.
ثانياً- حدود الصداقة: ومع كلّ ما ذكرنا من المواصفات الحميدة للصداقة ينبغي أن يكون لها حدود لا تتجاوزها لأنّها عندما تنقلب إلى ضدّها ستكون ضارّة ومؤذية لأنّ من كان صديقاً ثمّ صار عدواً فهو الأقدر من غيره على إيقاع الأذى والضرر بمن كان صديقه، لذا ورد في الأحاديث حدوداً للصداقة كما في الحديث التالي:
(لا تكون الصداقة إلاّ بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منه، وإلاّ فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة، فأولها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثانية: أن يرى زينك زينه وشينك شينه، والثالثة: أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال، والرابعة: أن لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته، والخامسة: وهي تجمع كلّ الخصال: أن لا يسلمك عند النكبات)7.
ولذا ورد في الحديث أنّ حدود الصداقة تقيها وتحميها وتحفظها لأنّ ذهاب الحشمة والحياء بين الأصدقاء من خلال المزاح الحاد الخارج عن حدود الأدب في الكلام والمحاورة والرياء والمباهاة تذهب بالصداقة وتحوّلها إلى فُرقة وعداوة، ومن هنا جاء في الحديث: (المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلّل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون فيه المغالبة، والمغالبة أسُّ أسباب القطيعة)8.
ثالثاً:- إختبار الصداقة: عندما يأخذ إنسانٌ ما صديقاً له فإنّ عليه أن يختبره لكي يكتشف معدنه وجوهره وحقيقة أمره، فقد يكون هذا الصديق وهماً لا حقيقة، وكذباً لا صدقاً، أو خائناً وليس أميناً، وهكذا في باقي الأمور، والإختبار هو الطريق لكشف الصديق الحقيقي من غيره، وطبعاً هذا الإختبار يبقى في نفس الصديق الذي يريد اختبار صديقه لأنّه لو أخبره لزالت الفائدة المرجوّة، ولذا ورد في الحديث الشريف:
1-: (الطمأنينة إلى كلّ أحد قبل الإختبار عجز)9.
2-( إذا كان الزمان زمان جور وأهله أهل غدر فالطمأنينة إلى كلّ أحدٍ عجز)10.
3-(لا تثق بالصديق قبل الخُبرة)11.
4-(أبذل لصديقك كلّ المودة، ولا تبذل له كلّ الطمأنينة)12.
وقد ورد ما يمكن أن نختبر به من يقول بأنّه صديق، فإذا صدق في موارد الإختبار ونجح فهو الصديق حقاً، ومن لم يصدق وفشل فهو الزاعم للصداقة، وهو بالتالي منافق ومخادع يريد استغلال الصداقة لأهوائه ورغباته، ومن ذلك يمحتن الصديق بثلاث خصال فإن كان مؤاتياً فيها فهو الصديق المعافى، وإلاّ كان صديق رخاء لا صديق شدّة، تبتغي منه مالاً، أو تأمنه على مال، أو تشاركه في مكروه)13.
أو (عند زوال القدرة يتبيّن الصديق من العدو)14 أو (لا تعرف أخاك إلاّ عند حاجتك إليه)15.
من هنا نقول إنّ الصداقة الحقيقية هي التي تتميز بهذه الصفات الثلاث (النوعية والحدود والإختبار) وما دون ذلك فهو الغدر والخيانة والمكر والدهاء والخبث، وهذه الصفات السلبية هي من المساوئ الناتجة عن الصداقة غير الحقيقية والتي يمكن أن نعبّر عنها بـ "التجارة الفاجرة والغادرة" التي يستغلّ فيها إنسانٌ ما صدق الآخر في العلاقة معه، فيغدره في نفسه أو عرضه أو ماله أو أمانته أو أيّ شيءٍ آخر يؤذي من يتعامل مع الآخرين بصدقٍ وإخلاص وشفافية.
فالخيانة بين الأصدقاء هي من أبشع الصفات السلبية التي يمكن أن يتصوّرها إنسان نظراً لما تحمل من دلالاتٍ نفسية وإجتماعية بغيضة ومكروهة عند الله وعند الناس المفطورة على الصدق والحب والخير والصفاء والوفاء، وقد ورد في القرآن العديد من الآيات الذامّة للخيانة مثل :﴿ ... وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ 16و﴿ ... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴾ 17 و﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ 18.
من كلّ ذلك نصل إلى الخلاصة المطلوبة: (إنّ كلّ من أراد أن يتّخذ صديقاً له فعليه أن يأخذ بعين الإعتبار كلّ ما ورد في الأحاديث الواردة عن أهل بيت النبوة والعصمة(عليهم السلام) الذين أوضحوا لنا كلّ ما ينبغي توافره في الصديق الحقيقي من غيره) فضلاً عمّا نسمعه أو نقرأه عن نماذج شنيعة من الخيانات بين الأصدقاء كالتي اتّهمت صديقتها بالسرقة مع أنّها هي التي كانت السبب في حصولها على وظيفة، أو من ائتمنت امرأة صديقة لها على ابنتها فباعتها لعائلةٍ من خارج البلاد بثمنٍ بخس، أو كالذي أرسل المال لصديقه الذي ادّعى أنّه قد صار مفلساً فتبيّن أنّه كاذب، أو كالذي أرسل مالاً لصديقه ليشتري له أرضاً فسجّل الصديق الأرض باسم ابنه ولم يعلم صاحب المال أنّ الأمر كذلك إلاّ بعد وفاة من كان يدّعي الصداقة.
هذا غيضٌ من فيض من الخيانة بين الأصدقاء والتي هي من المحرّمات الشرعية لما تحتويه من كذبٍ ونفاق وافتراء وأكل مال الناس بالباطل وهذه كلّها أمورٌ يعاقب الإسلام فاعلها في الدنيا فضلاً عن العقاب الأخروي عند الله الذي هو أشد وأقسى على الإنسان من عذاب الدنيا.
من هنا نسأل الله عزّ وجلّ أن يحمينا من أصدقاء السوء والخيانة والغدر، لأنّ مثل هؤلاء يقتلون في الإنسان كلّ حبٍّ للخير وكلّ رغبةٍ لمساعدة الآخرين ويقطعون سبيل المعروف بين الناس، وكفى بهذه المفاسد التي هي المنشأ للكثير من الشرور والآثام والجرائم على أنواعها.
والحمد لله ربّ العالمين.
المصادر
1. الإمام الصادق (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج 76 ص-267-.
2. الإمام الحسن (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج44-ص 139-.
3. الإمام علي (عليه السلام)- ميزان الحكمة- ج5- ص203-رقم 10249.
4. الإمام الصادق (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج78-ص230.
5. الإمام علي (عليه السلام)- ميزان الحكمة-ج5-ص304-رقم 10260.
6. الإمام علي (عليه السلام)- ميزان الحكمة- ج5- ص 304- حديث رقم 10265.
7. الإمام الصادق (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج78-ص249.
8. الإمام الهادي (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج78- ص369.
9. الإمام علي (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج103-ص86.
10. الإمام الصادق (عليه السلام)- بحار الأنوار- ج78- ص239.
11. الإمام علي (عليه السلام)- ميزان الحكمة- ج5- ص311- حديث رقم 10317.
12. الإمام علي (عليه السلام) – بحار الأنوار- ج74- ص165.
13. الإمام الصادق (عليه السلام)- تحف العقول- ص237- وبحار الأنوار- ج78- ص 235.
14. الإمام علي (عليه السلام)- ميزان الحكمة- ج5- ص312- حديث رقم 10323.
15. لقمان الحكيم- بحار الأنوار- ج74- ص178.
16. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 52، الصفحة: 241.
17. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 107، الصفحة: 96.
18. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 27، الصفحة: 180.