وضَعت رأسها على الوسادة، وراحت تفكر بمراسيمِ العرس، حدثت نفسها قائلة: سأشتري لهُ الكثير من الأشياء، لطلما انتظرت هذه الفرحة من سنواتٍ عديدة، وأخيراً ولدي الوحيد وافق على الزواج بعد إلحاحٍ شديد، شكراً لك يا رب على استجابتِك دعوتي وتحقيقَ أمنيتي.
اقتربت السَّاعة من الواحدة ليلاً، ومازالت الأمُّ غارقة بأفكارِها هذه، وما إن التفتت للسَّاعة حتى قامت مُسرعة، وأطفأت المصباح، وهي تقول: عليّ أنْ أنامَ الآن؛ لكي أصحو مبكرة، فغداً لديّ أعمالٌ كثيره لابد من إنجازها.
وبينما هي كذلك، أهمَّ بها النُعاس، فما كانَ مِن عينيها المثقلتينِ بالأماني، إلا أنْ تستسلمَ لنومٍ عميق، لكنِّها استيقظت منهُ مرتينِ: مرة على صوتِ الأذان لأداء الصّلاة والدعاء، وأخرى على صوتِ المنبه في تمامِ السَّاعة السابعة، حينها نهضت من فراشها بنشاطٍ، متجهَة نحو المطبخ لتعدَ الفطور، ثم توجهت لتباشر بعد ذلك بتنظيفِ المنزل، رغمَ معاناتها من عدة أمراض، بيد أنَّ الفرحة جعلتها تنسى ما بها من ألمٍ، ولمَّا حانَ وقت العصر، كانَ كل شيء جاهزاً وبانتظار الضيوف.
وفي تمامِ السَّاعة الرابعة حضرَ الأقاربَ والأصدقاء فذهبَ الجميع إلى بيت العروس، وهناك تمَ عقد قران منتظر وسط زغاريد أمه، وتهاني الحضور له، وبعد انتهاء الحفل، رجعت أم منتظر مع ولدها إلى البيت وكلها شوق ليومِ زفافه، ألقت بجسدها المتعب على الكرسي لتستريح قليلاً نظرة الى قرة عينها تبسّمت بوجههِ وهي تمازحهُ، أسبوع واحد وتكون عروسك هنا معي بهذا البيت، جهّز نفسك يا بطل للذهاب غداً إلى وحدتك العسكرية؛ لكي تأخذ إجازة العرس، آهٍ آه يا ولدي، ليتَ والدكَ كانَ موجوداً ليفرح معنا، ليتهُ رآك وقد أصبحتَ رجلاً، لكن شاء القدر، أنْ يكون تحت التراب، وأنا أتحمل كامل المسؤولية منذُ طفولتكَ وحتى الآن، أراد منتظر أنّ يغيّرَ الموضوع؛ لكي يعيدَ ابتسامتها كما كانت، قبّلَ جبينها وضمّها إلى صدرهِ وهو يقول: رحمك الله يا أبي، حتى أنا تمنيت هذا، لكن أنتِ موجودة وأنتِ الخير والبركة، حبيبتي الغالية ارتاحي الآن، فقد تعبتِ اليوم كثيراً وأنا سوفَ أنام؛ لأنهُ كما تعلمين غداً أمامي طريق طويلة، حتى أصل إلى وحدتي، تصبحين على خير يا أمي. :ــ وأنت من أهل الخير يا ولدي.
ذهبَ كل منهما إلى فراشه، وشيئاً فشيئاً استولى عليهم النوم، حتى انقضت ساعات من الليل وكأنها ومضة لتسفرَ عن صبحٍ ملبّد بالغيوم، حتى السماء هي الأخرى تضامنت مع شعور أم منتظر بلونها الرمادي، إذ لم تصفُ ذلك اليوم، بعد ذهاب ولدها إلى جبهة القتال، مضت ساعات تلوها ساعات، وهي تنتظر اتصال ولدها ليُطمئنها بوصولهِ مع إجازة العرس، وفجأةً رنّ الهاتف وإذا بخبرٍ صادمٍ، لقد استُشهد منتظر بانفجارِ سيارةٍ مفخخة كانت متجهة نحوهُ ورفاقه الثلاثة، ولمَّا سمعت هذا الخبر سَقطَ الهاتف من يدها، وراحت تجهشُ بالبكاء في دهشة من أمرها مما سمعتهُ.
التفتت هنا وهناك، علّها تجد شيئاً أو تسمع صوتاً يقول غير هذا، لكن دون جدوى، فقط صورة عقد القران التي كانت تملأ شاشة الموبايل، تأملتها طويلاً، شعرت بألم الحطام الذي وقعَ على قلبها، قبلَ لحظات، أيعقل كل ما اشتريتهُ يكون للعزاء؟! أألبس الأسود وبكفي مازالت الحناء؟! رباه لا أدري ماذا أقول لعروسه رحلَ ولن يعود أم انتظريه ما هي إلا أيام ويأتي؟!
وبينَما هي غارقة في بحرِ التساؤلات هذه، طُرقَ الباب بشدة، قامت لتفتحهُ وإذا بها تستقبلَ جنازة ولدها الوحيد لقد عادَ لها لكنَّهُ شهيد، ولما اقبلت نحو جثمانه المضرج بالدماء، انحنت عليه لتضمّهُ بين ذراعيها كما كانَ صغيراً، وبعد ذرف الدموع والقبلات، نهضت مِن الأرضِ تلملم بقايا قلبها المفجوع، وهي تتفوه ببعض الكلمات المملوءة بالحزن، حاولت أن تتحامل على نفسها أكثر من هذا، وأن تقتدي بسيدتها رملة حال فقدها القاسم (عليه السلام).
وفي الأثناء أخرجت شيئاً من تحت عباءتها، ورمت به على الجنازة، وهذا الشيء هو بدلة عرس منتظر مع باقة من الزهور، ثم رفعت صوتها المخنوق بالعبرة قائلة: مبارك لك يا ولدي زَفَافك إلى الآخرة