بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
بيعة يوم الغدير يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة:207)، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة/55). ذلك هو الإمام علي بن أبي طالب (ع)، الذي نحتفل بذكراه في هذا اليوم، الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وهو يوم الغدير، يوم الولاية. وهو اليوم الذي وقف فيه رسول الله (ص) خطيباً أمام المسلمين في الصحراء، وكانت الشمس شديدة الحرارة، وأخذ بيد علي (ع) ورفعها حتى بان بياض إبطيهما للناس، وقال، فيما روي عنه (ص): «أيُّها الناس! ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ ـ ثلاث مرات، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (الأحزاب/6)، وهذا هو دليل حاكمية النبي (ص)، لأنّ للنبي صفتين: صفة النبي المبشِّر والنذير، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًاْ}(الأحزاب/45-46)، وصفة الولاية على الأمة والحاكمية، التي تفرض على الأمة أن يطيعوه، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}(النساء/80) ـ قالوا: بلى، قال: اللّهمّ اشهد. ثم قال (ص): فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذلْ من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار». وانطلق المسلمون آنذاك، وعرفوا جميعاً أنّ النبي (ص) الذي كان في آخر آيامه لأنها كانت آخر حجة له وكانت حجة الوداع، قد نصّب علياً (ع) ولياً من بعده وخليفةً ووصياً وداعياً إلى الله سبحانه وتعالى. ورواية الغدير هذه، هي من الروايات التي رواها السنَّة والشيعة على السواء، وهي، بحسب ما ورد في بعض كتب أهل السنّة، من الروايات المتواترة التي يُقطع بأنّها رواية صحيحة ليس فيها شكّ ولا ريب. ولكن بعض الناس الذين لم يشككوا في أصل الرواية، حاولوا أن يفسّروا كلمة (المولى) بشكل لا ينسجم مع طبيعة الجوِّ آنذاك، فقال بعضهم: إنها تعني: من كنت محبه فعليُّ محبه، أو من كنت ناصره فعليٌّ ناصره، ولكن هذا التفسير يعتبر من التفاسير المثيرة للجدل، أو تفسيراً ساذجاً، حيث إنّه لا معنى لأن يجمع النبي (ص) المسلمين في الحرِّ الشديد ليقول لهم هذا، وخصوصاً أنه ابتدأ كلامه بالقول: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»، أي من كنت أولى به من نفسه، فعلي أولى به من نفسه، أو من كنت أملك الحاكمية عليه، فعلي يملك الولاية والحاكمية عليه. نتساءل هنا: لماذا اختار النبي (ص) علياً (ع)؟ حيث لم يكن اختياره نابعاً من حالة شخصية تجاه علي (ع)، بل إن الله سبحانه وتعالى أنزل إليه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(المائدة/67)، أي إن لم تنصِّب علياً في آخر حركة الرسالة، فكأنك لم تفعل شيئاً، مع أنّه (ص) كان قد بلّغ كلّ الرسالة. وعندما استجاب النبي (ص) لربه، أنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا}(المائدة/3). عليٌّ (ع) يتمثل برسول الله (ص) لماذا عليٌّ (ع)، وقد كان في المسلمين من هو أكبر سناً من علي، وكانوا يصاحبون رسول الله (ص)، إذ كان (ع) عند وفاة النبي (ص) في سن الثلاثين؟ ولدى دراسة المسألة، نجد أنّه لم يكن في المسلمين، عند كبيرهم وصغيرهم، من يملك من العلم والفضل والجهاد والشجاعة والإخلاص لله ولرسوله، ومن العيش مع رسول الله ليلاً ونهاراً، كما كان علي (ع). فنحن نعرف أنّ رسول الله (ص) قد أخذ علياً، وهو تقريباً في عمر السنتين، من أبيه أبي طالب، لأنّه كان كثير العيال، واحتضنه وربّاه، وعاش معه في الليل والنهار، حتى إن النبي (ص) عندما كان يخرج ليتعبَّد في غار حراء، كان يأخذ علياً (ع) معه، ولم تكن صحبة عليٍّ للنبي (ص) صحبة مربٍّ لطفل، بل كانت صحبة تربية وتعليم وتثقيف، وكان عليٌّ (ع) يقول، كما ورد في نهج البلاغة: «كان يُلقي إليّ في كل يوم خلقاً من أخلاقه، وكنت أتّبعه اتّباع الفصيل ـ فصيل الناقة ـ أثر أمه». فكان (ع) يقتدي برسول الله (ص) في كلّ ما يعطيه من تعاليم، ويتمثّله في كلّ سيرته، فكانت كلمته كلمته، وخطوته خطوته، وابتهالاته ابتهالاته، وأخلاقه أخلاقه، حتى إنه عندما نزل الوحي على رسول الله (ص)، كان (ع) يسمع الوحي، وعندما حدّث رسول الله عن ذلك، قال له: «إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، ولكنّك لست بنبي». وعندما أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله بالرّسالة، كان علي (ع) يعيش في بيت رسول الله (ص)، ولم يكن هناك إلا رسول الله وخديجة وعليٌّ ثالثهما، وهكذا كان عليٌّ (ع) أوّل من استجاب للإسلام، وبعض الناس يقولون: «إن علياً كان أول من أسلم من الصبيان»! يريدون أن ينـزلوا من مكانة إسلام علي. وعليّ (ع) كان صبياً في سنه، ولكنه كان كبيراً في عقله. وروي أنّه قيل لعلي (ع): لماذا لم تستشر أباك أبا طالب عندما أسلمت؟ ـ ولو استشاره لأشار عليه بذلك، لأنه كان في قمة إسلامه، بعكس ما يقوله بعض المسلمين إنه مات كافراً ـ قال (ع): إن الله عندما خلقني لم يستشر أبي، ولذلك لا أستشير أبي عندما أريد أن أتبع رسالة الله. علي (ع) فارس الإسلام كان عليٌّ في بيت رسول الله (ص)، فكان (ع) أوّل من عرف كلماته معنىً وفكراً وعقيدةً، ولذلك كان علي (ع) يعيش في مدرسة رسول الله (ص) في بيته، وكان يرافقه في مكة عندما يذهب إلى المسجد الحرام. وعندما كان مشركو قريش يغرون صبيانهم بالتعرض لرسول الله (ص)، كان علي يحامي عنه، بحيث إنه كان يعمد إلى الصبيان «فيجذب آذانهم»، حتى إنهم كانوا إذا رأوا علياً قالوا جاء «مُصلّب الآذان». وعندما هاجر رسول الله (ص)، أوكل إلى علي (ع) أن يبقى في مكة ليؤدي عنه أماناته التي أودعها الناس عنده، وقد فدى رسول الله (ص) بنفسه حين نام على فراشه ليوفر له الحماية من قريش التي كانت تتربص به لقتله، وبذلك غطى أمير المؤمنين خروج الرسول من مكة إلى المدينة. ويُروى أنّ زوجات النبي (ص) كنّ يعشن الغيرة من علي (ع)، لأنه كان يُشغل رسول الله عنهن. وانطلق المشركون في حربهم ضد الإسلام والمسلمين، كان علي (ع) الفارس الأول، فكان فارس بدر، ولم يكن قد تدرَّب على القتال، ولكنّه انطلق من خلال عقله الذي يستوعب كلَّ العلوم والتجارب مع رسول الله (ص)، ويقال إنّ علياً (ع) قتل نصف المشركين في بدر وشارك المسلمين في قتل النصف الباقي، حتى قال جبرائيل، كما روي: «لا فتى إلا علي، ولا سيف إلاّ ذو الفقار». وكان علي (ع) أيضاً فارس «أحد» و»الأحزاب»، حيث كان المشركون في تحالفهم مع اليهود يريدون القضاء على الإسلام والسيطرة على المدينة بكلِّ ما لديهم من قوة (ع)، {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (الأحزاب/10-11). وعندما تحدّى عمرو بن عبد ودّ المسلمين، كان فارساً من المشركين يعدّ بألف فارس، وكان النبي (ص) يقول: من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة. وكان علي (ع) وحده يقول: أنا له يا رسول الله، فيقول له: اجلس، حتى كرَّر النبي الكلام ثلاث مرات. وعندما انطلق علي، رفع النبي (ص) يديه إلى السماء وقال: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ} (الأنبياء/89)، وقال (ص): «برز الإسلام كله إلى الشرك كله»، فقد تمثّل الإسلام بعليّ (ع)، بحيث كانت المسألة أنّه إذا انتصر انتصر الإسلام به (ع)، وإذا قتل قتل الإسلام، بينما تجسّد الشرك بعمرو بن عبد ود، وقد استطاع علي (ع) القضاء على هذا الفارس المشرك. وهكذا انطلق علي (ع) في وقعة «حنين»، وفي كل معارك النبي (ص)، وقال له النبي (ص): «أنت مني بمنـزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»، «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، «علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار». علي (ع) ومسؤولية الإسلام وكان علي (ع) مع رسول الله (ص)، وكان بيت علي (ع) بيت رسول الله (ص)، حتى إنه زوّجه ابنته فاطمة، وقال (ص)، والمسلمون الذين خطبوا السيدة فاطمة الزهراء (ع) منه (ص) كثيرون: «لو لم يكن عليٌّ لما كان لفاطمة كفء»، حيث إن علياً وفاطمة كانا تلميذين لرسول الله، تعلَّما منه، فعند فاطمة ما هو عند علي (ع) من العلم، لأنّها عاشت في أحضان أبيها، حيث كانت ترعاه، حتى قال (ص) عنها إنّها: «أم أبيها». وهكذا كان علي (ع) وحده المؤهل لأن يكون الولي للمسلمين بعد رسول الله (ص)، لأنّه كان الأفضل والأعلم والأزهد والأتقى والأكثر جهاداً. وبعد رسول الله، عندما أبعد عن حقّه، رأى أنّه مسؤول عن الإسلام وهو خارج الخلافة كما هو مسؤول عنه لو كان داخل الخلافة. ولذلك أعطى الذين تقدموه والذين أبعدوه النصيحة والمعونة، لأنه كان يريد لهم أن يسيروا على الخط السليم، حتى قال الخليفة الثاني آنذاك: «لولا عليٌّ لهلك عمر». فقد كان الإسلام همَّ عليِّ (ع)، لأنّه تحمَّل مسؤولية الإسلام منذ طفولته وفي شبابه وكهولته، وهو القائل: «لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جورٌ إلا عليَّ خاصّةً». وقال (ع) عندما بويع: «لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاَّ يقاروا على كظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز». فلم يكن (ع) يفكر في الخلافة للدنيا، بل من أجل إحقاق الحق. وفي هذا قال ابن عباس: «دخلت على أمير المؤمنين (ع) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال (ع): والله لهي أحبُّ إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً». الولاية: ارتباط عقلي وروحي لقد ولد علي (ع) في الكعبة، واستشهد في بيت الله سبحانه وتعالى، لذلك عندما نقف في ذكرى ولايته (ع)، علينا أن نرتبط به ارتباط العقل والرّوح والقدوة والحياة، لأنّ علياً (ع) لا يسير بنا إلاّ إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإنّ علياً (ع) يمثِّل القمَّةَ الشامخة الرفيعة في كلِّ ما أراده الله سبحانه للإسلام أن يتحرَّك فيه. وعلى ضوء هذا، فإنّ علينا أن نقف في يوم الغدير لنبايع علياً (ع) في خطه، وفي كل ما أعطانا من علم وفكر وصلابة وصبر، وأن نقول: الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية علي بن أبي طالب (ع)، الحمد لله على إكمال الدين، الحمد لله على إتمام النعمة. ونقول له: يا أبا الحسن، إنّنا معك، إننا ندعو الله أن يوفّقنا لأن نقتدي بك، وأن نصبر كما صبرت، وأن نسير كما سرت، وأن نأخذ بالإسلام كما أخذت به، وأن نخلص لله سبحانه كما أخلصت، لأنك كنت تحب الله كما أحبه رسوله، وقد قال (ص): «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله». لقد أحببت الله وأحبّك الله، لأنّ حياتك كلّها كانت لله سبحانه وتعالى، ولم تكن حياتك لنفسك. فيا أمير المؤمنين، اشفع لنا عند الله، فإنّك قريب إلى الله سبحانه وتعالى. والسَّلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعثُ حيّاً.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
بيعة يوم الغدير يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة:207)، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة/55). ذلك هو الإمام علي بن أبي طالب (ع)، الذي نحتفل بذكراه في هذا اليوم، الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وهو يوم الغدير، يوم الولاية. وهو اليوم الذي وقف فيه رسول الله (ص) خطيباً أمام المسلمين في الصحراء، وكانت الشمس شديدة الحرارة، وأخذ بيد علي (ع) ورفعها حتى بان بياض إبطيهما للناس، وقال، فيما روي عنه (ص): «أيُّها الناس! ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ ـ ثلاث مرات، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (الأحزاب/6)، وهذا هو دليل حاكمية النبي (ص)، لأنّ للنبي صفتين: صفة النبي المبشِّر والنذير، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًاْ}(الأحزاب/45-46)، وصفة الولاية على الأمة والحاكمية، التي تفرض على الأمة أن يطيعوه، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}(النساء/80) ـ قالوا: بلى، قال: اللّهمّ اشهد. ثم قال (ص): فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذلْ من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار». وانطلق المسلمون آنذاك، وعرفوا جميعاً أنّ النبي (ص) الذي كان في آخر آيامه لأنها كانت آخر حجة له وكانت حجة الوداع، قد نصّب علياً (ع) ولياً من بعده وخليفةً ووصياً وداعياً إلى الله سبحانه وتعالى. ورواية الغدير هذه، هي من الروايات التي رواها السنَّة والشيعة على السواء، وهي، بحسب ما ورد في بعض كتب أهل السنّة، من الروايات المتواترة التي يُقطع بأنّها رواية صحيحة ليس فيها شكّ ولا ريب. ولكن بعض الناس الذين لم يشككوا في أصل الرواية، حاولوا أن يفسّروا كلمة (المولى) بشكل لا ينسجم مع طبيعة الجوِّ آنذاك، فقال بعضهم: إنها تعني: من كنت محبه فعليُّ محبه، أو من كنت ناصره فعليٌّ ناصره، ولكن هذا التفسير يعتبر من التفاسير المثيرة للجدل، أو تفسيراً ساذجاً، حيث إنّه لا معنى لأن يجمع النبي (ص) المسلمين في الحرِّ الشديد ليقول لهم هذا، وخصوصاً أنه ابتدأ كلامه بالقول: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»، أي من كنت أولى به من نفسه، فعلي أولى به من نفسه، أو من كنت أملك الحاكمية عليه، فعلي يملك الولاية والحاكمية عليه. نتساءل هنا: لماذا اختار النبي (ص) علياً (ع)؟ حيث لم يكن اختياره نابعاً من حالة شخصية تجاه علي (ع)، بل إن الله سبحانه وتعالى أنزل إليه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(المائدة/67)، أي إن لم تنصِّب علياً في آخر حركة الرسالة، فكأنك لم تفعل شيئاً، مع أنّه (ص) كان قد بلّغ كلّ الرسالة. وعندما استجاب النبي (ص) لربه، أنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا}(المائدة/3). عليٌّ (ع) يتمثل برسول الله (ص) لماذا عليٌّ (ع)، وقد كان في المسلمين من هو أكبر سناً من علي، وكانوا يصاحبون رسول الله (ص)، إذ كان (ع) عند وفاة النبي (ص) في سن الثلاثين؟ ولدى دراسة المسألة، نجد أنّه لم يكن في المسلمين، عند كبيرهم وصغيرهم، من يملك من العلم والفضل والجهاد والشجاعة والإخلاص لله ولرسوله، ومن العيش مع رسول الله ليلاً ونهاراً، كما كان علي (ع). فنحن نعرف أنّ رسول الله (ص) قد أخذ علياً، وهو تقريباً في عمر السنتين، من أبيه أبي طالب، لأنّه كان كثير العيال، واحتضنه وربّاه، وعاش معه في الليل والنهار، حتى إن النبي (ص) عندما كان يخرج ليتعبَّد في غار حراء، كان يأخذ علياً (ع) معه، ولم تكن صحبة عليٍّ للنبي (ص) صحبة مربٍّ لطفل، بل كانت صحبة تربية وتعليم وتثقيف، وكان عليٌّ (ع) يقول، كما ورد في نهج البلاغة: «كان يُلقي إليّ في كل يوم خلقاً من أخلاقه، وكنت أتّبعه اتّباع الفصيل ـ فصيل الناقة ـ أثر أمه». فكان (ع) يقتدي برسول الله (ص) في كلّ ما يعطيه من تعاليم، ويتمثّله في كلّ سيرته، فكانت كلمته كلمته، وخطوته خطوته، وابتهالاته ابتهالاته، وأخلاقه أخلاقه، حتى إنه عندما نزل الوحي على رسول الله (ص)، كان (ع) يسمع الوحي، وعندما حدّث رسول الله عن ذلك، قال له: «إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، ولكنّك لست بنبي». وعندما أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله بالرّسالة، كان علي (ع) يعيش في بيت رسول الله (ص)، ولم يكن هناك إلا رسول الله وخديجة وعليٌّ ثالثهما، وهكذا كان عليٌّ (ع) أوّل من استجاب للإسلام، وبعض الناس يقولون: «إن علياً كان أول من أسلم من الصبيان»! يريدون أن ينـزلوا من مكانة إسلام علي. وعليّ (ع) كان صبياً في سنه، ولكنه كان كبيراً في عقله. وروي أنّه قيل لعلي (ع): لماذا لم تستشر أباك أبا طالب عندما أسلمت؟ ـ ولو استشاره لأشار عليه بذلك، لأنه كان في قمة إسلامه، بعكس ما يقوله بعض المسلمين إنه مات كافراً ـ قال (ع): إن الله عندما خلقني لم يستشر أبي، ولذلك لا أستشير أبي عندما أريد أن أتبع رسالة الله. علي (ع) فارس الإسلام كان عليٌّ في بيت رسول الله (ص)، فكان (ع) أوّل من عرف كلماته معنىً وفكراً وعقيدةً، ولذلك كان علي (ع) يعيش في مدرسة رسول الله (ص) في بيته، وكان يرافقه في مكة عندما يذهب إلى المسجد الحرام. وعندما كان مشركو قريش يغرون صبيانهم بالتعرض لرسول الله (ص)، كان علي يحامي عنه، بحيث إنه كان يعمد إلى الصبيان «فيجذب آذانهم»، حتى إنهم كانوا إذا رأوا علياً قالوا جاء «مُصلّب الآذان». وعندما هاجر رسول الله (ص)، أوكل إلى علي (ع) أن يبقى في مكة ليؤدي عنه أماناته التي أودعها الناس عنده، وقد فدى رسول الله (ص) بنفسه حين نام على فراشه ليوفر له الحماية من قريش التي كانت تتربص به لقتله، وبذلك غطى أمير المؤمنين خروج الرسول من مكة إلى المدينة. ويُروى أنّ زوجات النبي (ص) كنّ يعشن الغيرة من علي (ع)، لأنه كان يُشغل رسول الله عنهن. وانطلق المشركون في حربهم ضد الإسلام والمسلمين، كان علي (ع) الفارس الأول، فكان فارس بدر، ولم يكن قد تدرَّب على القتال، ولكنّه انطلق من خلال عقله الذي يستوعب كلَّ العلوم والتجارب مع رسول الله (ص)، ويقال إنّ علياً (ع) قتل نصف المشركين في بدر وشارك المسلمين في قتل النصف الباقي، حتى قال جبرائيل، كما روي: «لا فتى إلا علي، ولا سيف إلاّ ذو الفقار». وكان علي (ع) أيضاً فارس «أحد» و»الأحزاب»، حيث كان المشركون في تحالفهم مع اليهود يريدون القضاء على الإسلام والسيطرة على المدينة بكلِّ ما لديهم من قوة (ع)، {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (الأحزاب/10-11). وعندما تحدّى عمرو بن عبد ودّ المسلمين، كان فارساً من المشركين يعدّ بألف فارس، وكان النبي (ص) يقول: من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة. وكان علي (ع) وحده يقول: أنا له يا رسول الله، فيقول له: اجلس، حتى كرَّر النبي الكلام ثلاث مرات. وعندما انطلق علي، رفع النبي (ص) يديه إلى السماء وقال: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ} (الأنبياء/89)، وقال (ص): «برز الإسلام كله إلى الشرك كله»، فقد تمثّل الإسلام بعليّ (ع)، بحيث كانت المسألة أنّه إذا انتصر انتصر الإسلام به (ع)، وإذا قتل قتل الإسلام، بينما تجسّد الشرك بعمرو بن عبد ود، وقد استطاع علي (ع) القضاء على هذا الفارس المشرك. وهكذا انطلق علي (ع) في وقعة «حنين»، وفي كل معارك النبي (ص)، وقال له النبي (ص): «أنت مني بمنـزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»، «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، «علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار». علي (ع) ومسؤولية الإسلام وكان علي (ع) مع رسول الله (ص)، وكان بيت علي (ع) بيت رسول الله (ص)، حتى إنه زوّجه ابنته فاطمة، وقال (ص)، والمسلمون الذين خطبوا السيدة فاطمة الزهراء (ع) منه (ص) كثيرون: «لو لم يكن عليٌّ لما كان لفاطمة كفء»، حيث إن علياً وفاطمة كانا تلميذين لرسول الله، تعلَّما منه، فعند فاطمة ما هو عند علي (ع) من العلم، لأنّها عاشت في أحضان أبيها، حيث كانت ترعاه، حتى قال (ص) عنها إنّها: «أم أبيها». وهكذا كان علي (ع) وحده المؤهل لأن يكون الولي للمسلمين بعد رسول الله (ص)، لأنّه كان الأفضل والأعلم والأزهد والأتقى والأكثر جهاداً. وبعد رسول الله، عندما أبعد عن حقّه، رأى أنّه مسؤول عن الإسلام وهو خارج الخلافة كما هو مسؤول عنه لو كان داخل الخلافة. ولذلك أعطى الذين تقدموه والذين أبعدوه النصيحة والمعونة، لأنه كان يريد لهم أن يسيروا على الخط السليم، حتى قال الخليفة الثاني آنذاك: «لولا عليٌّ لهلك عمر». فقد كان الإسلام همَّ عليِّ (ع)، لأنّه تحمَّل مسؤولية الإسلام منذ طفولته وفي شبابه وكهولته، وهو القائل: «لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جورٌ إلا عليَّ خاصّةً». وقال (ع) عندما بويع: «لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاَّ يقاروا على كظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز». فلم يكن (ع) يفكر في الخلافة للدنيا، بل من أجل إحقاق الحق. وفي هذا قال ابن عباس: «دخلت على أمير المؤمنين (ع) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال (ع): والله لهي أحبُّ إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً». الولاية: ارتباط عقلي وروحي لقد ولد علي (ع) في الكعبة، واستشهد في بيت الله سبحانه وتعالى، لذلك عندما نقف في ذكرى ولايته (ع)، علينا أن نرتبط به ارتباط العقل والرّوح والقدوة والحياة، لأنّ علياً (ع) لا يسير بنا إلاّ إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإنّ علياً (ع) يمثِّل القمَّةَ الشامخة الرفيعة في كلِّ ما أراده الله سبحانه للإسلام أن يتحرَّك فيه. وعلى ضوء هذا، فإنّ علينا أن نقف في يوم الغدير لنبايع علياً (ع) في خطه، وفي كل ما أعطانا من علم وفكر وصلابة وصبر، وأن نقول: الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية علي بن أبي طالب (ع)، الحمد لله على إكمال الدين، الحمد لله على إتمام النعمة. ونقول له: يا أبا الحسن، إنّنا معك، إننا ندعو الله أن يوفّقنا لأن نقتدي بك، وأن نصبر كما صبرت، وأن نسير كما سرت، وأن نأخذ بالإسلام كما أخذت به، وأن نخلص لله سبحانه كما أخلصت، لأنك كنت تحب الله كما أحبه رسوله، وقد قال (ص): «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله». لقد أحببت الله وأحبّك الله، لأنّ حياتك كلّها كانت لله سبحانه وتعالى، ولم تكن حياتك لنفسك. فيا أمير المؤمنين، اشفع لنا عند الله، فإنّك قريب إلى الله سبحانه وتعالى. والسَّلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعثُ حيّاً.