بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
القصيدة
القريض
أيُّ يومٍ دهى الهدى بمصابِ نُسفتْ فيه شامخاتُ الهضابِ
يومَ سارَ الحسينُ من طيبةَ في خيرِ سَفْرٍ من رهطهِ والصّحابِ
هجرَ الدارَ قد سرى كابنِ عِمرا نَ من الليلِ يرتديِ بإهابِ
يقطعُ الوعرَ مثل ما يقطعُ البدْ رُ عسراهُ من خلالِ السَّحابِ
بنساء كأن صبرها الشمّ مثل رملى وزينبٍ وربابِ
ونجوم من صبيَةٍ وصغارٍ طلعتْ في هوادجٍ كالقبابِ
تتهادى بها هوادٍ كآطا مِ قصور ملثمة الأعتابِ
هو أمَّ يوم فرَّ من حرم اللـ ـهِ إلى دار نُزحةٍ واغترابِ
تترامى به القفارُ كحيرا نَ يجوبُ الدُجى بأرضِ خرابِ
ليس يدري يأوي إلى أي أرضٍ أبصنعاء أم بروسِ الشعابِ؟
ترك الجوارَ جوارَ جدِّ هادٍ لَمَّ ذكرى لسُنةٍ وكتاب
(فائزي):
حمّلْ اضعونه من المدينة بوعلي وشال ويّاه صفوه من هله شيّالة أحمال
حمّلْ اضعونه من المدينه وشال بالليل ويّاه صفوة من هله شدّت على الخيل
وزينب تعاين للوطن وادموعها تسيل تنادي ابجمعنه انعود لو يتبدّل الحال
ليشٍ يا زينب عندك رجال وتخافين قبل المصيبه بالهضم والذل تحسّين
اشلون حالِك لو مشوا كلهم عن حسين تالي العشيره حسين ظلّ متوسدّ رمال
وانتي تنِّخين الأهل والكل على القاع كلهم نشامه واخوتِك حلوين الاطباع
لكن يا زينب ما نهض للحرم فزّاع يحمي الخيمَ في كربلا ويردِّ الانذال
(نعي): خرجنا بشملنه من المدينه والناس كانوا حاسدينه
ولرض كربلا لمن لفينه أخونه انذبح واحنه انسبينه
يدرون اهلنه اشصار بينه بديرة غرب شنهو حكينه
وعباس حمايّ الظعينه عالعلقمي مقطّعين ادينه
(أبو ذيّة):
اقضّي بالحزن يومي وابيته عفت العيش عالذله وأبيته
شال حسين عن داره وبيته بليل وظلِّت دياره خليّه
جاء في وصية الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمد بن الحنفية:
"إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب"1.
مما يميّز نهضة الإمام الحسين عليه السلام، إنها نهضة أربكت الحكم الأموي آنذاك بخصائصها المتفردة، فإن زعيمها هو ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن علي أمير المؤمنين عليه السلام وابن فاطمة الزهراء عليه السلام وأخو الإمام الحسن عليه السلام، وقد نزلت فيه آيات قرآنية كريمة، وجاءت في حقّه أحاديث اشتهرت بين المسلمين، قالها جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. فكان للحسين عليه السلام منزلة لا تضاهيها منزلة أخرى، وموقع لا ينافسه موقع آخر، ديني أو اجتماعي في الأمة الإسلامية ومن الصحابة مهاجرين وأنصاراً فضلاً عن أبنائهم.
كما وتميزّت هذه النهضة الخالدة، بمشروعها الذي هو المشروع الإسلامي الأصيل المنطلق من القرآن الكريم والسنة المطهرة للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ومدرسة أهل البيت عليه السلام، تلك السنة التي أراد الطغاة الأمويون طمسها
وتشويهها، فنهض الحسين عليه السلام يبيّن الناس سنة جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حتى إنه دعا إلى مؤتمر عام في مكة المكرمة قبل موت معاوية وتنصيب يزيد خليفة له، مؤتمر دعا إليه كبار الصحابة والتابعين، فما ترك شيئاً من آية قرآنية كريمة نزلت في أهل البيت عليه السلام أو حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله في فضلهم، إلاّ وذكره فكان الصحابي يقول: أشهد أني قد سمعت ذلك من رسول الله، وكان التابعي يردد بعده: إني سمعت ممن أثق به أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فكانت نهضة الحسين عليه السلام نهضة منطلقة من منبع الإسلام الأصيل. ولا يستطيع أحد أن يزايد الإمام الحسين عليه السلام على نقاء الهدف وصدق الفكرة ووضوح المبدأ. ولهذا قالها الحسين عليه السلام صريحةٍ: "أريد أن أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب".
ومما يميز هذه النهضة الحسينية المباركة، تحركها من موقع لآخر، وهجرتها من أرض لأخرى. فلا يكاد المناوؤن يخططون للإيقاع بهذه النهضة ورموزها ولا سيما الإمام الحسين عليه السلام في مكان، ألاّ ويتفاجؤون بتحركها إلى مكان آخر.
ولو أننا تصورنا أن الحسين عليه السلام بقي في المدينة المنورة، ولم يهاجر إلى مكة أولاً ثم إلى العراق ثانياً حتى شهادته، فماذا يمكننا أن نتوقع من تطورات وأحداث؟
إن الحسين عليه السلام لن يبايع يزيد أبداً، كما أكّد ذلك عليه السلام للعديد من الناس وفي مناسبات مختلفة، ومنها ما قاله لأبناء عمومته وإخوته، إنه لن يبايع يزيد حتى إذا لم يبق في الأرض له ملجئاً. هذا أولاً.
وثانياً: إن الأمويين لن يدعوا الحسين إما أن يبايع أو يقتل، إذن لا بدّ من
المواجهة مع الحسين داخل المدينة، ولا نتصوّر أن الناس كانوا مؤهلين للوقوف مع الحسين عليه السلام آنذاك. المدينة التي لم يخرج منها أحدٌ مهاجراً مع الحسين عليه السلام، وكذلك أهل مكة، يقول ابن عساكر الدمشقي في تاريخ دمشق: لما خرج الحسين من مكة كان معه ستون شيخاً من أهل الكوفة كانوا قد قدموا إليها لما سمعوا بخروج الحسين وقد قتلوا معه بكربلاء.
وبهذا فإن الصورة الأرجح أن الحسين عليه السلام سوف ينازل القوم بأهل بيته والمخلصين له ـ وهم قليل ـ ثم تنتهي المعركة، دون أن يحدث ذلك الدويّ الكبير والصدى الهائل الذي حدث لاستشهاده عليه السلام بكربلاء، ثم ما قامت به السبايا من النساء والأطفال من أدوار تبليغيّة وإعلامية كبيرة ومؤثرة في العالم الإسلام آنذاك، حتى بكى المسلمون لمقتل الحسين في الكوفة ثم الشام حتى المدينة، مع كل القرى التي مرّ بها ركب السبايا، بعد أن تتوضح له الحقائق وتكشف المواقف.
هذا كله، على احتمال وقوع معركة في المدينة المنورة، إذ من المحتمل أن تتم تصفية الحسين عليه السلام عبر عملية اغتيال إما معروفة ومكشوفة، أو عملية اغتيال عابرة. وقد تسجّل القضية ضد مجهول، ولا يترك دم الحسين عليه السلام وشهادته ما يؤملّ منها ويُرتجى.
إذاً كانت الميزة الثالثة والمهمة لنهضة الحسين عليه السلام، عدم بقائها في مكان واحد وعدم تقيدّها في بُعد جغرافي محدّد، بل كانت المواقع تتبدّل حسب تغير الأوضاع ومتطلبات التحركات.
لقد كان الإمام الحسين مهتماً جداً بأن يوصل صوته إلى أوسع دائرة ممكنة وهذا الأمر لا يتم إلا مع هجرته عليه السلام خارج المدينة. إن الحسين لم يبق في المدينة المنورة إلا ليلتين فقط بدأ التطور الهائل بوصول خبر وفاة معاوية من الشام إلى الحجاز.
وهجرة الحسين عليه السلام هي امتداد لهجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبلة فالهدف بينهما واحد وهو نصرة دين الله تعالى، والدفاع عن قيم القرآن الكريم، ومفاهيم الإسلام العظيم.
وكما أن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة قد أحدثت تغيّراً كبيراً في واقع الدعوة الإسلامية آنذاك، حيث انتقل المسلمون من موقع إلى موقع أقوى ومن ظرف إلى ظرف أشد على أعداء الله والإنسان. لقد كان المسلمون قبل الهجرة أمه مستضعفه معذبَّة مضطهدة، يعذبون في ساحات مكة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمرّ على المؤمنين المعذبّين يوصيهم بالصبر، ولا تزال مقالته صلى الله عليه وآله وسلم لعمار بن ياسر رضي الله عنه وأبيه ياسر وأمه سميّة رضوان الله عليها، لا تزال مقالة خالدة: "صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة"2، وبعد الهجرة، نجد أن هؤلاء المهاجرين المستضعفين يطاردون صناديد قريش في واقعة بدر، حتى جلس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على صدر الطاغية أبي جهل وحزّ رأسه بسيفه وجاء به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فسجد شاكراً لله.
إن الهجرة تعني تغيراً في مواقع العمل للإسلام من موقع إلى موقع أكثر عطاءً وتأثيراً وحرية في الحركة والدعوة إلى الله تعالى.
وقد سبق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنبياء كثيرون كانوا قد هاجروا، فإبراهيم عليه السلام كان مهاجراً حيث هاجر من مسقط رأسه أور في جنوب العراق إلى الشام ومصر والحجاز، وكذلك هاجر معه لوط عليه السلام. وكان موسى قد هاجر بقومه من مصر واجتاز بهم اليمّ، وكان من ألقاب عيسى بن مريم عليه السلام المسيح أي من السياحة وهي الانتقال من محل لآخر هداية للناس ودعوة إلى الدين القويم.
وإننا بحاجة إلى أن نعيش الهجرة ليس كحدث تاريخي فقط، بل كمفهوم تغييري في حياتنا ومواقفنا، إذ علينا أن نهجر السلبي في مواقفنا إلى الايجابي، نهجر الذنوب والمعاصي نتوب إلى الله، والتوبة هي هجرة إلى الله تعالى، نهجر التقاطع فنصل أرحامنا، فصلت الأرحام هي هجرة إلى الله تعالى، نهجر التواكل فنعمل ونكد وننتج، والعمل والعطاء هجرة إلى الله تعالى. لنجعل من بداية السنة الهجرية، بداية للتغيير نحو الأفضل والأحسن في علاقتنا مع الله تعالى، وفي علاقتنا مع أنفسنا، وفي علاقتنا مع الآخرين، لنجعل من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم هجرة سبطه الإمام الحسين عليه السلام باعثاً لنا للهجرة إلى الموقع الأفضل والموقف الأفضل والخلق الأفضل والتعامل الأفضل.
لقد كانت هجرة الحسين عليه السلام سنة نبوية، أي أنه عليه السلام استنّ بسنة جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، النبي هاجر من مكة إلى المدينة، ولكن الحسين هاجر من المدينة إلى مكة، بعد جملة تغييرات سريعة حدثت منذ أن وصل كتاب من يزيد إلى واليه على المدينة الوليد بن عُقبة بن أبي مُعيط، يدعوه فيه إلى أخذ البيعة ليزيد من أهل المدينة عامة، وأن يؤكد على أخذها من الحسين عليه السلام وإن أبى يقطع عنقه.
وكان الحسين عليه السلام جالساً مع عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير في مسجد جدّه صلى الله عليه وآله وسلم لمّا جاءهم رسول الوالي يدعوهم إلى قصر الإمارة ليلاً.
فقال ابن الزبير للحسين عليه السلام: "ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟
فأجابه الإمام عليه السلام: "أظن أن طاغيتهم قد هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشوا في الناس الخبر".
فكان كما توقع عليه السلام أما مواقف الثلاثة فقد كانت متباينة، فعبد الله بن
عمر قال: إني أدخل بيتي متى بايع الناس بايعت!
وأما عبد الله بن الزبير فقد خرج هارباً باتجاه مكة في تلك الساعة ومعه أخوه جعفر سالكاً طريقاً فرعيّاً. لكن الحسين عليه السلام قال: أجمع فتياني الساعة ثم أمشي إليه. فلما حذّره ابن الزبير، قال عليه السلام: لا آتيه الأوان على الامتناع، أي أني أكون قادراً عن أن امتنع منه إذا أراد الاعتداء عليّ.
وهكذا جرت الأمور حيث دخل الحسين عليه السلام دار الإمارة وترك فتيته مسلحين على بابها، وأوصاهم إذا سمعوا صوت قد علا أو دعاهم أن يهجموا الدار.
ودخل الحسين عليه السلام فوجد الوليد الوالي، وعنده مروان بن الحكم...
ثم أن الوالي أخبر الإمام الحسين عليه السلام بوفاة معاوية، فاسترجع الحسين، ثم قال له: ولماذا دعوتني؟ فقال: دعوتك للبيعة!
فبادره الحسين عليه السلام قائلاً: إن مثلي لا يبايع سراً، ولا يجتزئ بها مني سراً، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم، كان الأمر واحداً. فقال الوليد: أجل، انصرف إذا شئت على اسم الله، حتى تأتينا مع جماعة الناس.
وإذا بمروان يقول؛ والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع، لا قدرت منه على مثلها أبداً، حتى تكثر القتلى بينكم وبينه (وهو لا يعلم أن الحسين جاء بفتيانه مسلحين على باب الدار). احبسن الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه!
فوثب الحسين عليه السلام قائلاً: "أنت تقتلني أم هو كذبت والله ولؤمت! ثم أقبل على الوليد الوالي مخاطباً: "أيها الأمير، إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل
فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة معلناً بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، كلنا نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة والبيعة"3!
ثم دخل فتية الحسين وأخرجوه، فقال مروان للوليد: عصيتني، لا والله لا يمكنّك مثلها من نفسه أبداً.
فقال له الوليد: ويحك، أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي، والله ما أحب أن أملك الدنيا بأسرها، وإني قتلت حسيناً، سبحان الله أأقتل الحسين أن قال: لا أبايع! والله ما أظن أحداً يلقى الله بدم الحسين إلاّ وهو خفيف الميزان، لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيّه وله عذاب أليم".
فرد عليه مروان مستهزئاً: إن كان هذا رأيك فقد أصبت، ولهذا فقد عزل الوليد بعد ذلك، وعيّن سعيد الأشدق محلّه.
وأما الحسين عليه السلام فإنه خرج من دار الإمارة إلى مسجد جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى قبره وقال: "السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن فاطمة، فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلفتني في أمّتك، فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم خذلوني ولم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك" ولم يزل راكعاً وساجداً حتى الصباح.
لقد كان الحسين عليه السلام يعلم أن ساعة فراقه جدّه ومدينة جده قد أزفت، وهذه الساعات تمرّ سريعاً، فهو عليه السلام يريد أن يتزوّد من الصلاة والدعاء وزيارة قبر جدّه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الليلة الثانية، وهي الليلة الأخيرة للحسين عليه السلام بالمدينة، حيث قضاها أيضاً بجوار قبر جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، حيث وقف أمام القبر الشريف حزيناً كئيباً يناجي ربه عند قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم أن هذا قبر نبيّك محمد،
وأنا ابن بنت محمد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إني أحبُ المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق هذا القبر ومن فيه، إلاّ ما اخترت لي ما هو لك رضا ولرسولك رضا".
ثم جعل يبكي عند القبر، حتى إذا كان قريباً من الصبح، وضع رأسه على القبر فأغفى، فإذا هو برسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه ومن خلفه، فجاء وضمّ الحسين إلى صدره، وقبّل بين عينيه وقال: "حبيبي يا حسين، كأني أراك عن قريب مرملاً بدمائك، مذبوحاً بأرض كربلاء، بين عصابة من أمتي، وأنت في ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تُروى، وهم في ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي...
فجعل الحسين عليه السلام في رؤياه ينظر إلى جدّه ويقول:
"يا جدّه، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنُيا فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك..."4.
ضمّني عندك يا جداه في هذا الضريح علنّي يا جدُّ من بلوى زماني استريح
ضاق بي يا جدُّ من رُحْبِ الفضا كل فسيح فعسى طود الأسى يندك بين الدكتين
أنت يا ريحانة القلب حقيق بالبلاء إنما الدنيا أعدت لبلاء النبلاء
لكن الماضي قليل بالذي قد أقبلا فاتخذ درعين من حزم وعزم سابغين
ستذوق الموت ظلماً ظامياً في كربلا وستبقى في ثراها ثاوياً منجدلا
وكأني بلئيم الأصل شمرٍ قد علا صدرك الطاهر بالسيف يحزّ الودجين
وكأني بالأيامى من بناتي تستغيث سُغّباً تستعطف القوم وقد عزّ المغيث
قد برى أجسامهن الضربُ والسيرُ الحثيث بينها السجّاد بالاصفاد مغلول اليدين
(نصاري)
وصل ويلى قبر جدّه وبكى حسين يودعه والدمع يهمل من العين
هوى فوق الضريح وصاح صوتين يجدي مفارقك غصباً عليه
يجدي بوسط لحدك ضمني وياك تراني الضيم شفته عقب عيناك
يقلّه يا حبيبي وعدك إهناك تروح وتنذبح بالغاضريه
تروح وتنذبح يحسين عطشان وتبقه أعلى الأرض مطروح عريان
يظل جسمك لصد الخيل ميدان ولا تبقه من ظلوعك بقيّه
ثم أنه عليه السلام انتبه من نومه، ثم بادر إلى وداع قبر أمه فاطمة الزهراء عليه السلام وأخيه الحسن عليه السلام فودعهما في جوف الليل. ثم عاد الحسين إلى بيته فقصّ رؤياه على أهل بيته، وبني عبد المطلب، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق الأرض ولا في مغربها قومٌ أشدُّ غمّاً من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أكثر باكٍ وباكية منهم.
ثم أن الحسين عليه السلام أخذ يهيئ نفسه وأهله للرحيل، ومغادرة وطن جدّه حيث ذكريات النبوة ومهبط الوحي، وبيت فاطمة وعلي، وملاعب الطفولة وأيام الصبا، والأهل والعشيرة والأحبة.
وتذكر بعض الأخبار أن طفلة عليلة كانت للحسين عليه السلام تسمى فاطمة وتلقّب بالعليلة، منع مرضها الحسين أن يأخذها معه، بل تركها وديعة عند أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها.
فلم تستطع هذه الطفلة تحمّل ما سمعت، كيف تُترك وحدها ودار أبيها ودور أعمامها وأخوتها خالية موحشة، وأين تتجه وإلى من تشكو حالها وعلتها؟ وكيف تقوى على تحمّل فراقهم والتصبّر على جمر غربتهم.
فأخذت تتوسل بأبيها الحسين أن يأخذها مع أهلها وأحبتها:
(نصاري) يبويه حسين ويّاكم اخذوني عقبكم يا هلي يعمن عيوني
وحدي بها لوطن لا تخلوّني عليلة والجسم يلّظم بالسمّ
فحاول الحسين عليه السلام بيان صعوبة السفر عليها وأنهم سيبعثون عليها إذا استقر بهم المقام وجاءت لهم الأيام بما يتمنون ويرجون:
ناداها الحسين ودمعته تسيل يبعد أهلي سفرنا دربه اطويل
يبويه انتي عليله وجسمك نحيل وعلى المثلك يبويه السفر يحرم
يبويه رديّ وتميّ ابها لدار وكل يوم اليمر نبعثلك أخبار
يبويه لو شفت لينه الفلك دار تجينه انتي وشملنه هناك يلتم
تقله شلون أتمْ بالدار وحدي عليكم ما اقدر اصبر وحق جدّي
يبويه عاد خلّي الطفل عندي يسر قلبي امتشوفنه ايبتسم
ثم سار الركب الحزين وهي تنتقل من هودج لهودج ومن محمل لمحمل تتوسل وتبكي، فضمتها إليها أم سلمة واختلطت دموعها بدموعها.
ولما رجعت إلى بيت أبيها الحسين، وجدته خالياً موحشاً حزيناً كئيباً، ينعى نزّاله، ويبكي عُمّاره، فهاج بها الحزن، وتحادرت دموعها على خديها؛ وأخذت تبحث عمن يرسل إلى أهلها رسالة منها، بعد أن طال غيابهم، وازدادت فرقتهم، وعظمت بذلك مصيبتهم،
(نعي)
وين الذي ياخذلي كتاب بيه البواكي وبيه العتاب
للخلّوا عيوني على الباب ما عليّ ودوَّا شنهو الأسباب
ظليت احسّب ميّة حساب مدري اشصار بهلي الغيّاب.
لحدّ يلوم القلب لو ذاب
(تخميس)
يا عاذليّ اقطعوا ما عندكم ودعوا ابكي على مَن بقلبي حبَّهم طبعوا
غابوا وعن ناظري طيب الكرى منعوا نذرٌ عليّ لئن عادوا وإن رجعوا
لازرعنّ طريق الطف ريحانا
(بيت التخلّص)
اترى يعود لي الزمان بقربكم هيهات ما للقربِ من ميعادِ
--------------------
هوامش
1- إحقاق الحق، للتستري، ج11، ص600.
2- المجموع محي الدين النوري، ج1، ص81.
3- كلمات الإمام الحسين عليه السلام للقرشي، ص382.
4- بحار الأنوار، ج44، ص423.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
القصيدة
القريض
أيُّ يومٍ دهى الهدى بمصابِ نُسفتْ فيه شامخاتُ الهضابِ
يومَ سارَ الحسينُ من طيبةَ في خيرِ سَفْرٍ من رهطهِ والصّحابِ
هجرَ الدارَ قد سرى كابنِ عِمرا نَ من الليلِ يرتديِ بإهابِ
يقطعُ الوعرَ مثل ما يقطعُ البدْ رُ عسراهُ من خلالِ السَّحابِ
بنساء كأن صبرها الشمّ مثل رملى وزينبٍ وربابِ
ونجوم من صبيَةٍ وصغارٍ طلعتْ في هوادجٍ كالقبابِ
تتهادى بها هوادٍ كآطا مِ قصور ملثمة الأعتابِ
هو أمَّ يوم فرَّ من حرم اللـ ـهِ إلى دار نُزحةٍ واغترابِ
تترامى به القفارُ كحيرا نَ يجوبُ الدُجى بأرضِ خرابِ
ليس يدري يأوي إلى أي أرضٍ أبصنعاء أم بروسِ الشعابِ؟
ترك الجوارَ جوارَ جدِّ هادٍ لَمَّ ذكرى لسُنةٍ وكتاب
(فائزي):
حمّلْ اضعونه من المدينة بوعلي وشال ويّاه صفوه من هله شيّالة أحمال
حمّلْ اضعونه من المدينه وشال بالليل ويّاه صفوة من هله شدّت على الخيل
وزينب تعاين للوطن وادموعها تسيل تنادي ابجمعنه انعود لو يتبدّل الحال
ليشٍ يا زينب عندك رجال وتخافين قبل المصيبه بالهضم والذل تحسّين
اشلون حالِك لو مشوا كلهم عن حسين تالي العشيره حسين ظلّ متوسدّ رمال
وانتي تنِّخين الأهل والكل على القاع كلهم نشامه واخوتِك حلوين الاطباع
لكن يا زينب ما نهض للحرم فزّاع يحمي الخيمَ في كربلا ويردِّ الانذال
(نعي): خرجنا بشملنه من المدينه والناس كانوا حاسدينه
ولرض كربلا لمن لفينه أخونه انذبح واحنه انسبينه
يدرون اهلنه اشصار بينه بديرة غرب شنهو حكينه
وعباس حمايّ الظعينه عالعلقمي مقطّعين ادينه
(أبو ذيّة):
اقضّي بالحزن يومي وابيته عفت العيش عالذله وأبيته
شال حسين عن داره وبيته بليل وظلِّت دياره خليّه
جاء في وصية الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمد بن الحنفية:
"إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب"1.
مما يميّز نهضة الإمام الحسين عليه السلام، إنها نهضة أربكت الحكم الأموي آنذاك بخصائصها المتفردة، فإن زعيمها هو ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن علي أمير المؤمنين عليه السلام وابن فاطمة الزهراء عليه السلام وأخو الإمام الحسن عليه السلام، وقد نزلت فيه آيات قرآنية كريمة، وجاءت في حقّه أحاديث اشتهرت بين المسلمين، قالها جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. فكان للحسين عليه السلام منزلة لا تضاهيها منزلة أخرى، وموقع لا ينافسه موقع آخر، ديني أو اجتماعي في الأمة الإسلامية ومن الصحابة مهاجرين وأنصاراً فضلاً عن أبنائهم.
كما وتميزّت هذه النهضة الخالدة، بمشروعها الذي هو المشروع الإسلامي الأصيل المنطلق من القرآن الكريم والسنة المطهرة للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ومدرسة أهل البيت عليه السلام، تلك السنة التي أراد الطغاة الأمويون طمسها
وتشويهها، فنهض الحسين عليه السلام يبيّن الناس سنة جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حتى إنه دعا إلى مؤتمر عام في مكة المكرمة قبل موت معاوية وتنصيب يزيد خليفة له، مؤتمر دعا إليه كبار الصحابة والتابعين، فما ترك شيئاً من آية قرآنية كريمة نزلت في أهل البيت عليه السلام أو حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله في فضلهم، إلاّ وذكره فكان الصحابي يقول: أشهد أني قد سمعت ذلك من رسول الله، وكان التابعي يردد بعده: إني سمعت ممن أثق به أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فكانت نهضة الحسين عليه السلام نهضة منطلقة من منبع الإسلام الأصيل. ولا يستطيع أحد أن يزايد الإمام الحسين عليه السلام على نقاء الهدف وصدق الفكرة ووضوح المبدأ. ولهذا قالها الحسين عليه السلام صريحةٍ: "أريد أن أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب".
ومما يميز هذه النهضة الحسينية المباركة، تحركها من موقع لآخر، وهجرتها من أرض لأخرى. فلا يكاد المناوؤن يخططون للإيقاع بهذه النهضة ورموزها ولا سيما الإمام الحسين عليه السلام في مكان، ألاّ ويتفاجؤون بتحركها إلى مكان آخر.
ولو أننا تصورنا أن الحسين عليه السلام بقي في المدينة المنورة، ولم يهاجر إلى مكة أولاً ثم إلى العراق ثانياً حتى شهادته، فماذا يمكننا أن نتوقع من تطورات وأحداث؟
إن الحسين عليه السلام لن يبايع يزيد أبداً، كما أكّد ذلك عليه السلام للعديد من الناس وفي مناسبات مختلفة، ومنها ما قاله لأبناء عمومته وإخوته، إنه لن يبايع يزيد حتى إذا لم يبق في الأرض له ملجئاً. هذا أولاً.
وثانياً: إن الأمويين لن يدعوا الحسين إما أن يبايع أو يقتل، إذن لا بدّ من
المواجهة مع الحسين داخل المدينة، ولا نتصوّر أن الناس كانوا مؤهلين للوقوف مع الحسين عليه السلام آنذاك. المدينة التي لم يخرج منها أحدٌ مهاجراً مع الحسين عليه السلام، وكذلك أهل مكة، يقول ابن عساكر الدمشقي في تاريخ دمشق: لما خرج الحسين من مكة كان معه ستون شيخاً من أهل الكوفة كانوا قد قدموا إليها لما سمعوا بخروج الحسين وقد قتلوا معه بكربلاء.
وبهذا فإن الصورة الأرجح أن الحسين عليه السلام سوف ينازل القوم بأهل بيته والمخلصين له ـ وهم قليل ـ ثم تنتهي المعركة، دون أن يحدث ذلك الدويّ الكبير والصدى الهائل الذي حدث لاستشهاده عليه السلام بكربلاء، ثم ما قامت به السبايا من النساء والأطفال من أدوار تبليغيّة وإعلامية كبيرة ومؤثرة في العالم الإسلام آنذاك، حتى بكى المسلمون لمقتل الحسين في الكوفة ثم الشام حتى المدينة، مع كل القرى التي مرّ بها ركب السبايا، بعد أن تتوضح له الحقائق وتكشف المواقف.
هذا كله، على احتمال وقوع معركة في المدينة المنورة، إذ من المحتمل أن تتم تصفية الحسين عليه السلام عبر عملية اغتيال إما معروفة ومكشوفة، أو عملية اغتيال عابرة. وقد تسجّل القضية ضد مجهول، ولا يترك دم الحسين عليه السلام وشهادته ما يؤملّ منها ويُرتجى.
إذاً كانت الميزة الثالثة والمهمة لنهضة الحسين عليه السلام، عدم بقائها في مكان واحد وعدم تقيدّها في بُعد جغرافي محدّد، بل كانت المواقع تتبدّل حسب تغير الأوضاع ومتطلبات التحركات.
لقد كان الإمام الحسين مهتماً جداً بأن يوصل صوته إلى أوسع دائرة ممكنة وهذا الأمر لا يتم إلا مع هجرته عليه السلام خارج المدينة. إن الحسين لم يبق في المدينة المنورة إلا ليلتين فقط بدأ التطور الهائل بوصول خبر وفاة معاوية من الشام إلى الحجاز.
وهجرة الحسين عليه السلام هي امتداد لهجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبلة فالهدف بينهما واحد وهو نصرة دين الله تعالى، والدفاع عن قيم القرآن الكريم، ومفاهيم الإسلام العظيم.
وكما أن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة قد أحدثت تغيّراً كبيراً في واقع الدعوة الإسلامية آنذاك، حيث انتقل المسلمون من موقع إلى موقع أقوى ومن ظرف إلى ظرف أشد على أعداء الله والإنسان. لقد كان المسلمون قبل الهجرة أمه مستضعفه معذبَّة مضطهدة، يعذبون في ساحات مكة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمرّ على المؤمنين المعذبّين يوصيهم بالصبر، ولا تزال مقالته صلى الله عليه وآله وسلم لعمار بن ياسر رضي الله عنه وأبيه ياسر وأمه سميّة رضوان الله عليها، لا تزال مقالة خالدة: "صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة"2، وبعد الهجرة، نجد أن هؤلاء المهاجرين المستضعفين يطاردون صناديد قريش في واقعة بدر، حتى جلس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على صدر الطاغية أبي جهل وحزّ رأسه بسيفه وجاء به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فسجد شاكراً لله.
إن الهجرة تعني تغيراً في مواقع العمل للإسلام من موقع إلى موقع أكثر عطاءً وتأثيراً وحرية في الحركة والدعوة إلى الله تعالى.
وقد سبق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنبياء كثيرون كانوا قد هاجروا، فإبراهيم عليه السلام كان مهاجراً حيث هاجر من مسقط رأسه أور في جنوب العراق إلى الشام ومصر والحجاز، وكذلك هاجر معه لوط عليه السلام. وكان موسى قد هاجر بقومه من مصر واجتاز بهم اليمّ، وكان من ألقاب عيسى بن مريم عليه السلام المسيح أي من السياحة وهي الانتقال من محل لآخر هداية للناس ودعوة إلى الدين القويم.
وإننا بحاجة إلى أن نعيش الهجرة ليس كحدث تاريخي فقط، بل كمفهوم تغييري في حياتنا ومواقفنا، إذ علينا أن نهجر السلبي في مواقفنا إلى الايجابي، نهجر الذنوب والمعاصي نتوب إلى الله، والتوبة هي هجرة إلى الله تعالى، نهجر التقاطع فنصل أرحامنا، فصلت الأرحام هي هجرة إلى الله تعالى، نهجر التواكل فنعمل ونكد وننتج، والعمل والعطاء هجرة إلى الله تعالى. لنجعل من بداية السنة الهجرية، بداية للتغيير نحو الأفضل والأحسن في علاقتنا مع الله تعالى، وفي علاقتنا مع أنفسنا، وفي علاقتنا مع الآخرين، لنجعل من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم هجرة سبطه الإمام الحسين عليه السلام باعثاً لنا للهجرة إلى الموقع الأفضل والموقف الأفضل والخلق الأفضل والتعامل الأفضل.
لقد كانت هجرة الحسين عليه السلام سنة نبوية، أي أنه عليه السلام استنّ بسنة جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، النبي هاجر من مكة إلى المدينة، ولكن الحسين هاجر من المدينة إلى مكة، بعد جملة تغييرات سريعة حدثت منذ أن وصل كتاب من يزيد إلى واليه على المدينة الوليد بن عُقبة بن أبي مُعيط، يدعوه فيه إلى أخذ البيعة ليزيد من أهل المدينة عامة، وأن يؤكد على أخذها من الحسين عليه السلام وإن أبى يقطع عنقه.
وكان الحسين عليه السلام جالساً مع عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير في مسجد جدّه صلى الله عليه وآله وسلم لمّا جاءهم رسول الوالي يدعوهم إلى قصر الإمارة ليلاً.
فقال ابن الزبير للحسين عليه السلام: "ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟
فأجابه الإمام عليه السلام: "أظن أن طاغيتهم قد هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشوا في الناس الخبر".
فكان كما توقع عليه السلام أما مواقف الثلاثة فقد كانت متباينة، فعبد الله بن
عمر قال: إني أدخل بيتي متى بايع الناس بايعت!
وأما عبد الله بن الزبير فقد خرج هارباً باتجاه مكة في تلك الساعة ومعه أخوه جعفر سالكاً طريقاً فرعيّاً. لكن الحسين عليه السلام قال: أجمع فتياني الساعة ثم أمشي إليه. فلما حذّره ابن الزبير، قال عليه السلام: لا آتيه الأوان على الامتناع، أي أني أكون قادراً عن أن امتنع منه إذا أراد الاعتداء عليّ.
وهكذا جرت الأمور حيث دخل الحسين عليه السلام دار الإمارة وترك فتيته مسلحين على بابها، وأوصاهم إذا سمعوا صوت قد علا أو دعاهم أن يهجموا الدار.
ودخل الحسين عليه السلام فوجد الوليد الوالي، وعنده مروان بن الحكم...
ثم أن الوالي أخبر الإمام الحسين عليه السلام بوفاة معاوية، فاسترجع الحسين، ثم قال له: ولماذا دعوتني؟ فقال: دعوتك للبيعة!
فبادره الحسين عليه السلام قائلاً: إن مثلي لا يبايع سراً، ولا يجتزئ بها مني سراً، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم، كان الأمر واحداً. فقال الوليد: أجل، انصرف إذا شئت على اسم الله، حتى تأتينا مع جماعة الناس.
وإذا بمروان يقول؛ والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع، لا قدرت منه على مثلها أبداً، حتى تكثر القتلى بينكم وبينه (وهو لا يعلم أن الحسين جاء بفتيانه مسلحين على باب الدار). احبسن الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه!
فوثب الحسين عليه السلام قائلاً: "أنت تقتلني أم هو كذبت والله ولؤمت! ثم أقبل على الوليد الوالي مخاطباً: "أيها الأمير، إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل
فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة معلناً بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، كلنا نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة والبيعة"3!
ثم دخل فتية الحسين وأخرجوه، فقال مروان للوليد: عصيتني، لا والله لا يمكنّك مثلها من نفسه أبداً.
فقال له الوليد: ويحك، أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي، والله ما أحب أن أملك الدنيا بأسرها، وإني قتلت حسيناً، سبحان الله أأقتل الحسين أن قال: لا أبايع! والله ما أظن أحداً يلقى الله بدم الحسين إلاّ وهو خفيف الميزان، لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيّه وله عذاب أليم".
فرد عليه مروان مستهزئاً: إن كان هذا رأيك فقد أصبت، ولهذا فقد عزل الوليد بعد ذلك، وعيّن سعيد الأشدق محلّه.
وأما الحسين عليه السلام فإنه خرج من دار الإمارة إلى مسجد جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى قبره وقال: "السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن فاطمة، فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلفتني في أمّتك، فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم خذلوني ولم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك" ولم يزل راكعاً وساجداً حتى الصباح.
لقد كان الحسين عليه السلام يعلم أن ساعة فراقه جدّه ومدينة جده قد أزفت، وهذه الساعات تمرّ سريعاً، فهو عليه السلام يريد أن يتزوّد من الصلاة والدعاء وزيارة قبر جدّه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الليلة الثانية، وهي الليلة الأخيرة للحسين عليه السلام بالمدينة، حيث قضاها أيضاً بجوار قبر جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، حيث وقف أمام القبر الشريف حزيناً كئيباً يناجي ربه عند قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم أن هذا قبر نبيّك محمد،
وأنا ابن بنت محمد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إني أحبُ المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق هذا القبر ومن فيه، إلاّ ما اخترت لي ما هو لك رضا ولرسولك رضا".
ثم جعل يبكي عند القبر، حتى إذا كان قريباً من الصبح، وضع رأسه على القبر فأغفى، فإذا هو برسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه ومن خلفه، فجاء وضمّ الحسين إلى صدره، وقبّل بين عينيه وقال: "حبيبي يا حسين، كأني أراك عن قريب مرملاً بدمائك، مذبوحاً بأرض كربلاء، بين عصابة من أمتي، وأنت في ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تُروى، وهم في ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي...
فجعل الحسين عليه السلام في رؤياه ينظر إلى جدّه ويقول:
"يا جدّه، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنُيا فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك..."4.
ضمّني عندك يا جداه في هذا الضريح علنّي يا جدُّ من بلوى زماني استريح
ضاق بي يا جدُّ من رُحْبِ الفضا كل فسيح فعسى طود الأسى يندك بين الدكتين
أنت يا ريحانة القلب حقيق بالبلاء إنما الدنيا أعدت لبلاء النبلاء
لكن الماضي قليل بالذي قد أقبلا فاتخذ درعين من حزم وعزم سابغين
ستذوق الموت ظلماً ظامياً في كربلا وستبقى في ثراها ثاوياً منجدلا
وكأني بلئيم الأصل شمرٍ قد علا صدرك الطاهر بالسيف يحزّ الودجين
وكأني بالأيامى من بناتي تستغيث سُغّباً تستعطف القوم وقد عزّ المغيث
قد برى أجسامهن الضربُ والسيرُ الحثيث بينها السجّاد بالاصفاد مغلول اليدين
(نصاري)
وصل ويلى قبر جدّه وبكى حسين يودعه والدمع يهمل من العين
هوى فوق الضريح وصاح صوتين يجدي مفارقك غصباً عليه
يجدي بوسط لحدك ضمني وياك تراني الضيم شفته عقب عيناك
يقلّه يا حبيبي وعدك إهناك تروح وتنذبح بالغاضريه
تروح وتنذبح يحسين عطشان وتبقه أعلى الأرض مطروح عريان
يظل جسمك لصد الخيل ميدان ولا تبقه من ظلوعك بقيّه
ثم أنه عليه السلام انتبه من نومه، ثم بادر إلى وداع قبر أمه فاطمة الزهراء عليه السلام وأخيه الحسن عليه السلام فودعهما في جوف الليل. ثم عاد الحسين إلى بيته فقصّ رؤياه على أهل بيته، وبني عبد المطلب، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق الأرض ولا في مغربها قومٌ أشدُّ غمّاً من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أكثر باكٍ وباكية منهم.
ثم أن الحسين عليه السلام أخذ يهيئ نفسه وأهله للرحيل، ومغادرة وطن جدّه حيث ذكريات النبوة ومهبط الوحي، وبيت فاطمة وعلي، وملاعب الطفولة وأيام الصبا، والأهل والعشيرة والأحبة.
وتذكر بعض الأخبار أن طفلة عليلة كانت للحسين عليه السلام تسمى فاطمة وتلقّب بالعليلة، منع مرضها الحسين أن يأخذها معه، بل تركها وديعة عند أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها.
فلم تستطع هذه الطفلة تحمّل ما سمعت، كيف تُترك وحدها ودار أبيها ودور أعمامها وأخوتها خالية موحشة، وأين تتجه وإلى من تشكو حالها وعلتها؟ وكيف تقوى على تحمّل فراقهم والتصبّر على جمر غربتهم.
فأخذت تتوسل بأبيها الحسين أن يأخذها مع أهلها وأحبتها:
(نصاري) يبويه حسين ويّاكم اخذوني عقبكم يا هلي يعمن عيوني
وحدي بها لوطن لا تخلوّني عليلة والجسم يلّظم بالسمّ
فحاول الحسين عليه السلام بيان صعوبة السفر عليها وأنهم سيبعثون عليها إذا استقر بهم المقام وجاءت لهم الأيام بما يتمنون ويرجون:
ناداها الحسين ودمعته تسيل يبعد أهلي سفرنا دربه اطويل
يبويه انتي عليله وجسمك نحيل وعلى المثلك يبويه السفر يحرم
يبويه رديّ وتميّ ابها لدار وكل يوم اليمر نبعثلك أخبار
يبويه لو شفت لينه الفلك دار تجينه انتي وشملنه هناك يلتم
تقله شلون أتمْ بالدار وحدي عليكم ما اقدر اصبر وحق جدّي
يبويه عاد خلّي الطفل عندي يسر قلبي امتشوفنه ايبتسم
ثم سار الركب الحزين وهي تنتقل من هودج لهودج ومن محمل لمحمل تتوسل وتبكي، فضمتها إليها أم سلمة واختلطت دموعها بدموعها.
ولما رجعت إلى بيت أبيها الحسين، وجدته خالياً موحشاً حزيناً كئيباً، ينعى نزّاله، ويبكي عُمّاره، فهاج بها الحزن، وتحادرت دموعها على خديها؛ وأخذت تبحث عمن يرسل إلى أهلها رسالة منها، بعد أن طال غيابهم، وازدادت فرقتهم، وعظمت بذلك مصيبتهم،
(نعي)
وين الذي ياخذلي كتاب بيه البواكي وبيه العتاب
للخلّوا عيوني على الباب ما عليّ ودوَّا شنهو الأسباب
ظليت احسّب ميّة حساب مدري اشصار بهلي الغيّاب.
لحدّ يلوم القلب لو ذاب
(تخميس)
يا عاذليّ اقطعوا ما عندكم ودعوا ابكي على مَن بقلبي حبَّهم طبعوا
غابوا وعن ناظري طيب الكرى منعوا نذرٌ عليّ لئن عادوا وإن رجعوا
لازرعنّ طريق الطف ريحانا
(بيت التخلّص)
اترى يعود لي الزمان بقربكم هيهات ما للقربِ من ميعادِ
--------------------
هوامش
1- إحقاق الحق، للتستري، ج11، ص600.
2- المجموع محي الدين النوري، ج1، ص81.
3- كلمات الإمام الحسين عليه السلام للقرشي، ص382.
4- بحار الأنوار، ج44، ص423.