قال تعالى ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) الانبياء ٣٠ . ولو تأملنا لوجدنا أن الآية لم تحدد هل الحياة سببها الإرتواء من الماء أم العطش ..!! وأحسب أن الماء فيه حياة في الحالتين معاً ، بل قد تكون الحياة التي يهبها العطش أعظم وأقدس من حياة الإرتواء .
لأنه قد يتوقف على العطش حياة أمّة وبقاء دين ، وهذا ما يحدّثنا عنه القرآن المجيد في قصّة طالوت الملك الذي قاد بني اسرائيل لمواجهة جالوت ( الملك الفلسطيني ) الذي ظلمهم وأخرجهم من ديارهم وأبعدهم عن ابناءهم . فعندما قاد العسكر نحو المعركة وفي الطريق أخبرهم بأن الله سيمتحنهم بنهر ، ليتبين المطيع من العاصي ، ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ ) ، وكان امتحاناً عسيراً بسبب شدة العطش مع مقدار الجهد المبذول .
ولم ينجح بهذا الامتحان الا القليل ( فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۚ ) ، ولهذا نتج عنه منطقان ، الأول هو منطق الفاشلين ( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ ) ، أما المنطق الآخر هو منطق الذين نجحوا في الاختبار ( قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .
في الكافي عن الامام الباقر عليه السلام : فشربوا منه الا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، منهم من اغترف ومنهم من لم يشرب ، فلما برزوا لجالوت قال الذين اغترفوا ( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ) وقال الذين لم يغترفوا ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة .. ) .
فلاحظ كيف أحيا العطش هؤلاء الذين لم يشربوا الماء ، وبالتالي أحيا الله من خلالهم أمة وكتب لها النصر ..
ونفس هذا العطش كان سرّاً من أسرار عظمة عاشوراء وإحياءها للأمة على مدى الدهور والأزمان ، فالعباس عليه السلام وصل للنهر وكان بإمكانه أن يرتوي منه غير أنه منع نفسه من اغتراف حتى الغرفة الواحدة . تقول الرواية :
فجاء - العباس - إلى الحسين عليه السلام واستأذنه في القتال ، فقال ؏ له : انت حامل لوائي ، فقال : لقد ضاق صدري وسئمت الحياة ، فقال له الحسين ؏ : انْ عزمت فاستسق لنا ماءا ، فاخذ قربته وحمل على القوم حتى ملء القربة ، قالوا واغترف من الماء غرفة ثم ذكر عطش الحسين ؏ فرمى بها وقال :
يا نفس من بعد الحسين هوني * وبعده لا كنت ان تكوني
هذا الحسين وارد المنـــــــــون * وتشربين بارد المعيـــــن
والله ما هـذا فعال دينــــــــــي * ولا فعال صــادق اليقين
فلا غرو أن نقول أن الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء كان تجليّاً من تجليّات قوله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۗ ) هود 7 .
وعلى هذا المستوى من الوعي نفهم ايضاً ما ورد عن الإمام الباقر ؏ في تأويل الماء المعين في قوله تعالى ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ) الملك 30 ، بالإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف .
فللماء فهمه الخاص ووعيه العميق قرآنيّاً وفي كربلاء .
تعليق