بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
هي منزلة عظيمة جداً فإن للمنزلة حيثيات واعتبارات توجب ارتفاعها وتقتضي عظمتها: منها الأخوة والصحبة وهي أدناها، ومنها الفضل أو كمالات الشخص ومحاسن أخلاقه، ومنها الطاعة وغير ذلك.
فمن حيث الاُخوة والخدمة والإخلاص والمحبة وكمال الأدب فقد عرفت ذلك من الجزء الثاني وكذلك قد مضى ذكر خصاله الحميدة وسجاياه الفاضلة مما يوجب مزيد الرغبة في المتصف بها وتؤكد له القبول عند العظماء وذوء الشأنيه والمقدرة من الأقرباء فأكدت هذه الشمائل والأوصاف الممتازة في نفس سيد الشهداء الحسين (ع) محبة أخيه العبّاس الأكبر (ع) وأوجبت تقديمه على من سواه من الأصفياء والمخلصين وسائر الأحباء المتهالكين في محبته بالتفادي العظيم والتضحية الكريمة فضلاً عن بقية الأشقاء الكرام.
فإذا أنضمت هذه الفضائل المكتسبة إلى سجاياه المبرزة في جبلته وطبعه كالإبا والفروسية والسخاء والمقتبسة له من الهداة البررة أهل العصمة نحو العلم والبصيرة والتقوى والمروة والوفاء والصلاح والعفة وغير ذلك تجزم من غير شك ولا أرتياب أن للعباس عند أخيه الحسين السبط (ع) مكانة مكينة ومرتبة سامية ومحل رفيع؛ لأن الفضل يعرفه ذو الفضل فتعرف أن أختصاصه به أعظم أختصاص لا من ناحية الإخاء فقط بل من وجهة الفضائل، ولم يزل سير العقلاء ورأي حلماء العرب تفضيل مثل هذا الإخ على من سواه وتقديمه على غيره حسبما أتجهت به وجهه الفضائل الجمة والسجايا الفذة الغزيرة.
في أسرار الشهادة(1): في حديث فأتاه الحسين كالصقر إذا أنحدر على فريسته ففرقهم يميناً وشمالاً بعد أن قتل من المعروفين سبعين رجلاً فجاء نحو العباس (ع) وهو ينادي: وا أخاه! وا عباساه! الآن أنكسر ظهري وقلت حيلتي، ثم أنحنى عليه ليحمله ففتح العباس (ع) عينيه فرأى أخاه الحسين (ع) يريد أن يحمله فقال له: إلى أين تريد يا أخي؟ فقال: إلى الخيمة، فقال: يا أخي! بحق جدك رسول الله (ص) عليك أن لا تحمليني، دعني في مكاني هذ، فقال (ع) لماذا؟ قال: لأني مستح من أبنتك سكينة وقد وعدتها بالماء ولم آتها به، والثاني إني كبش كتيبتك ومجمع عددك فإذا رآني أصحابك وأنا مقتول فربما يقل عزمهم، فقال الحسين (ع): جزيت عن أخيك خيراً حيث نصرته حياً وميت، قال: فوضعه على مكانه ورجع إلى الخيمة يكفكف دموعه بكمه، فلما رأوه مقبلاً أتت إليه أبنته سكينة ولزمت عنان جواده وقالت: ياابتاه! هل لك علم بعمي العباس؟ أراه أبطاً وقد أوعدني بالماء وليس له عادة أن يخلف وعده، فهل شرب ماءاً وبل غليله ونسى ما ورائه؟ أم هو يجاهد الأعداء؟ فعندها بكى الحسين (ع) وقال: يابنتاه! إن عمك العباس قد قتل وبلغت روحه الجنان، فلما سمعت زينب (ع) صرخت ونادت: وا أخاه! وا عباساه! وا قله ناصراه! وا ضيعتنا بعدك! فقال لها الحسين (ع): إي والله وا ضيعتنا بعده! وإنقطاع ظهراه! فجعلت النساء يبكين ويندبن عليه، وبكى الحسين (ع) معهن ألخ.
وفي مصائب المعصومين(2): فأنقلب عن فرسه وصاح إلى أخيه الحسين (ع): أدركني، فقال الحسين (ع): الآن أنكسر ظهري وقلت حيلتي، فلما أتاه رآه صريعاً على شاطئ الفرات، فبكى ومثله في مقتل العوالم(3).
وقد رثاه بذلك الشعراء حاكين مقالة الحسين، فمنها قول بعضهم:
فمشى إليه السبط ينعاه كسرت الآ
ن ظهري يا أخي ومعيني
والسيد جعفر الحلي قال:
ما خلت بعدك ان تشل سوادي
وتكف باصرتي وظهري يقصم
وحقيق أن يكون فقد الأخ الكريم من قواصم الظهر لأنه العضد والساعد والناصر والمساعد، والعدة للحرب، والسلاح للكفاح، لم يرض العربي الصميم بأن يعد الأخ عوناً فقط ولا مسعداً فحسب بل ترقى وعده مع ذلك عدة للنوائب وسلاحاً للخطوب، وإن الوحيد المنفرد من الإخوة كالأعزل الذي لا سلاح له وهو في خطة الحرب وحومة ميدان القتال، فقال:
أخاك أخاك إن من لا أخاً له
كساع إلى الهيجا بغير سلاح
بيد أن مطمح الأنظار ومحط أفكار النبلاء من الإخوة من كان مستكملاً للصفات الجميلة ومستجمعاً للكمالات، ومن تتبع أحوال الرجال وسبر مزاياهم لم يجد نظيراً للعباس بن أميرالمؤمنين (ع) فإن له أكمل منزلة ورقى بمزاياه الرتبة العليا ونال الدرجة السامية، وما سطر في الجزء السابق من محاسنه ليبرهن على أنه الأسمى في أندية الفخار رتبة، والأعلى في صف المقدمين مرتبة، وكرسيه الأول في قاعات المفاخر، وله الصدر في منتدى الفضائل، ولذلك أذرى عليه الحسين (ع) وهو الصبور عبرته ورقرق وهو المتجلد دمعته أمام أعين الشامتين وبمرأى من الكاشحين، ومن دونه رتبة قد قال:
وتجلدي للشامتين اُريهمو
إني لريب الدهر لا أتضعضع
فما أرخص الحسين (ع) عليه دمعته الغالية إلا لعظمته، ولا بذل عبرته النفيسة إلا وهو أنفس شيء يعده الإنسان المحترم، وقد كان (ع) اولى من الحمداني بقوله:
لقد كنت أولى منك بالدمع حسرة
ولكن دمعي في الحوادث غالي
وصبر الحسين (ع) وتجلده في كل مأساة وفادحة ونكبة مؤلمة مما لا يصل إليه الواصل ولا تستطيع تلمسه يد المتناول، وقد قيل فيه:
لله درك ياصبور على الأذى
ولأنت أقدر قادر يتخلص
لكن جلالة الفقيد وعظمة الراحل أجرت تلك العبرات العزيزة وأرسلت تلك الدمعة الغالية كما أجرت مدامع سيد الكائنات رسول الله (ص) أصبر الخلق على المصائب وأجلدهم عند صدمات النوائب مصيبة عمه حمزة يوم اُحد، ومصيبة أبن عمه جعفر يوم مؤتة؛ فمن بكاء رسول (ص) على عمه حمزة وأبن عمه جعفر، وبكاء الحسين (ع) على أخيه العبّاس عرفنا أن لهؤلاء الشهداء الثلاثة رتبة عالية ومحل سامي، وقد وقف رسول الله على عمه حمزة وأبنه بكلمات لاذعة وألفاظ موجعة تأخذ من القلب مأخذها وتجيء في التأبين إن شاء الله.
والحسين (ع) أبن العباس (ع) بكلمات محزنة يحترق بلذعتها القلب وتجري بسماعها الدمعة الحارة، منها ما رواه في أسرار الشهادة(4) بقوله: وفي رواية اُخرى: فضربه رجل منهم بعمود حديد ففلق هامته وأنصرع عفيراً على الأرض يخور بدمه وهو ينادي: يا أبا عبد الله! عليك مني السلام. فلما سمع الإمام قال: وا أخاه! وا عباساه! وا مهجة قلباه! ـ إلى أن قال: ـ فبكى بكاء شديداً حتى بكى جميع من كان حاضراً، وقال (ع): جزاك الله مع أخ خيراً لقد جاهدت في الله حق جهاده، وزاد الطريحي في المنتخب يعد هذه الألفاظ: يعز علي والله فراقك، وإنه اُغمي عليه من شدة البكاء وقد عرفت أنه غير ملوم لأن المفقود عظيم.
وما زالت قاعدة الفلاسفة وأشراف العرب إذا وقف الواقف منهم على جنازة رئيس أو مر على قبر زعيم ألقى كلمات التأبين التي تعلق بالخاطر وتؤثر بالقلب الرقيق أثراً وتأخذ من النفس مأخذها وهي وإن أختلفت أساليبها فلفلسفي يتحرى كلمات الوعظ، والعربي يختار ألفاظ التقريض لكنها بمجموعها تقال تنويها بذي الشأنية والسمو وتلقى أمام نعش أو ضريح نابغة مشهور كما تأبين الفلاسفة للأسكندر(5).
تأبين النبي (ص) لعمه حمزة بن عبد المطلب:
قال الحلبي الشافعي في سيرته(6) بعد ذكر شهادة حمزة (ع): فجاء رسول الله (ص) نحو عمه حمزة فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه ومثل به فجدع أنفه واُذناه، فنظر رسول الله (ص) إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه وقال: لن اُصاب بمثلك ما وقفت موقفاً أغيظ لي من هذا، وقال (ص): رحمة الله عليك فإنك كنت ما علمتك فعولاً للخيرات، وصولاً للرحم، أما والله لأقتلن بسبعين من قريش.
ثم ذكر(7) عن أبن مسعود (رض): ما رأينا رسول الله (ص) باكياً أشد من بكاه على عمه حمزة (رض) وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وأنتصب حتى نشق أي شهق حتى بلغ به الغشي يقول: ياعم رسول الله وأسد الله وأسد رسول الله! يا حمزة يافاعل الخيرات! ياحمزة ياكاشف الكربات! ياحمزة ياذاب يا مانع عن وجه رسول الله ألخ.
للمؤلف:
لئن بكى حمزة شجواً وأبنه
محمد يوم اُحد ظاهر الكمد
وقال يا فاعل الخيرات أجمعها
وكاشف الكرب عني كشف مجتهد
فذا أبو الفضل يوم الطف أبنه
بحرقة سبط هادي الخلق للرشد
وحمزة الخير إن اُذناه قد جدعت
وأنفه قطعت في كف ذي نكد
فذا أبو الفضل سهم الكفر قد نبتت
بالعين منه وطارت منه كل يد
ومخ يافوخه قد سال مختلطاً
مع النجيع لضرب الرأس بالعمد
فإن اُصيب رسول الله في اُحد
يعمه حمزة الهدار كالأسد
فسبطه فاقد بالطف خير أخ
وفلذة للحشا أسماه بالولد
وإخوة وبنين لا شبيه لهم
حتى الرضيع قضى في سهم ذي نكد
يوم الطفوف فلا تحكيه فاجعة
من الفواجح أو حلت على أحد
تأبين النبي (ص) لولده إبراهيم (ع):
يذكر الحلبي في سيرته(8) في حديثه قال: لما أحتضر إبراهيم (ع) جاء (ص) فوجده في حجر اُمه فأخذه وجعله في حجره وقال: يا إبراهيم! إنا لن نغني عنك من الله شيئاً، ثم ذرفت عيناه وقال: إنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، ولولا أنه وعد صادق وموعود جامع إن الآخر منا يتبع الأول وجدنا عليك يا إبراهيم شديداً ما وجده، ولولا أنه أمر حق ووعد صدق وأنها سبيل مأتية لحزنا عليك حزناً شديداً. و(9) ذكر أنه لما مات كان (ص) مستقبلاً للجبل فقال: ياجبل! لو كان بك مثل ما بي لهدك ولكن إنا لله وإنا اليه راجعون.
للمؤلف:
فإن كان ما بالمصطفى سيد الورى
بصم الرواسي هدها وهي الشم
على فقد إبراهيم فلذة قلبه
وقد مات حتف الأنف ما مسه كلم
فما حال سبط المصطفى يوم كربلاء
وكم قد هوى في الترب من آله نجم
وكل تسيل النفس منه على الضبا
وما مرضته ظئره لا ولا أُم
فذا وزعته المشرفية في الوغى
وذا شك منه النحر في حجره السهم
وكلتاهما يقضي ولم يسقي شربة
من الماء حيث الماء تروى به البهم
تأبين الحسين لأخيه الحسن (ع):
في تأريخ الحافظ أبن عساكر الشافعي(10): وقف الحسين (ع) على قبر أخيه لما مات فقال: رحمك الله أبا محمد أن كنت ناصراً للحق وتؤثر الله عند مداحض الباطل في مكان التقية بحسن الروية، وتستشف جليل معاظم الدينا بعين حاذرة، وتقبض عليها بيد طاهرة، وتردع ما يريده أعداؤك بأيسر المؤونة عليك، وأنت أبن سلالة النبوة ورضيع لسان الحكمة، فإلى روح وريحان وجنة نعيم، فأعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأساة عليه ألخ.
تأبين محمد بن الحنفية لأخيه الحسن (ع):
فأبن عساكر يذكره عقيب كلام الحسين(11)وأبن عبد ربه في العقد الفريد(12) ونصهما: وقف محمد بن الحنفية يؤبن الحسن الزكي (ع) فخنقته العبرة ثم نطق فقال: يرحمك الله أبا محمد فلئن عزت حياتك فقد هدت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمه كفنك، وكيف لا تكون كذلك وأنت بقية ولد الأنبياء وسليل الهدى وخامس أهل الكسا، غذتك أكف الحق وربيت في حجر الإسلام، فطبت حياً وطبت ميتاً، وأن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك ولا شاكة في الخيار لك.
وفي مفتاح الأفكار للشيخ أحمد مفتاح مدرس الإنشاء بقسم العلمين العربي بالمبتديان(13): رحمك الله يا أبا محمد فلئن عزت حياتك لقد هدت وفاتك ولنعم الروح روح تضمنه بدنك، ولنعم الجسد جسد تضمنه كفنك، ولنعم الكفن كفن تضمنه لحدك، وكيف لا تكون كذلك وأنت سليل الهدى وخامس أصحاب الكسا وخلف أهل التقى، جدك النبي المصطفى، وأبوك عليّ المرتضى، وأمك فاطمة الزهراء، وعمك جعفر الطيار في جنة المأوى، غذتك أكف الحق، وربيت في حجر الإسلام ورضعت ثدي الإيمان، فطبت حياً وطبت ميتاً، فلئن كانت الأنفس غير طيبة بفراقك أنها غير شاكة أن قد خير لك وأنت وأخاك لسيد شباب أهل الجنة، فعليك يا أبا محمد منا السلام.
تأبين فاطمة الزهراء (ع) لأبيها رسول الله (ص):
عن أنس قال: لما فرغنا من دفن رسول الله (ص) أقبلت علي فاطمة (ع) فقالت: يا أنس! كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على وجه رسول الله (ص) التراب؟ ثم بكت ونادت: يا أباتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه! من ربه أدناه، يا أبتاه! إلى جبرائيل أنعاه، يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه، ثم سكتت فما زادت شيئاً.
تأبين أمير المؤمنين (ع) لخباب بن الأرت:
وخباب بن الأرت من قدماء الصحابة أسلم بعد ستة نفر فهو سادس الإسلام لا كما يقال من أنه سعد بن أبي وقاص، وخباب ممن عذب في الله وشهد مع أمير المؤمنين (ع) وتوفي قبل رجوع أمير المؤمنين (ع) من صفين بثمانية أيام ودفن بظهر الكوفة (النجف) فوقف (ع) على قبره وقد دفن بالظهر فقال: رحم الله خباباً لقد اسلم راغباً وجاهد طائعاً وعاش مجاهداً وابُتلي في جسمه أحوالاً ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.
تأبين أمير المؤمنين عليّ (ع) لفاطمة الزهراء (ع):
لما فرغ من دفنها (ع) هاج به الحزن فالتفت إلى قبر رسول الله (ص) وقال: السلام عليك يارسول الله عني وعن أبنتك النازلة في جوارك، السريعة اللحاق بك، قل يارسول الله عن صفيتك صبري ودق عنها تجلدي إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعز، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك وفاضت بين صدري ونحري نفسك فإنا لله وإنا إليه راجعون، قد أسترجعت الوديعة واُخذت الرهينة، فأما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، وستنبئك أبنتك بتظافر اُمتك على هضمها فاحفها السؤال وأستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم، إن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين، إنتهى عن نهج البلاغة، وتروى بألفاظ هي أطول من هذا ونقلها تطويل.
تأبين الحوراء زينب بنت أمير المؤمنين لأخيها الحسين (ع):
وقد مروا بهن على جثث القتلى حيث جعلوا طريقهم على المعركة ليضاعفوا الأحزان على مخدرات الوحي والرسالة.
ذكر الدربندي في أسرار الشهادة(14) والسيد أبن طاوس في الملهوف(15) والطبري المؤرخ وأختصرها وهذا نص المختصر في تأريخه(16): عن قرة بن قيس الحنظلي قال: نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن. قال: فأعترضتهن على فرس فما رأيت منظراً من نسوة قط كان أحسن من منظر رأيته منهن ذلك والله لهن أحسن من مهى يبرين فما نسيت من الأشياء لا أنسى قول زينب أبنة فاطمة (ع) حين مرت بأخيها الحسين (ع) صريعاً وهي تقول: يامحمداه! يامحمداه! صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسين بالعراء، مزمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يامحمداه! وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا. قال: فأبكت والله كل عدو وصديق.
أما الدربندي فلفظه في مرور الحرم على مصارع الشهداء من آل الرسول (ص): إعلم إن المستفاد من أخذ جامع الأخبار والروايات هو أن مرور النساء على مصارع الشهداء كان في اليوم الحادي عشر من المحرم بعد الزوال لأن ذلك الوقت كان وقت أرتحال عمر بن سعد لعنه الله مع عسكره من كربلاء إلى الكوفة ثم قد أختلفت أقوال أصحاب المقاتل في أن ذلك المرور هل كان بلطب من النساء والتماسهن ذلك أو كان ذلك عدواة وعناداً من أبن سعد؟ فأكثر أصحاب المقاتل قد صاروا إلى ألأول والبعض منهم إلى الثاني.
فقال السيد في الملهوف: ثم أخرجوا الحرم من الخيمة واشعلوا فيها النار فخرجن حواسر مسلبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلة، فقلن: بحق الله إلا ما مررتم بنا على مصرع الحسين(ع)، فلما نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن، قال الراوي: فو الله لا أنسى زينب بنت عليّ (ع) وهي تندب الحسين (ع) وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: يامحمداه! صلى عليك مليك السماء هذا حسين مزمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى حمزة سيد الشهداء، يا محمداه! هذا حسين بالعراء تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا، ياحزناه! يا كرباه! اليوم مات جدي محمد رسول الله، يا أصحاب محمد! هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا.
وفي رواية: يامحمد! بناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليها ريح الصبا، هذا حسين محزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والردا، بأبي من عسكره يوم الأثنين نهبا، بأبي من فسطاطه مقطع العرى، بأبي من لا غائب فيرجى ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفدا، بابي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدما، بأبي من جده رسول الله إله السما، بأبي من هو سبط نبي الهدى، بأبي أبن محمد المصطفى، بأبي أبن خديجة الكبرى، بأبي أبن علي المرتضى، بأبي أبن فاطمة الزهراء سيد النساء، بأبي أبن من ردت له الشمس حتى صلى، قال الراوي: فأبكت كل عدو وصديق.
ثم إن سكينة أعتنقت جسد أبيها فأجتمع إليها عدة من الأعراب حتى جروها عنه.
هذا ما في الملهوف، وأما ما في بعض الكتب المعتبرة فهو ما روي عن عبد الله أبن أويس عن أبيه أنهم جاؤوا بالنساء عناداً وعبروا بهن على مصارع القتلى من آل الرسول فلما رأت أم كلثوم أخاها الحسين (ع) تسفي عليه الرياح وهو مكبوب ومسلوب وقعت من أعلى البعير إلى الأرض وأحتضنت أخاها وهي تقول ببكاء وعويل: يارسول الله! اُنظر إلى جسد ولدك ملقى على الأرض بغير دفن، كفنه الرمل السافي عليه، وغسله الدم الجاري من وريديه، وهؤلاء أهل بيته يساقون اُسارى في أسر الذل ليس لهم من يمانع عنهم، ورؤوس أولاده مع رأسه الشريف على الرماح كالأقمار، يامحمد المصطفى! هذه بناتك سبايا وذريتك مقتلة.
فما زالت تقول هذا القول حتى أبكت كل صديق وعدو حتى رأينا دموع الخيل تتقاطر على حوافرها، وساروا بها وهي باكية حزينة لا ترقى لها دمعة ولا تبطل لها عبرة.
ثم ذكر(17) ما لفظه: روى بعضهم أنه كان للحسين (ع) بنت صغيرة وكانت بين تلك السبايا جالسة حول أبيها قابضة على كتفه وكفه في حضنها فتارة تشم كتفه وتارة تضع أصابعه على فؤادها وتارة على عينها وتأخذ من دمه الشريف وتخضب شعرها ووجهها وهي تقول: وا أبتاه! قتلك أقر عيون الشامتين وسر المعاندين، يا أبا عبد الله! ألبستني بنو اُمية ثوب اليتم على صغر سني، يا أبتاه! إذا أظلم الليل من يحمي حماي، يا أباتاه! اُنظر إلى رؤوسنا المكشوفة وإلى أكبادنا الملهوفة وإلى عمتي المضروبة وإلى اُمي المسحوبة.
قال فذرفت عند ندبتها العيون، فأتاهم زجر اللعين وقال: إن الأمير نادى مناديه بالرحيل فهلموا وأركبو، فأتت البنت إلى السائق اللعين فوقعت بين يديه وقالت: ياهذا! سألتلك بالله وجدي رسول الله (ص) أنتم اليوم تقيمون أو ترحلون؟ قال: بل راحلون، قالت: ياهذا! إذا عزمتم على الرحيل سيروا بهذه النسوة وأتركوني عند والدي فإني صغيرة السن ولا أستطيع الركوب فأتركوني عند والدي أبكي عليه فإذا مت عنده سقط عنكم ذمامي ودمي، فدفعها عنه وأبعدها منه.
فلاذت بأبيها سيد الشهداء روحي له الفداء وأستجارت به فأتى إليها وجذبها من عند أبهيا فقالت له: ياهذا! إن لي أخاً صغيراً فدعني اودعه، فأمهلها فتخطت خطوات قليلة لأنه كان قريباً من أبيه (ع) فلما وقعت عيناها عليه تحسرت ثم إنها لثمته لثمات متتابعات ثم أجلسته ووضعته في حضنها وجعلت فيها على نحره الشريف ونادت: ياأخي! لو خيروني بني المقام عندك أو الرحيل عنك لا خترت المقام ولو أن السباع تأكل لحمي فها أنا راحلة عنك غير جافية لك، وهذه نياق الرحيل تتجاذبنا على المسير قد أتونا بها مهزولة لا موطئة ولا مرحولة، وناقتي يا أخي مع هزلها صعبة الأنقياد فلا أدري أين يريد بنا أهل العناد فأقرأ جدي علي المرتضى وجدتي فاطمة الزهراء عني السلام وقل لهما: اُختي شاكية إليكما حالها قد خرموا اُذنيها وفصموا خلخالها، ثم إنها وضعت فمها على شفتيه وقبلت خديه فأتاها السائق اللعين فجذبها عنه وأركبها قهراً، فلما ركبت الناقة التفتت إلى أبيها وقالت: يا أبة! ودعتك الله السميع العليم وأقرؤك السلام ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
للمؤلف:
إنما هذه اليتيمة أشجت
كل قلب بندبة وعويل
حين مروا بها بجسم أبيها
حوله خير فتية وكهول
أعولت عنده وقالت دعوني
عنده لا اُحب عنه رحيلي
أتركوني أبكي أبي وشقيقي
نور عيني عسى أبل غليلي
ولو أن السباع تأكل من لحمي
لا اُبالي في قرب خير سليل
أنهضوها عن جسم والدها الــ
ـبر بضرب السياط والتنكيل
ثم لاذت به وما رحموها
شر قوم وعصبة وقبيل
فإستغاثت بالسبط وهو صريع
بدموع دفاقة كسيول
أبتا ما ترى صنيع عداكم
سلبوني من بعد قرطي حجولي
كلما مررت بهذه الحادثة يتفتت كبدي لوعة وينصدع قلبي حرقة، إنها ولا اُغالي لو قلت من القصص المروعة والحكايات المحزنة التي تثير اللوعة وتبعث الشجا وتستدر الدمعة وتستدعي العبرة ولعل مستغرباً يستغرب مثل هذه القصة ويعدها من ضروب الاقاصيص، أما الشكاك والمنحرف فندعه وعقيلته السخيفة التي قادته إلى التشكيل في مسلمات التأريخ وقطعياته، أما غير هذه المتعجرف وسوى هذا المتطرف إذ يرتاب فيها من ناحية صدور هذه البلاغة ووقوع هذه الإبانة العجيبة الأسلوب من طفلة صغيرة السن فلا ريب أن هذه المستريب جاهل بأهل البيت النبوي وما خصهم الله به من الذكاء الفطري وجبلهم عليه من الإفصاح.
للمؤلف:
إن كانت الطفلة في سنها
صغيرة فالعقل منها كبير
لأنها تنمى إلى دوحة
فيحاء تزهو وسط روض نضير
فروعها خير شباب الورى
وحيدر الأصل وطاها البشير
أوراقها تزهو وأغصانها
تسبق إذ تسقى بخير وخير
ينمو به الفرع ويزهو كما
تزهو النباتات بماء نمير
بيان هذي البنت إرث لها
من صاحب الإسرا أتى والغدير
من يستحق التأبين عند الناس:
لا ريب أن التأبين وهو تعداد محاسن الميت كماعرفوه إنما يستحقه العظيم من الناس لشرفه وسؤدده ولأعماله الصالحة ولمآثره الجميلة أو لأن له منزلة عظيمة من المحبة في قلب المؤبن فعند ذلك يلقي كلمات التوجع ويفوه بألفاظ التأسف ويظهر التفجع له.
ومن هنا تعرف إن للعباس (ع) عند أخيه الحسين (ع) أعظم المنازل وأسمى المراتب لمحبته إياه ولفرط إعجابه به لا من حيث الأخوة وإن كانت بعض المقتضي للمحبة بل من حيث الأعمال الصالحة والمآثر الكريمة والطباع الفاضلة والسجايا المحمودة، وإنه أعظم من ضحى نفسه أمامه وفاداه، وإنه أشدهم همة في المحامات عنه وأفضلهم شجاعة وأكثرهم براً وألفاظاً به، وأسرعهم قياماً بخدمته وأحسنهم إيثاراً له ومناصحة، فتلك الأسباب وغيرها أبنه بما سمعت وإلا فقد تسمع كمية من استشهد مع الحسين (ع) من إخوته ولعل عددهم يزيد على خمسة عشر وكل واحد منهم كان حبيباً إليه فما سمعنا أنه بكى على واحد منهم أو قال عند قتله: الآن أنكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي على ما ذكره السيد هبة الدين الشهرستاني في النهضة الحسينية(18).
والفقيد الذي يوجب أفتقاده شماتة الأعداء وذهول الرئيس الحازم عن تدبير الحيلة في المصلحة الحربية المهمة في مقابلة العدو المتكالب لفقيد عظيم ومنزلته لا تقاس بها منزلة ورتبته لا ندانيها رتبة، وقد دل دلالة واضحة أن أثره في حياته كان كبيراً حتى يكون أهلاً لئن يوصف بهذه الأوصاف وإنما يشمت العدو بفقد من يعد فقده كسراً في عدوه ووهناً عظيماً في ناحية خصمه.
ولست أستريب أن هذه الكلمات الثلاثة من سيد الشهداء وردت لبيان فضيلة العباس (ع) وكشف حقيقته المخفية على الجاهلين بقدره، وإن له منزلة عظيمة بل هي أعظم منازل الشهداء معه وأرفعها وأعلاها وهو مع ذلك فقد كان باب الحسين كما كان أمير المؤمنين علي أبوه باب رسول الله (ص) ومنزلته منه تلك المنزلة، فقد كان رسول الله (ص) يعد علياً (ع) لكل عظيمة ويدعوه عند كل نازلة ويختصه ويحبوه ويكرمه، وكذلك كان أبو الفضل العباس (ع) عند الحسين (ع) يعده لكل عظيمة ويدعوه لكل نازلة كما سمعت من حديث رد العسكر الزاحف إليه يوم التاسع وبعثه لجلب الماء من الفرات وأنتدابه لا ستنقاذ أصحابه الذين أقتطعهم جيش عمر بن سعد.
قال هبة الدين الشهرستاني في نهضة الحسين (ع)(19): كان الحسين (ع) مستميتاً ومستميت كل من كان معه، وكانت أنفسهم الشريفة متشربة من كأس التضحية وريانة من معين التفادي، وفي مقدمة هؤلاء أبو الفضل أكبر إخوة الحسين (ع) الممتاز في الكمال والجمال، وقمر بني هاشم، وحامل راية الحسين (ع)، وعقيد آماله في المحافظة على رحله وعياله لذلك شق على الحسين (ع) إن يأذن له بالبراز إلى الأعداء ألخ. للمؤلف:
قل لأبي الفضل عليه السلام
شبل علي الطهر مولى الأنام
فدتك نفسي ونفيسي معاً
يابن إمام وأخاً للإمام
نلت على رغم العدى رتبة
مقامها في العز أسمى مقام
قد كنت باب أبن نبي الهدى
وركن جيش السبط عند الخصام
والجيش بالركن كما حققوا
يقوي إذا أتقن عقد النظام
وتحمل الراية قدامه
تضرب بالسيف وجوه الطغام
نظمت بالرمح الكلي طاعناً
وناثراً بالسيف أيد وهام
تنفض كالصقر ولكنما
صيدك صيد القوم دون الحمام
أوصلت فالليث سطى مغضباً
مستبدل الأنياب حد الحسام
فلا يلام السبط لما مضى
محدوب الظهر يؤم الخيام
إن الأخ الناصح فقدانه
ليقصم الظهر أشد أنقصام
لو سيم بالدنيا لما باعه
ومن سمى الأقران أنى يسام
وإن من كنت له ناصراً
يابن علي أبداً لن يضام
مقتبس من كتاب (بطل العلقمي) للعلامة الشيخ عبدالواحد المظفر
1ـ أسرار الشهادة: ص321.
2ـ مصائب المعصومين: ص360.
3ـ عوالم العلوم: ص95.
4ـ أسرار الشهادة: ص323.
5ـ راجع مروج الذهب 1/180.
6ـ السيرة الحلبية 3/ 295.
7ـ السيرة الحلبية 3/260.
8ـ السيرة الحلبية 3/347.
9ـ نفسه 3/348.
10ـ تاريخ مدينة دمشق 4/337.
11ـ نفسه 4/227.
12- العقد الفريد 2/163.
13ـ مفتاح الأفكار 1/148.
14ـ أسرارا الشهادة: ص467.
15ـ الملهوف: ص262.
16ـ تاريخ الطبري 6/ 262.
17ـ أسرار الشهادة: ص468.
18-النهضة الحسينية: ص106.
19ـ نهضة الحسين : ص 104.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
هي منزلة عظيمة جداً فإن للمنزلة حيثيات واعتبارات توجب ارتفاعها وتقتضي عظمتها: منها الأخوة والصحبة وهي أدناها، ومنها الفضل أو كمالات الشخص ومحاسن أخلاقه، ومنها الطاعة وغير ذلك.
فمن حيث الاُخوة والخدمة والإخلاص والمحبة وكمال الأدب فقد عرفت ذلك من الجزء الثاني وكذلك قد مضى ذكر خصاله الحميدة وسجاياه الفاضلة مما يوجب مزيد الرغبة في المتصف بها وتؤكد له القبول عند العظماء وذوء الشأنيه والمقدرة من الأقرباء فأكدت هذه الشمائل والأوصاف الممتازة في نفس سيد الشهداء الحسين (ع) محبة أخيه العبّاس الأكبر (ع) وأوجبت تقديمه على من سواه من الأصفياء والمخلصين وسائر الأحباء المتهالكين في محبته بالتفادي العظيم والتضحية الكريمة فضلاً عن بقية الأشقاء الكرام.
فإذا أنضمت هذه الفضائل المكتسبة إلى سجاياه المبرزة في جبلته وطبعه كالإبا والفروسية والسخاء والمقتبسة له من الهداة البررة أهل العصمة نحو العلم والبصيرة والتقوى والمروة والوفاء والصلاح والعفة وغير ذلك تجزم من غير شك ولا أرتياب أن للعباس عند أخيه الحسين السبط (ع) مكانة مكينة ومرتبة سامية ومحل رفيع؛ لأن الفضل يعرفه ذو الفضل فتعرف أن أختصاصه به أعظم أختصاص لا من ناحية الإخاء فقط بل من وجهة الفضائل، ولم يزل سير العقلاء ورأي حلماء العرب تفضيل مثل هذا الإخ على من سواه وتقديمه على غيره حسبما أتجهت به وجهه الفضائل الجمة والسجايا الفذة الغزيرة.
في أسرار الشهادة(1): في حديث فأتاه الحسين كالصقر إذا أنحدر على فريسته ففرقهم يميناً وشمالاً بعد أن قتل من المعروفين سبعين رجلاً فجاء نحو العباس (ع) وهو ينادي: وا أخاه! وا عباساه! الآن أنكسر ظهري وقلت حيلتي، ثم أنحنى عليه ليحمله ففتح العباس (ع) عينيه فرأى أخاه الحسين (ع) يريد أن يحمله فقال له: إلى أين تريد يا أخي؟ فقال: إلى الخيمة، فقال: يا أخي! بحق جدك رسول الله (ص) عليك أن لا تحمليني، دعني في مكاني هذ، فقال (ع) لماذا؟ قال: لأني مستح من أبنتك سكينة وقد وعدتها بالماء ولم آتها به، والثاني إني كبش كتيبتك ومجمع عددك فإذا رآني أصحابك وأنا مقتول فربما يقل عزمهم، فقال الحسين (ع): جزيت عن أخيك خيراً حيث نصرته حياً وميت، قال: فوضعه على مكانه ورجع إلى الخيمة يكفكف دموعه بكمه، فلما رأوه مقبلاً أتت إليه أبنته سكينة ولزمت عنان جواده وقالت: ياابتاه! هل لك علم بعمي العباس؟ أراه أبطاً وقد أوعدني بالماء وليس له عادة أن يخلف وعده، فهل شرب ماءاً وبل غليله ونسى ما ورائه؟ أم هو يجاهد الأعداء؟ فعندها بكى الحسين (ع) وقال: يابنتاه! إن عمك العباس قد قتل وبلغت روحه الجنان، فلما سمعت زينب (ع) صرخت ونادت: وا أخاه! وا عباساه! وا قله ناصراه! وا ضيعتنا بعدك! فقال لها الحسين (ع): إي والله وا ضيعتنا بعده! وإنقطاع ظهراه! فجعلت النساء يبكين ويندبن عليه، وبكى الحسين (ع) معهن ألخ.
وفي مصائب المعصومين(2): فأنقلب عن فرسه وصاح إلى أخيه الحسين (ع): أدركني، فقال الحسين (ع): الآن أنكسر ظهري وقلت حيلتي، فلما أتاه رآه صريعاً على شاطئ الفرات، فبكى ومثله في مقتل العوالم(3).
وقد رثاه بذلك الشعراء حاكين مقالة الحسين، فمنها قول بعضهم:
فمشى إليه السبط ينعاه كسرت الآ
ن ظهري يا أخي ومعيني
والسيد جعفر الحلي قال:
ما خلت بعدك ان تشل سوادي
وتكف باصرتي وظهري يقصم
وحقيق أن يكون فقد الأخ الكريم من قواصم الظهر لأنه العضد والساعد والناصر والمساعد، والعدة للحرب، والسلاح للكفاح، لم يرض العربي الصميم بأن يعد الأخ عوناً فقط ولا مسعداً فحسب بل ترقى وعده مع ذلك عدة للنوائب وسلاحاً للخطوب، وإن الوحيد المنفرد من الإخوة كالأعزل الذي لا سلاح له وهو في خطة الحرب وحومة ميدان القتال، فقال:
أخاك أخاك إن من لا أخاً له
كساع إلى الهيجا بغير سلاح
بيد أن مطمح الأنظار ومحط أفكار النبلاء من الإخوة من كان مستكملاً للصفات الجميلة ومستجمعاً للكمالات، ومن تتبع أحوال الرجال وسبر مزاياهم لم يجد نظيراً للعباس بن أميرالمؤمنين (ع) فإن له أكمل منزلة ورقى بمزاياه الرتبة العليا ونال الدرجة السامية، وما سطر في الجزء السابق من محاسنه ليبرهن على أنه الأسمى في أندية الفخار رتبة، والأعلى في صف المقدمين مرتبة، وكرسيه الأول في قاعات المفاخر، وله الصدر في منتدى الفضائل، ولذلك أذرى عليه الحسين (ع) وهو الصبور عبرته ورقرق وهو المتجلد دمعته أمام أعين الشامتين وبمرأى من الكاشحين، ومن دونه رتبة قد قال:
وتجلدي للشامتين اُريهمو
إني لريب الدهر لا أتضعضع
فما أرخص الحسين (ع) عليه دمعته الغالية إلا لعظمته، ولا بذل عبرته النفيسة إلا وهو أنفس شيء يعده الإنسان المحترم، وقد كان (ع) اولى من الحمداني بقوله:
لقد كنت أولى منك بالدمع حسرة
ولكن دمعي في الحوادث غالي
وصبر الحسين (ع) وتجلده في كل مأساة وفادحة ونكبة مؤلمة مما لا يصل إليه الواصل ولا تستطيع تلمسه يد المتناول، وقد قيل فيه:
لله درك ياصبور على الأذى
ولأنت أقدر قادر يتخلص
لكن جلالة الفقيد وعظمة الراحل أجرت تلك العبرات العزيزة وأرسلت تلك الدمعة الغالية كما أجرت مدامع سيد الكائنات رسول الله (ص) أصبر الخلق على المصائب وأجلدهم عند صدمات النوائب مصيبة عمه حمزة يوم اُحد، ومصيبة أبن عمه جعفر يوم مؤتة؛ فمن بكاء رسول (ص) على عمه حمزة وأبن عمه جعفر، وبكاء الحسين (ع) على أخيه العبّاس عرفنا أن لهؤلاء الشهداء الثلاثة رتبة عالية ومحل سامي، وقد وقف رسول الله على عمه حمزة وأبنه بكلمات لاذعة وألفاظ موجعة تأخذ من القلب مأخذها وتجيء في التأبين إن شاء الله.
والحسين (ع) أبن العباس (ع) بكلمات محزنة يحترق بلذعتها القلب وتجري بسماعها الدمعة الحارة، منها ما رواه في أسرار الشهادة(4) بقوله: وفي رواية اُخرى: فضربه رجل منهم بعمود حديد ففلق هامته وأنصرع عفيراً على الأرض يخور بدمه وهو ينادي: يا أبا عبد الله! عليك مني السلام. فلما سمع الإمام قال: وا أخاه! وا عباساه! وا مهجة قلباه! ـ إلى أن قال: ـ فبكى بكاء شديداً حتى بكى جميع من كان حاضراً، وقال (ع): جزاك الله مع أخ خيراً لقد جاهدت في الله حق جهاده، وزاد الطريحي في المنتخب يعد هذه الألفاظ: يعز علي والله فراقك، وإنه اُغمي عليه من شدة البكاء وقد عرفت أنه غير ملوم لأن المفقود عظيم.
وما زالت قاعدة الفلاسفة وأشراف العرب إذا وقف الواقف منهم على جنازة رئيس أو مر على قبر زعيم ألقى كلمات التأبين التي تعلق بالخاطر وتؤثر بالقلب الرقيق أثراً وتأخذ من النفس مأخذها وهي وإن أختلفت أساليبها فلفلسفي يتحرى كلمات الوعظ، والعربي يختار ألفاظ التقريض لكنها بمجموعها تقال تنويها بذي الشأنية والسمو وتلقى أمام نعش أو ضريح نابغة مشهور كما تأبين الفلاسفة للأسكندر(5).
تأبين النبي (ص) لعمه حمزة بن عبد المطلب:
قال الحلبي الشافعي في سيرته(6) بعد ذكر شهادة حمزة (ع): فجاء رسول الله (ص) نحو عمه حمزة فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه ومثل به فجدع أنفه واُذناه، فنظر رسول الله (ص) إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه وقال: لن اُصاب بمثلك ما وقفت موقفاً أغيظ لي من هذا، وقال (ص): رحمة الله عليك فإنك كنت ما علمتك فعولاً للخيرات، وصولاً للرحم، أما والله لأقتلن بسبعين من قريش.
ثم ذكر(7) عن أبن مسعود (رض): ما رأينا رسول الله (ص) باكياً أشد من بكاه على عمه حمزة (رض) وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وأنتصب حتى نشق أي شهق حتى بلغ به الغشي يقول: ياعم رسول الله وأسد الله وأسد رسول الله! يا حمزة يافاعل الخيرات! ياحمزة ياكاشف الكربات! ياحمزة ياذاب يا مانع عن وجه رسول الله ألخ.
للمؤلف:
لئن بكى حمزة شجواً وأبنه
محمد يوم اُحد ظاهر الكمد
وقال يا فاعل الخيرات أجمعها
وكاشف الكرب عني كشف مجتهد
فذا أبو الفضل يوم الطف أبنه
بحرقة سبط هادي الخلق للرشد
وحمزة الخير إن اُذناه قد جدعت
وأنفه قطعت في كف ذي نكد
فذا أبو الفضل سهم الكفر قد نبتت
بالعين منه وطارت منه كل يد
ومخ يافوخه قد سال مختلطاً
مع النجيع لضرب الرأس بالعمد
فإن اُصيب رسول الله في اُحد
يعمه حمزة الهدار كالأسد
فسبطه فاقد بالطف خير أخ
وفلذة للحشا أسماه بالولد
وإخوة وبنين لا شبيه لهم
حتى الرضيع قضى في سهم ذي نكد
يوم الطفوف فلا تحكيه فاجعة
من الفواجح أو حلت على أحد
تأبين النبي (ص) لولده إبراهيم (ع):
يذكر الحلبي في سيرته(8) في حديثه قال: لما أحتضر إبراهيم (ع) جاء (ص) فوجده في حجر اُمه فأخذه وجعله في حجره وقال: يا إبراهيم! إنا لن نغني عنك من الله شيئاً، ثم ذرفت عيناه وقال: إنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، ولولا أنه وعد صادق وموعود جامع إن الآخر منا يتبع الأول وجدنا عليك يا إبراهيم شديداً ما وجده، ولولا أنه أمر حق ووعد صدق وأنها سبيل مأتية لحزنا عليك حزناً شديداً. و(9) ذكر أنه لما مات كان (ص) مستقبلاً للجبل فقال: ياجبل! لو كان بك مثل ما بي لهدك ولكن إنا لله وإنا اليه راجعون.
للمؤلف:
فإن كان ما بالمصطفى سيد الورى
بصم الرواسي هدها وهي الشم
على فقد إبراهيم فلذة قلبه
وقد مات حتف الأنف ما مسه كلم
فما حال سبط المصطفى يوم كربلاء
وكم قد هوى في الترب من آله نجم
وكل تسيل النفس منه على الضبا
وما مرضته ظئره لا ولا أُم
فذا وزعته المشرفية في الوغى
وذا شك منه النحر في حجره السهم
وكلتاهما يقضي ولم يسقي شربة
من الماء حيث الماء تروى به البهم
تأبين الحسين لأخيه الحسن (ع):
في تأريخ الحافظ أبن عساكر الشافعي(10): وقف الحسين (ع) على قبر أخيه لما مات فقال: رحمك الله أبا محمد أن كنت ناصراً للحق وتؤثر الله عند مداحض الباطل في مكان التقية بحسن الروية، وتستشف جليل معاظم الدينا بعين حاذرة، وتقبض عليها بيد طاهرة، وتردع ما يريده أعداؤك بأيسر المؤونة عليك، وأنت أبن سلالة النبوة ورضيع لسان الحكمة، فإلى روح وريحان وجنة نعيم، فأعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأساة عليه ألخ.
تأبين محمد بن الحنفية لأخيه الحسن (ع):
فأبن عساكر يذكره عقيب كلام الحسين(11)وأبن عبد ربه في العقد الفريد(12) ونصهما: وقف محمد بن الحنفية يؤبن الحسن الزكي (ع) فخنقته العبرة ثم نطق فقال: يرحمك الله أبا محمد فلئن عزت حياتك فقد هدت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمه كفنك، وكيف لا تكون كذلك وأنت بقية ولد الأنبياء وسليل الهدى وخامس أهل الكسا، غذتك أكف الحق وربيت في حجر الإسلام، فطبت حياً وطبت ميتاً، وأن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك ولا شاكة في الخيار لك.
وفي مفتاح الأفكار للشيخ أحمد مفتاح مدرس الإنشاء بقسم العلمين العربي بالمبتديان(13): رحمك الله يا أبا محمد فلئن عزت حياتك لقد هدت وفاتك ولنعم الروح روح تضمنه بدنك، ولنعم الجسد جسد تضمنه كفنك، ولنعم الكفن كفن تضمنه لحدك، وكيف لا تكون كذلك وأنت سليل الهدى وخامس أصحاب الكسا وخلف أهل التقى، جدك النبي المصطفى، وأبوك عليّ المرتضى، وأمك فاطمة الزهراء، وعمك جعفر الطيار في جنة المأوى، غذتك أكف الحق، وربيت في حجر الإسلام ورضعت ثدي الإيمان، فطبت حياً وطبت ميتاً، فلئن كانت الأنفس غير طيبة بفراقك أنها غير شاكة أن قد خير لك وأنت وأخاك لسيد شباب أهل الجنة، فعليك يا أبا محمد منا السلام.
تأبين فاطمة الزهراء (ع) لأبيها رسول الله (ص):
عن أنس قال: لما فرغنا من دفن رسول الله (ص) أقبلت علي فاطمة (ع) فقالت: يا أنس! كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على وجه رسول الله (ص) التراب؟ ثم بكت ونادت: يا أباتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه! من ربه أدناه، يا أبتاه! إلى جبرائيل أنعاه، يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه، ثم سكتت فما زادت شيئاً.
تأبين أمير المؤمنين (ع) لخباب بن الأرت:
وخباب بن الأرت من قدماء الصحابة أسلم بعد ستة نفر فهو سادس الإسلام لا كما يقال من أنه سعد بن أبي وقاص، وخباب ممن عذب في الله وشهد مع أمير المؤمنين (ع) وتوفي قبل رجوع أمير المؤمنين (ع) من صفين بثمانية أيام ودفن بظهر الكوفة (النجف) فوقف (ع) على قبره وقد دفن بالظهر فقال: رحم الله خباباً لقد اسلم راغباً وجاهد طائعاً وعاش مجاهداً وابُتلي في جسمه أحوالاً ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.
تأبين أمير المؤمنين عليّ (ع) لفاطمة الزهراء (ع):
لما فرغ من دفنها (ع) هاج به الحزن فالتفت إلى قبر رسول الله (ص) وقال: السلام عليك يارسول الله عني وعن أبنتك النازلة في جوارك، السريعة اللحاق بك، قل يارسول الله عن صفيتك صبري ودق عنها تجلدي إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعز، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك وفاضت بين صدري ونحري نفسك فإنا لله وإنا إليه راجعون، قد أسترجعت الوديعة واُخذت الرهينة، فأما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، وستنبئك أبنتك بتظافر اُمتك على هضمها فاحفها السؤال وأستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم، إن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين، إنتهى عن نهج البلاغة، وتروى بألفاظ هي أطول من هذا ونقلها تطويل.
تأبين الحوراء زينب بنت أمير المؤمنين لأخيها الحسين (ع):
وقد مروا بهن على جثث القتلى حيث جعلوا طريقهم على المعركة ليضاعفوا الأحزان على مخدرات الوحي والرسالة.
ذكر الدربندي في أسرار الشهادة(14) والسيد أبن طاوس في الملهوف(15) والطبري المؤرخ وأختصرها وهذا نص المختصر في تأريخه(16): عن قرة بن قيس الحنظلي قال: نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن. قال: فأعترضتهن على فرس فما رأيت منظراً من نسوة قط كان أحسن من منظر رأيته منهن ذلك والله لهن أحسن من مهى يبرين فما نسيت من الأشياء لا أنسى قول زينب أبنة فاطمة (ع) حين مرت بأخيها الحسين (ع) صريعاً وهي تقول: يامحمداه! يامحمداه! صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسين بالعراء، مزمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يامحمداه! وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا. قال: فأبكت والله كل عدو وصديق.
أما الدربندي فلفظه في مرور الحرم على مصارع الشهداء من آل الرسول (ص): إعلم إن المستفاد من أخذ جامع الأخبار والروايات هو أن مرور النساء على مصارع الشهداء كان في اليوم الحادي عشر من المحرم بعد الزوال لأن ذلك الوقت كان وقت أرتحال عمر بن سعد لعنه الله مع عسكره من كربلاء إلى الكوفة ثم قد أختلفت أقوال أصحاب المقاتل في أن ذلك المرور هل كان بلطب من النساء والتماسهن ذلك أو كان ذلك عدواة وعناداً من أبن سعد؟ فأكثر أصحاب المقاتل قد صاروا إلى ألأول والبعض منهم إلى الثاني.
فقال السيد في الملهوف: ثم أخرجوا الحرم من الخيمة واشعلوا فيها النار فخرجن حواسر مسلبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلة، فقلن: بحق الله إلا ما مررتم بنا على مصرع الحسين(ع)، فلما نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن، قال الراوي: فو الله لا أنسى زينب بنت عليّ (ع) وهي تندب الحسين (ع) وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: يامحمداه! صلى عليك مليك السماء هذا حسين مزمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى حمزة سيد الشهداء، يا محمداه! هذا حسين بالعراء تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا، ياحزناه! يا كرباه! اليوم مات جدي محمد رسول الله، يا أصحاب محمد! هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا.
وفي رواية: يامحمد! بناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليها ريح الصبا، هذا حسين محزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والردا، بأبي من عسكره يوم الأثنين نهبا، بأبي من فسطاطه مقطع العرى، بأبي من لا غائب فيرجى ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفدا، بابي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدما، بأبي من جده رسول الله إله السما، بأبي من هو سبط نبي الهدى، بأبي أبن محمد المصطفى، بأبي أبن خديجة الكبرى، بأبي أبن علي المرتضى، بأبي أبن فاطمة الزهراء سيد النساء، بأبي أبن من ردت له الشمس حتى صلى، قال الراوي: فأبكت كل عدو وصديق.
ثم إن سكينة أعتنقت جسد أبيها فأجتمع إليها عدة من الأعراب حتى جروها عنه.
هذا ما في الملهوف، وأما ما في بعض الكتب المعتبرة فهو ما روي عن عبد الله أبن أويس عن أبيه أنهم جاؤوا بالنساء عناداً وعبروا بهن على مصارع القتلى من آل الرسول فلما رأت أم كلثوم أخاها الحسين (ع) تسفي عليه الرياح وهو مكبوب ومسلوب وقعت من أعلى البعير إلى الأرض وأحتضنت أخاها وهي تقول ببكاء وعويل: يارسول الله! اُنظر إلى جسد ولدك ملقى على الأرض بغير دفن، كفنه الرمل السافي عليه، وغسله الدم الجاري من وريديه، وهؤلاء أهل بيته يساقون اُسارى في أسر الذل ليس لهم من يمانع عنهم، ورؤوس أولاده مع رأسه الشريف على الرماح كالأقمار، يامحمد المصطفى! هذه بناتك سبايا وذريتك مقتلة.
فما زالت تقول هذا القول حتى أبكت كل صديق وعدو حتى رأينا دموع الخيل تتقاطر على حوافرها، وساروا بها وهي باكية حزينة لا ترقى لها دمعة ولا تبطل لها عبرة.
ثم ذكر(17) ما لفظه: روى بعضهم أنه كان للحسين (ع) بنت صغيرة وكانت بين تلك السبايا جالسة حول أبيها قابضة على كتفه وكفه في حضنها فتارة تشم كتفه وتارة تضع أصابعه على فؤادها وتارة على عينها وتأخذ من دمه الشريف وتخضب شعرها ووجهها وهي تقول: وا أبتاه! قتلك أقر عيون الشامتين وسر المعاندين، يا أبا عبد الله! ألبستني بنو اُمية ثوب اليتم على صغر سني، يا أبتاه! إذا أظلم الليل من يحمي حماي، يا أباتاه! اُنظر إلى رؤوسنا المكشوفة وإلى أكبادنا الملهوفة وإلى عمتي المضروبة وإلى اُمي المسحوبة.
قال فذرفت عند ندبتها العيون، فأتاهم زجر اللعين وقال: إن الأمير نادى مناديه بالرحيل فهلموا وأركبو، فأتت البنت إلى السائق اللعين فوقعت بين يديه وقالت: ياهذا! سألتلك بالله وجدي رسول الله (ص) أنتم اليوم تقيمون أو ترحلون؟ قال: بل راحلون، قالت: ياهذا! إذا عزمتم على الرحيل سيروا بهذه النسوة وأتركوني عند والدي فإني صغيرة السن ولا أستطيع الركوب فأتركوني عند والدي أبكي عليه فإذا مت عنده سقط عنكم ذمامي ودمي، فدفعها عنه وأبعدها منه.
فلاذت بأبيها سيد الشهداء روحي له الفداء وأستجارت به فأتى إليها وجذبها من عند أبهيا فقالت له: ياهذا! إن لي أخاً صغيراً فدعني اودعه، فأمهلها فتخطت خطوات قليلة لأنه كان قريباً من أبيه (ع) فلما وقعت عيناها عليه تحسرت ثم إنها لثمته لثمات متتابعات ثم أجلسته ووضعته في حضنها وجعلت فيها على نحره الشريف ونادت: ياأخي! لو خيروني بني المقام عندك أو الرحيل عنك لا خترت المقام ولو أن السباع تأكل لحمي فها أنا راحلة عنك غير جافية لك، وهذه نياق الرحيل تتجاذبنا على المسير قد أتونا بها مهزولة لا موطئة ولا مرحولة، وناقتي يا أخي مع هزلها صعبة الأنقياد فلا أدري أين يريد بنا أهل العناد فأقرأ جدي علي المرتضى وجدتي فاطمة الزهراء عني السلام وقل لهما: اُختي شاكية إليكما حالها قد خرموا اُذنيها وفصموا خلخالها، ثم إنها وضعت فمها على شفتيه وقبلت خديه فأتاها السائق اللعين فجذبها عنه وأركبها قهراً، فلما ركبت الناقة التفتت إلى أبيها وقالت: يا أبة! ودعتك الله السميع العليم وأقرؤك السلام ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
للمؤلف:
إنما هذه اليتيمة أشجت
كل قلب بندبة وعويل
حين مروا بها بجسم أبيها
حوله خير فتية وكهول
أعولت عنده وقالت دعوني
عنده لا اُحب عنه رحيلي
أتركوني أبكي أبي وشقيقي
نور عيني عسى أبل غليلي
ولو أن السباع تأكل من لحمي
لا اُبالي في قرب خير سليل
أنهضوها عن جسم والدها الــ
ـبر بضرب السياط والتنكيل
ثم لاذت به وما رحموها
شر قوم وعصبة وقبيل
فإستغاثت بالسبط وهو صريع
بدموع دفاقة كسيول
أبتا ما ترى صنيع عداكم
سلبوني من بعد قرطي حجولي
كلما مررت بهذه الحادثة يتفتت كبدي لوعة وينصدع قلبي حرقة، إنها ولا اُغالي لو قلت من القصص المروعة والحكايات المحزنة التي تثير اللوعة وتبعث الشجا وتستدر الدمعة وتستدعي العبرة ولعل مستغرباً يستغرب مثل هذه القصة ويعدها من ضروب الاقاصيص، أما الشكاك والمنحرف فندعه وعقيلته السخيفة التي قادته إلى التشكيل في مسلمات التأريخ وقطعياته، أما غير هذه المتعجرف وسوى هذا المتطرف إذ يرتاب فيها من ناحية صدور هذه البلاغة ووقوع هذه الإبانة العجيبة الأسلوب من طفلة صغيرة السن فلا ريب أن هذه المستريب جاهل بأهل البيت النبوي وما خصهم الله به من الذكاء الفطري وجبلهم عليه من الإفصاح.
للمؤلف:
إن كانت الطفلة في سنها
صغيرة فالعقل منها كبير
لأنها تنمى إلى دوحة
فيحاء تزهو وسط روض نضير
فروعها خير شباب الورى
وحيدر الأصل وطاها البشير
أوراقها تزهو وأغصانها
تسبق إذ تسقى بخير وخير
ينمو به الفرع ويزهو كما
تزهو النباتات بماء نمير
بيان هذي البنت إرث لها
من صاحب الإسرا أتى والغدير
من يستحق التأبين عند الناس:
لا ريب أن التأبين وهو تعداد محاسن الميت كماعرفوه إنما يستحقه العظيم من الناس لشرفه وسؤدده ولأعماله الصالحة ولمآثره الجميلة أو لأن له منزلة عظيمة من المحبة في قلب المؤبن فعند ذلك يلقي كلمات التوجع ويفوه بألفاظ التأسف ويظهر التفجع له.
ومن هنا تعرف إن للعباس (ع) عند أخيه الحسين (ع) أعظم المنازل وأسمى المراتب لمحبته إياه ولفرط إعجابه به لا من حيث الأخوة وإن كانت بعض المقتضي للمحبة بل من حيث الأعمال الصالحة والمآثر الكريمة والطباع الفاضلة والسجايا المحمودة، وإنه أعظم من ضحى نفسه أمامه وفاداه، وإنه أشدهم همة في المحامات عنه وأفضلهم شجاعة وأكثرهم براً وألفاظاً به، وأسرعهم قياماً بخدمته وأحسنهم إيثاراً له ومناصحة، فتلك الأسباب وغيرها أبنه بما سمعت وإلا فقد تسمع كمية من استشهد مع الحسين (ع) من إخوته ولعل عددهم يزيد على خمسة عشر وكل واحد منهم كان حبيباً إليه فما سمعنا أنه بكى على واحد منهم أو قال عند قتله: الآن أنكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي على ما ذكره السيد هبة الدين الشهرستاني في النهضة الحسينية(18).
والفقيد الذي يوجب أفتقاده شماتة الأعداء وذهول الرئيس الحازم عن تدبير الحيلة في المصلحة الحربية المهمة في مقابلة العدو المتكالب لفقيد عظيم ومنزلته لا تقاس بها منزلة ورتبته لا ندانيها رتبة، وقد دل دلالة واضحة أن أثره في حياته كان كبيراً حتى يكون أهلاً لئن يوصف بهذه الأوصاف وإنما يشمت العدو بفقد من يعد فقده كسراً في عدوه ووهناً عظيماً في ناحية خصمه.
ولست أستريب أن هذه الكلمات الثلاثة من سيد الشهداء وردت لبيان فضيلة العباس (ع) وكشف حقيقته المخفية على الجاهلين بقدره، وإن له منزلة عظيمة بل هي أعظم منازل الشهداء معه وأرفعها وأعلاها وهو مع ذلك فقد كان باب الحسين كما كان أمير المؤمنين علي أبوه باب رسول الله (ص) ومنزلته منه تلك المنزلة، فقد كان رسول الله (ص) يعد علياً (ع) لكل عظيمة ويدعوه عند كل نازلة ويختصه ويحبوه ويكرمه، وكذلك كان أبو الفضل العباس (ع) عند الحسين (ع) يعده لكل عظيمة ويدعوه لكل نازلة كما سمعت من حديث رد العسكر الزاحف إليه يوم التاسع وبعثه لجلب الماء من الفرات وأنتدابه لا ستنقاذ أصحابه الذين أقتطعهم جيش عمر بن سعد.
قال هبة الدين الشهرستاني في نهضة الحسين (ع)(19): كان الحسين (ع) مستميتاً ومستميت كل من كان معه، وكانت أنفسهم الشريفة متشربة من كأس التضحية وريانة من معين التفادي، وفي مقدمة هؤلاء أبو الفضل أكبر إخوة الحسين (ع) الممتاز في الكمال والجمال، وقمر بني هاشم، وحامل راية الحسين (ع)، وعقيد آماله في المحافظة على رحله وعياله لذلك شق على الحسين (ع) إن يأذن له بالبراز إلى الأعداء ألخ. للمؤلف:
قل لأبي الفضل عليه السلام
شبل علي الطهر مولى الأنام
فدتك نفسي ونفيسي معاً
يابن إمام وأخاً للإمام
نلت على رغم العدى رتبة
مقامها في العز أسمى مقام
قد كنت باب أبن نبي الهدى
وركن جيش السبط عند الخصام
والجيش بالركن كما حققوا
يقوي إذا أتقن عقد النظام
وتحمل الراية قدامه
تضرب بالسيف وجوه الطغام
نظمت بالرمح الكلي طاعناً
وناثراً بالسيف أيد وهام
تنفض كالصقر ولكنما
صيدك صيد القوم دون الحمام
أوصلت فالليث سطى مغضباً
مستبدل الأنياب حد الحسام
فلا يلام السبط لما مضى
محدوب الظهر يؤم الخيام
إن الأخ الناصح فقدانه
ليقصم الظهر أشد أنقصام
لو سيم بالدنيا لما باعه
ومن سمى الأقران أنى يسام
وإن من كنت له ناصراً
يابن علي أبداً لن يضام
مقتبس من كتاب (بطل العلقمي) للعلامة الشيخ عبدالواحد المظفر
1ـ أسرار الشهادة: ص321.
2ـ مصائب المعصومين: ص360.
3ـ عوالم العلوم: ص95.
4ـ أسرار الشهادة: ص323.
5ـ راجع مروج الذهب 1/180.
6ـ السيرة الحلبية 3/ 295.
7ـ السيرة الحلبية 3/260.
8ـ السيرة الحلبية 3/347.
9ـ نفسه 3/348.
10ـ تاريخ مدينة دمشق 4/337.
11ـ نفسه 4/227.
12- العقد الفريد 2/163.
13ـ مفتاح الأفكار 1/148.
14ـ أسرارا الشهادة: ص467.
15ـ الملهوف: ص262.
16ـ تاريخ الطبري 6/ 262.
17ـ أسرار الشهادة: ص468.
18-النهضة الحسينية: ص106.
19ـ نهضة الحسين : ص 104.