أدب الدعاء في الإسلام بقلم السيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلى الله على سادتنا محمد وآله الاطهار . حقيقة الدعاء والادعية الماثورة إن الدعاء ـ في حقيقته ـ يمثل المعاني القيمة ، التي تتبلور في نفس الداعي ، ويستتبع التوجه العميق إلى الذات الالهية ، فالفناء في وجوده الواجب ، ثم الرجوع إلى عالم المادة ، لاداء مهمة الروح العليا ، روح العدالة والحق والصدق وبالتالي : الخلاص من كل العبوديات . وفي هذا السفر السريع البطيء ، والطويل القصير ، لاحاجة إلى أي شيء ، سوى التركيز على نقطة المبدأ ، ومركز الانتهاء . فلا يمكن أن نقيد الدعاء ـ بعد أن كان عملا روحيا ـ بأي قيد ، من زمان أو مكان أو لفظ ، ولا بأية لغة أو صيغة أو نص . وقد رسم الامام الصادق ، أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام الفكرة خطة واضحة ، في الحديث التالي : عن زرارة ، قال ، قلت لابي عبد الله عليه السلام : علمني دعاء ؟ فقال : إن أفضل الدعاء ما جرى على لسانك (1) . فإذا كان الداعي لم يطق أن يستوعب أكثر مما يجري على لسانه ، فإن ذلك يكفيه ، والمهم أن يكون ملتفتا إلى اساس الدعاء ولبه وهو التركيز على نقطة المبدأ ومركز الانتهاء ، في سيره الروحي . وقد أفصح الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الحقيقة لما سأل رجلا : كيف تقول في الصلاة ؟ فأجاب الرجل : أتشهد ثم أقول : « اللهم إني أسألك الجنة ، وأعوذ بك من النار » . وأضاف الرجل : أما أني ـ والله ـ لا احسن دندنتك ، ولا دندنة معاذ . فقال صلى الله عليه وآله وسلم : حولها ندندن (2) . لكن الاسلام قد حدد للدعاء المختار حدودا ، وقرر له شروطا ، راعى في ذلك بلوغه الى الكمال المطلوب ، ومن ذلك ما يرتبط بالفاظه ولغته . ففي الوقت الذي اكد على جوانب معناه واهدافه ، لم يهمل جانب ادائه وصيغته . والحق ، انا إذا أردنا أن نركز التفاتنا كاملا ، فإن كل الحواس ـ وهي ترتبط بواسطة الاعصاب بعضها بالاخرى ـ لابد أن تتجه وتلتفت سواء الحواس الخارجية وجوارحها ، أم الحواس الباطنية وقابلياتها ، وحاسة النطق ـ وهي المعبرة عن الجميع ـ وآلتها اللسان ، لابد أن تتحرك اعصابه ، فتكون كلمة الداعي ____________ ( 1 ) وسائل الشيعة 4|1171 . ( 2 ) الاسماء المبهمة ـ للخطب البغدادي ـ : 116 رقم 63 وانظر : كنز العمال 2|88 . حاسمة ، وتكون الفاظ الدعاء مركزة موجهة . اليست الالفاظ تعبيرا عن مكامن الضمير ، وسرائر الوجدان ؟ اليست الكلمات النابعة عن طلبات الروح ، اصدق دليل على التركيز في التوجه والالتفات ؟ ومن يدري ? ! فلعل العبد الداعي يكون اقرب الى مولاه الجليل ، عند بعض الحالات ، وأداء بعض النغمات ، وتلاوة بعض الكلمات ، وفي بعض المقامات والاوقات ؟ دون غيرها ؟ ! إن النية الواحدة ، قد تصاغ باشكال مختلفة ، وتؤدى باساليب متنوعة ، وقد تصحبها أنغام متفاوتة . فأيا منها نختار ؟ لنتوسل به الى هذا السر الروحي ، ونتزود منه على هذا الطريق الصعبة ، ونتوصل بسببه الى النتيجة المنشودة . ما اروع للداعي ، لو عرف ، او تنبه الى اجمل لفظة في ابدع اسلوب ، والى اليق تعبير في ارق نغمة ، وكان دعاؤه نابعا من اعماق الضمير ، ليكون ارغب الى مقام الانس ، واقرب الى حظيرة القدس ، وآكد في تحقيق رغبات النفس . اليس هذا هو الاحسن ، والاضمن لحصول الاجابة ؟ لكن ليس الافراط في المحافظة على اللفظ ، والتوغل في مراعاة اداء الحروف وضبط الحركات ، هدفا للمتكلم الواعي ، ولا غاية للانسان الهادف ، فضلا عن المسلم الذي يقوم بمهمة عظيمة مثل الدعاء . فان الدعاء ـ قبل ان يبلور في الجمل والكلمات ـ انما هو نور مضي ينقدح فيفيض عفى اللسان ، ولو كان القلب كدرا لم ينقدح فيه ذلك النور ، فاين له ان يظهر على لسان صاحبه ، الدعاء ؟ ! قال الامام الصادق عليه السلام : تجد الرجل لا يخطئ بلام ولا واو ، خطيبا مصقعا ولقلبه اشد ظلمة من الليل المظلم (3) . وهكذا الانهماك في تطبيق القواعد اللفظية ، بما يصرف توجهه عن المعاني ويقطع التفاته عن الهدف . وهو ما ذكره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما روي عنه ، من قوله : من انهمك في طلب النحو سلب الخشوع (4) . نعم ، أن أغفال جانب اللفظ وحسن التعبير ، وصحح النص وسلامة العبارة عيب ، بلا ريب ، في الدعاء يحطه عن مرتبة الكمال اللازم في كل جوانب الدعاء من لفظه ومعناه ، ولابد للداعي العارف ، المتمكن من ذلك أن يتصف به ، فيكون دعاؤه بمستوى ما يطلب من المقام الرفيع المنشود . ومن هنا ورد التاكيد البليغ على اتصاف الدعاء بالادب ، ويراد به « الادب العربي » في مراعاة القواعد اللغوية والنحوية والبلاغية ، إذا بلغ الداعي مرتبة عالية من العلم والمعرفة ، وبلغ من الدين والعقيدة مبلغا يحسن مثل هذا الطلب منه . قال الامام ابو جعفر محمد بن علي ، الجواد عليه السلام : ما استوى رجلان في حسب ودين ـ قط ـ الا كان افضلهما عند الله آدبهما . قال الراوي : جعلت فداك ، قد علمت فضله عند الناس ، في المنادي والمجالس ، فما فضله عند الله عزوجل ؟ ! قال عليه السلام : بقراءة القرآن كما انزل ، ودعائه الله عزوجل من حيث لايلحن ، وذلك ان الدعاء الملحون لا يصعد الى الله عزوجل (5) . ان الكمال اللازم يجب ان يعم ادب الداعي ومعارفه ، فيكون كاملا في لغته التي يتقدم بالدعاء بها ، بعيدا عن اللحن المزري ، فان الله يحب ان يرى ____________ ( 3 ) الكافي ـ الاصول ـ 2|422 . ( 4 ) بحار الانوار 1|7 ـ 218 . ( 5 ) عدة الداعي : 18 ، وسائل الشيعة 4|1107 ، وانظر : كنز العمال 2|293 . عباده يناجونه باحسن ما يناجي به احد احدا . أليس القرآن ـ وهو كلام الله ـ نزل بابلغ ما يكون الكلام وأعذبه ، فليكن ما يخاطب به العبد مولاه ـ كذلك ـ في أوج ما يقدر عليه من الكلام الطيب والذكر البديع ، المنزه عن عيب اللحن ، والوهن . إن الاسلام ـ في الوقت الذي ينص على الاكتفاء بما يجري على اللسان من الدعاء ، إذا لم يعرف الداعي نصا ماثورا ، لان ذلك ادنى ما ياتي منه ـ فإنه لا يكتفي ممن يمكنه الوصول إلى الماثور ، أن يقتنع بالدعاء الذي يخترعه من عند نفسه . عن عبد الرحيم القصير ، قال : دخلت على ابي عبد الله عليه السلام ، فقلت : جعلت فداك ، إني اخترعت دعاء ! قال عليه السلام : دعني من اختراعك . إذا نزل بك امر فافزع الى رسول الله عليه وآله وصل ركعتين تهديهما الى رسول الله صلى الله عليه وآله . . . (6) . وعلمه دعاء يتلوه . إن الدعاء الماثور ، هو ـ بلا ريب ـ أقوى ، وأصدق ، وأضبط ، فهو أوصل إلى المطلوب ، مما يخترعه ذهن الانسان العادي ، ويلوكه لسانه |
إعـــــــلان
تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.
أدب الدعاء في الإسلام
تقليص
X
-
أدب الدعاء في الإسلام
الكلمات الدلالية (Tags): لا يوجد
- اقتباس
تعليق