بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورَحَمُةّ الله وبُرَكآتُهْ
اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورَحَمُةّ الله وبُرَكآتُهْ
قَالَ تَعالَى في كتابِهِ الكريمِ :﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، سُورَةُ الجُمُعَةِ ، الآية 8.
الفَاءُ في قولِهِ: " فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ " في مَعنَى جَوابِ الشَّرطِ ، وفيهِ وَعيدٌ لَهُم بأنَّ الموتَ الّذي يَكرهونَهُ كراهةً أنْ يؤاخذوا بوبالِ أعمالِهِم فإنَّهُ سيُلَاقِيهِم لَا مَحالَةَ ثُمَّ يُردونَ إلَى رَبِّهِم الّذي خَرجوا مِنْ زَي عبوديتِهِ بمظالِمِهِم وعَادوهُ بأعمالِهِم وهو عالمٌ بحقيقَةِ أعمالِهِم ظَاهرُهَا وباطنُهَا فإنَّهُ عالمُ الغَيبِ والشَّهَادَةِ فينبئِهُم بحقيقَةِ أعمَالِهِم وتبعَاتِهَا السَّيئَةِ وهَي أنواعُ العَذابِ.
ففَي الآيةِ إيذانِهِم أولاً: أنَّ فرارَهُم مِنَ المَوتِ خَطأ مِنْهُم فإنَّهُ سَيدرِكَهُم ويلاقِيهُم، وثَانياً: أنَّ كراهتَهُم لِقاءَ اللهِ خَطأً آخَرَ فإنَّهُم مَردودونَ إليهِ مُحاسبونَ علَى أعمالِهِم السَّيئَةِ، وثَالثَاً: أنَّهُ تَعالَى لَا يَخفَى عليهِ شئٌ منْ أعمالِهِم ظَاهرِهَا وباطنِهَا ولَا يحيقُ بهِ مَكرِهِم فإنَّهُ عالمُ الغَيبِ والشَّهَادَةِ.
ففي الآيةِ إشارةٌ أولاً: إلَى أنَّ الموتَ حَقٌّ مَقضي كَمَا قالَ: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾، سُورَةُ آلِ عِمراَنَ، الآية 185،وقالَ:
﴿ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾، سُورَةُ الوَاقِعَةِ ،الآية 60.
وثَانياً: أنَّ الرُّجوعَ إلَى اللهِ لِحسابِ الأعمالِ حَقٌّ لَا رَيبَ فيهِ.
وثَالثاً: أنَّهُم سيوقفونَ علَى حقيقةِ أعمالِهِم فيوفونَهَا.
ورابعاً: أنَّهُ تَعالَى لَا يَخفَى عَليهِ شَئٌ منْ أعمالِهِم ولِلإشارَةِ إلَى ذلكَ بَدَلَ إسمِ الجَّلالَةِ مِنْ قولِهِ تَعالَى : ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾. تفسيرُ المِيزانِ ، السَّيدُ الطباطبائي ، ج 19 ، ص 268.
وفي الكَافي بإسنادِهِ عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: ( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا لَنَا نَكْرَهُ اَلْمَوْتَ فَقَالَ لِأَنَّكُمْ عَمَرْتُمُ اَلدُّنْيَا وَ أَخْرَبْتُمُ اَلْآخِرَةَ فَتَكْرَهُونَ أَنْ تُنْقَلُوا مِنْ عُمْرَانٍ إِلَى خَرَابٍ فَقَالَ لَهُ فَكَيْفَ تَرَى قُدُومَنَا عَلَى اَللَّهِ فَقَالَ أَمَّا اَلْمُحْسِنُ مِنْكُمْ فَكَالْغَائِبِ يَقْدَمُ عَلَى أَهْلِهِ وَ أَمَّا اَلْمُسِيءُ مِنْكُمْ فَكَالْآبِقِ يَرِدُ عَلَى مَوْلاَهُ قَالَ فَكَيْفَ تَرَى حَالَنَا عِنْدَ اَللَّهِ قَالَ اِعْرِضُوا أَعْمَالَكُمْ عَلَى اَلْكِتَابِ إِنَّ اَللَّهَ يَقُولُ: ﴿ إِنَّ اَلْأَبْرٰارَ لَفِي نَعِيمٍ `وَ إِنَّ اَلْفُجّٰارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾، سُورَةُ الإنِفِطَارِ ،الآية 13، قَالَ فَقَالَ اَلرَّجُلُ فَأَيْنَ رَحْمَةُ اَللَّهِ قَالَ رَحْمَةُ اَللَّهِ ﴿ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ ﴾، سُورَةُ الأعرافِ ،الآية 56)، الکافي ، ج 2 ، ص 458.
فالنَّاسُ - مثلاً - يرونَ أنَّ الأصالةَ لِحياتِهِم المَاديَّةِ حتَّى قالَ قائِلُهُم: ﴿ وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾، سُورَةُ الجَاثيَةِ ، الآية 24، والقرآنُ يُنَبِهَهُم بقولِهِ: ﴿ وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾، سُورَةُ العَنكَبوتِ ،الآية 64، ويرونَ أنَّ العِلَلَ والأسبابَ هي المُولِّدَةُ للحَوادثِ الحَاكِمَةِ فيهَا مِنْ حياةٍ وموتٍ وصِحَةٍ ومرضٍ وغنىً وفقرٍ ونعمَةٍ ونقمَةٍ ورزقٍ وحرمانٍ ، ﴿ .....بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.... ﴾، سُورَةُ سَبَأ: 33، والقرآنُ يَذكرُهُم بقولِهِ: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾، سُورَةُ الأعَرافِ،الآية 54، وقولِهِ: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ ﴾، سُورَةُ يُوسُفَ ،الآية 67، وغيرَ ذلكَ منْ آياتِ الحِكمَةِ، ويرونَ أنَّ لَهُم الإستقلالَ في المَشيَةِ يفعلونَ مَا يشاؤونَ والقرآنُ يُخطئُهُم بقولِهِ: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾، سُورَةُ الإنسَانِ الآية 30، ويرونَ أنَّ لَهُم أنْ يُطيعوا ويَعصوا ويَهدوا ويَهتدوا والقرآنُ يُنَبِئُهُم بقولِهِ: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾، سُورَةُ القَصَصِ الآية 56.
ويرونَ أنَّ لَهُم قوةٌ والقرآنُ يُنْكِرُ ذلكَ بقولِهِ: ﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾، سُورَةُ البَقَرَةِ ، الآية 165.
ويرونَ أنَّ لَهُم عِزةٌ بمالٍ وبنينَ وأنصارٍ والقرآنُ يَحكُمُ بِخلافِهِ بقولِهِ: ﴿ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾، سُورَةُ النِّسَاءِ 139، وقولِهِ: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، سُورَةُ المنَافِقونَ الآية 8.
ويرونَ أنَّ القتلَ في سبيلِ اللهِ موتٌ وإنعدامٌ والقُرآنُ يَعُدُّهُ حياةً إذْ يقولُ: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ﴾، سُورَةُ البَقَرَةِ ، الآية 154،
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيْـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾، سُورَةُ البَقَرَةِ ، الآية 216.
إلَى غيرِ ذلكَ منَ التَّعاليمِ القُرآنيَّةِ الّتي أمرَ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنْ يَدعو بِهَا النَّاسُ قالَ: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾، سُورَةُ النَّحْلِ ،الآية 125.
وهيَ عُلومٌ وآراءٌ جَمَّةٌ صَوَّرَتْ الحياةَ الدُّنيَا خِلَافَهَا في نُفوسِ النَّاسِ وزَينَةً فَنَبَهَ تعالَى لَهَا في كتابِهِ وأمرَ بِتعليمِهَا رسولَهُ ونَدَبَ المؤمنينَ أنْ يتواصَوا بِهَا كَمَا قالَ: ﴿ وَالْعَصْر ِإِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْر ٍإِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر ِ ﴾، سُورَةُ العَصْرِ الآية 3، وقالَ: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾، سُورَةُ البَقَرَةِ ، الآية 269.
فالقرآنُ بالحقيقةِ يَقلِبُ الإنسانَ في قَالبٍ مِنْ حيثِ العِلمِ والعَملِ حديثٌ ويصوغَهُ صَوغاً جَديداً فيحيَى حياةً لَا يَتعقَبُهَا موتٌ أبداً، وإليهِ الإشارةُ بقولِهِ تَعالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾، سُورَةُ الأنْفَالِ الآية 24، وقوله: ﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾، سُورَةُ الانعَامِ الآية 122.
لا يوجد كمالٌ للإنسان أجلّ وأرفع من لقاءِ اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى، وهو مِنْ أسمَى مقاماتِ الإنسانيَّةِ الشَّامخَةِ ، ولَا سَعادةَ أكبرُ للمؤمنِ منَ التقرّبِ إلَى اللهِ تَعالَى صاحبِ الكمالِ المَحضِ، والقُّدرَةِ اللَامحدودةِ، والعلمِ المُطلَقِ، ولَا راحةَ أعلَى منْ اليقينِ بأنّ الإنسانَ لَا محالةَ راجعٌ إلَى ربٍّ ودودٍ رحيمٍ.
إنّ أكثرَ منْ يستشعرُ هذهِ المَعاني السَّاميَّةُ جيداً، ويتوقُ إلَى هذهِ المَنازِلِ الرَّفيعَةِ، ويصبو إليها دائماً هو ذلكَ الإنسانُ العَاشقُ للشَّهادَةِ في مِتراسِ الحَربِ وثغورِ الجِّهادِ، لأنّ قلبَهُ لمْ يتعلّقُ بشيءٍ إلَّا باللهِ تَعالَى الحيِّ الّذي لَا يفنى ، ومِنْ أرقى مصَاديقِ هذا الإنسانُ : اَلْقَاسِمُ بْنُ اَلْحَسَنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ (عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ) ،
اَلْقَاسِمُ رضوانُ اللهِ عليهِ علَى صِغَرِ سنِّهِ بحيثْ عُبِّرَ عَنْهُ أنَّهُ لمْ يبلغَ الحُلُمَ (كانَ عُمرُهُ حَوالي 12 أو 13 سَنَة)، كانَ مُتهيّئاً لِنُصرةِ عَمِّهِ الحُسينِ ومُتدرّباً علَى القِتَالِ كالفُرسانِ والشُّجعَانِ، وليسَ عَجيباً أمرُهُ إذْ أنَّهُ إبنُ الحَسنِ وجَدُّهُ أميرُ المؤمنينَ وتَربَّى في حِجرِ الحُسينِ فَغَدا كاملاً في أخلاقِهِ وإيمانِهِ وثباتِهِ، وقدوةِ للعَارفينَ والسَالكينَ إلَى اللهِ في عِشقِهِ للشَّهادَةِ، يسألُهُ الحُسينُ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)عندمَا أرادَ القَاسِمُ أنْ يعرَفَ هلْ هوَ في جُملةِ منْ يُرزقوا الشَّهادةَ- كمَا بَشِّرَ بهَا الإمامُ الحُسينُ أصحابَهُ ليلةَ عاشوراءَ-، فقالَ لَهُ القاسمُ بنُ الحَسنِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): وأنا فيمَنْ يُقتل؟ فأشفَقَ عليهِ، فقالَ لَهُ: يا بُني، كيفَ الموتُ عندَكَ؟ قالَ: يَا عمُّ، فيكَ أحلَى مِنَ العَسَلِ، فقالَ: إي واللهِ فداكَ عَمُكَ، إنَّكَ لأحَدَ منْ يُقتلُ منَ الرِجالِ مَعي، بعدَ أنْ تبلوَ ببلاءٍ عَظيمٍ، ويُقتلُ إبني عبدُ اللهِ ، فبشَّرُهُ الحُسينُ بالشَّهادَةِ وأنَّهُ في جُملَةِ منْ يكونَ لَهُم هذا الفوزُ وهذهِ السَّعادةُ معَهُ مِنَ الشُّهداءِ....
ولذلكَ بعدَ أنْ قُتِلَ أصحابُ الحُسينِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يومَ عاشوراءَ وبرزَ للقِتالِ أبطالُ بني هاشمٍ الّذينَ إرتضَعوا منْ ثَدي الفُتوّةِ ولِبانِ الشَّجَاعَةِ، وقُتِلَ عليّ الأكبرِ وجملةٌ منْ شبابِ بني هاشمٍ، وسَمِعَ القَاسمُ نداءَ عمِّهِ الحُسينِ وا غُربتَاهُ، وا قلّة ناصراه، أمَا مِنْ مُعينٍ يُعيننَا؟! أمَا مِنْ ناصرٍ ينصرُنَا؟! أمَا مِنْ ذابٍّ يذبّ عنّا؟! خرجَ القاسمُ إلَى عَمِّهِ الحُسينُ قائلاً: لبّيكَ سيّدي يا عمّ يا أبا عبدِ اللهِ، فلمَّا نظرَ إليهِ الحُسينُ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وكانَ أشبَهَ بأبيهِ الحسنِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) إعتنَقَهُ وجَعلَا يبكيانِ حتّى غُشِيَّ عليهِمَا (ولعلّ هذا الوداعُ لمْ يَحصُلُ إلّا معَ القَاسم)..فلمّا أفاقا طَلبَ القاسمُ المبارزةَ فأتَى الحُسينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فقالَ: يا عمّاهُ لَا طاقةَ لي علَى البقاءِ وأرَى بني عُمومَتي وأخوتي مُجزَّرينَ، وأراكَ وحيداً فريداً، فقالَ لَهُ الحُسينُ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): يا أبنَ أخي أنتَ الوديعَةُ منْ أخي، أنتَ العَلامَةُ... فلمْ يزَلُ القاسمُ يُقبّلُ يديَ عمَّهُ ، فقالَ لَهُ الحُسينُ: بُني قاسمُ أراكَ تمشي إلَى الموتِ برجلَيكَ، قالَ وكيفَ لَا يكونُ ذلكَ وأنتَ بقِيتَ بينَ الأعداءِ وحيداً فريداً لَا تَجِدُ ناصراً ومعيناً روحي لِروحِكَ الفِداءُ ونَفسي لِنَفْسِكَ الوِقَاءُ، عِندهَا قالَ لَهُ الحُسينُ: بُني قاسمُ إليّ إليّ، فدنَا منْهُ القاسمُ، فجاءَ بهِ الحُسينُ إلَى الخيمَةِ وأتى بصندوقِ الإمامِ الحَسنِ المسمومِ الّذي فيهِ ودائعَهُ وملابِسَهُ ولَامةَ حَربِهِ، فأخرجَ الحُسينُ ملابسَ الحَسنِ وعمامتِهِ وسيفِهِ وقلّدَ القاسمَ ، السَّيفَ، وشقَّ أزياقَهُ، وقطعَ العمامَةَ نصفينِ وأدلَاهَا علَى وجهِهِ، ثُمَّ ألبسَهُ ثيابَهُ علَى صورةِ الكَفنِ ، ثُمَّ قالَ: ولدي قاسمُ أبرزْ (ولكن قبل ذلك ودّع أمّك وأخواتك) وما أصعبَهَا منْ سَاعةٍ، ثُمَّ إنحدَرَ القَاسمُ نَحو المَيدانِ ودموعُهُ جاريَةٌ علَى خَدّيهِ، وهو يقاتلُ قتالَ الرجالِ الأبطالِ الشُّجعانِ، فأنكرَهُ بعضُهُم وصَاروا يتساءلونَ منْ] هذا الفَتى الّذي يقاتلُ قتالَ الأبطالِ، فأنشأ يقول:
إِنْ تُنْكِرُونِي فَأَنا نَجْلُ الحَسَنْ ................. سِبْطِ النَّبِيِّ المُجْتَبَى والمُؤْتَمَنْ
هَذا حُسَيْنٌ كَالأَسِيرِ المُرْتَهَنْ ................بَيْنَ أُناسٍ لا سُقُوا صَوْبَ المُزُنْ
يقولُ حميدُ أبنُ مُسلمٍ خرجَ علينَا القاسمُ ووجهُهُ كفلقَةِ قَمرٍ طالعٍ ، بيدهِ السَّيفِ يضربُ بهِ قُدماً قُدماً ، و عليهِ قميصٌ وأزارٌ وفي رجليِهِ نَعلانِ ، فبينَمَا هو يُقاتِلُ أذْ أنقطعَ شسعُ نعلِهِ و لَا أنسَى أنَّها اليُسرى ، فوقفَ لِيشُدهَا ( وكأنهُ لا يحسب حساباً للجيش لشجاعته العظيمة ) و كان عمر بن سعد بن نفيل الأزدي (لعنه الله) إلَى جانبهِ ، فقالَ : واللهِ لأشدّنَ علَى الغُلامِ ، و لأُثكلنَ بهِ أمَّهُ ، فقيل لهُ يا هذا يكفيك ما بهِ و قد أحتوشوه من كل جانبٍ و مكان ، قال : والله لأفعلن ، فشدَّ على الغُلام فما ولى حتَّى ضَربَ الغُلامَ بالسَّيفِ علَى رأسِهِ ، ففلَقَ هامتَهُ ..
فخرَّ إلَى الأرضِ صَريعاً يُنادي: عليكَ منّي السَّلامُ يا عمّاهُ أدركني.. فجاءَهُ الحُسينُ كالصَّقرِ المُنقضِّ فتخلّلَ الصفوفَ، وشدّ شدّةَ الّليثِ المُغضَبِ ، فرَّقَ الأعداءَ عنْ مصرعِ إبنِ أخيهِ (رحم الله المنادي واقاسماه وا مظلوماه) وجَدَهُ يفحصُ بيديهِ ورجليِهِ، نادَى: بُنّي قاسمُ عزَّ واللهِ علَى عمِّكَ أنْ تدعوهُ فلَا يُجيبَكَ، أو يجيبَكَ فلَا يعينَكَ، أو يعينَكَ فلَا يُغني عنكَ، بُعداً لقومٍ قتلوكَ، ومنْ خصمُهُم يومَ القِيامَةِ جدُّكَ وأبوكَ، هذا يومٌ والله كثُرَ واتِرُهُ وقلّ ناصرُهُ.
وأُستُشهِدَ القاسمُ بنُ الحَسنَ وطَارت روحَهُ الَى المَلكوتِ، ولكنْ بقيِتْ مآثرَهُ وبطولتَهُ تُحَفِّزُ الفِتيانَ منْ موالي أهلِ البيتِ ومنَ المُسلميـنَ جميعاً علَى ضرورةِ التَّحدي للطُّغيانِ ونُصرةِ الحَقِّ .
ثمّ إنّ الحسينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وضعَ صدرَهُ علَى صدرِ القاسمِ، وحملَهُ إلَى المُخيّم -ساعد الله قلبك أبا عبد الله- (تقول الرواية: احتمله ورجلاه تخطّان في الأرض)، جاءَ بالقَاسمِ إلى الخيمةِ الّتي فيها عليّ الأكبرِ، وضعَهُ إلَى جنبِهِ، فجعلَ ينظرُ تارةً إلَى وجهِ الأكبرِ وإلَى وجهِ القاسمِ تارةً أُخرَى، وهو يكفكفُ دموعَهُ بكمِّهِ، وتَمدّدَ بينهمَا وأخذَ يُقبِّلُهُما وينادي (واولداه واعليّاه، واقاسماه وابن أخاه).