بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورَحَمُةّ الله وبُرَكآتُهْ
اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورَحَمُةّ الله وبُرَكآتُهْ
عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قَالَ: ( كَتَبَ اَلْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مِنْ مَكَّةَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ - بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ مِنَ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَ مَنْ قِبَلَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ لَحِقَ بِي اُسْتُشْهِدَ وَ مَنْ لَمْ يَلْحَقْ بِي لَمْ يُدْرِكِ اَلْفَتْحَ وَ اَلسَّلاَمُ ). بحارُ الأنوارِ ، ج 45 ،ص87 ، كامل الزيارات،باب 24 ، ح15،ص75 .
إنَّ التَّمَعُّنَ بمُفرداتِ رسالةِ الإمامِ وهي:اللّحاقُ والشَّهادَةُ والتَّخلفُ والفَتْحُ، ومنْ خلالِ أحداثْ ومُؤشراتٍ تُنذِرُ بمؤامرةٍ خَطيرَةٍ تُحاكُ من أجلِ تمزيقِ دينِ اللهِ وهدمِ شرائعِ السَّماءِ،عندهَا سَنفهَمُ أنَّ الإمامَ كانَ يُؤسسُ ويُخَطِّطُ لتنفيذِ مشروعٍ هُوَ أملُ الأنبياءِ والمُرسلينَ ، هذا المشروعُ تُوجِزُهُ رسالةُ الإمامِ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتلكَ الكَلمَاتُ الأربعةِ الّتي حِينمَا نُقرأ عُمقَ التَّرابطِ بينَهَا سَنُدركُ قُدسيَّةَ وعظمةَ ثورةِ الإمامِ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .
إنَّ كلمة َ اللّحاقِ تَعني إدراكَ الشَّيء أو الوصولَ إليهِ أو الإنضمامَ اليهِ وإنَّ السّعيَ الجَادَّ منْ أجلِ اللّحاقِ يستلزمُ بطبيعَةِ الحَالِ السبَّبَ الحقيقي والرَّغبةَ الصَّادقَةِ لأدراكِ الشَّيءَ والإنضمامَ اليهِ، لِذا فَنِداءُ الإمامِ كانَ موجهاً لأصحابِ القلوبِ المُبصرَةِ، القلوبُ الّتي إمتلأتْ عِشقَاً للهِ فَمَلأها اللهُ عِشْقَ الحُسينِ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فاستَرخَصوا الأرواحَ وَشَرَوا صُحبَتَهُ، فلأجلِ الحُسينِ وأهدافِهِ يرخصُ كُلُّ شَيءٍ .
كمَا أنَّ الإمامَ أرادَ إلقاءَ الحُجّةَ وتبيانَ جوهرَ هذه النَّهضَةِ وأساسهَا ومُنطَلقهَا الفِكري والعقائِدي، وأنَّهُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمْ يَترُكَ البابَ مفتوحاً لأولئكَ الّذينَ تقاعَسوا عنْ نُصرَتِهِ ولمْ يَرغبوا بالِّلحاقِ بِهِ مِنْ أنْ يُحاولوا تَبريرَعدمِ خُروجِهِم بأعذارٍ وذرائعٍ قدْ تَصِلُ حَدَّ الُّلجوءَ لِتشويهِ حقيقةِ أهدافِهِ، أمرٌ قدْ يِنطلي علَى السُذّجِ منْ عَامَةِ النَّاسِ.
وكَلمَةُ الشَّهادةِ تَعني الإحتجاجُ أو الإخبارُ عنِ الحَقيقةِ قولاً أو فعلاً، قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿ ... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ... ﴾، سُورَةُ البَقَرةِ ، الآية: 282 ، ومِنْ هَذا المَعنى أُستُدِّلَّ علَى أنَّ الشَّهيدَ هو المَقتولُ في سبيلِ اللهِ، أي عندمَا يَسعَى صَادقاً لنيلِ مَرضاةِ اللهِ قولاً أو فعلاً فينالُ كرامةَ القَتلِ، سيكونُ حينهَا شَاهداً أو شهيداً علَى الحقيقةِ الّتي قَدِّمَ لأجلِهَا نَفسَهُ في سبيلِ اللهِ جَلَّ وعَلا.
وأمَّا الفَتْحُ فهو في الُّلغةِ نقيضَ الإغلاقِ، فـ "فَتَحَ" "ضِدْ أَغْلَقَ، كفَتَحَ الأبوابَ فأنفَتَحَتْ. والقرآنُ الكريمُ أورَدَ العديدَ منَ الآياتِ فيهَا كلمةُ الفَتْحِ، وهنَا نَكتفي بذكرِ مَوردينِ فقطْ من سورتَي النَصْرِ والفَتْحِ، حيثُ يكونُ فيهمَا معنَى الفَتْحِ أكثرُ وضوحاً، ففَي سورةِ النَصْرِ يقولُ البَاري جَلَّ وعَلا: ﴿ ... إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾، سُورَةُ النَّصْرِ.
ولتوضيحِ الإرتباطِ التَّكاملي بينَ المُفرداتِ الأربعةِ "اللّحاق والشهادة والتخلف والفَتْح" الّتي وردتْ في رسالةِ الإمامِ الحُسينِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، لَابُدَّ لنَا أولاً منِ التَّوقفَ لتوضيحِ الحقائقِ التَّاليَةِ:
لقدْ أشارَ السَّيدُ مُحَمَّدُ حُسينِ الطَّباطَبائِي في تفسيرِ المِيزانِ لأكثرَ مِنْ مَعنَى قيلَ في تفسيرِ كَلمَةِ الفَتْحِ في سورةِ النَصْرِ ولَعلَّ أهمّها هو فَتْحُ مَكةَ الّذي هو أمُّ الفُتوحاتِ، وهو النَصْرُ العظيمُ الّذي مَنَّ اللهُ بهِ علَى رسولِ اللهِ والمُسلمينَ فَبِه إنْكَسرتْ شوكةُ المُشركينَ وتُهَدِّمَ بُنيانَهُم.
الحقيقةُ الأولَى: إنَّ المَنهجَ الّذي إتّبعَهُ الإمامُ في تَعاملِهِ واستنهَاضِهِ للأُمَّةِ كانَ يَجري ضِمْنَ مَسارينِ، أمَّا المسارُ الأوَّلُ فهَو المَنهجُ الحَركيِّ والنَهضويِّ الّذي تَعاملَ بِهِ معَ عَامّةِ المُسلمينَ والّذي لَمٍ يَتَخطَى البُعدَ الواقعي أو الوجودي في سُلوكِهِ وتبنيَاتِهِ. وهذا المسلكُ كانَ يتماشى معَ المَنطِقِ الطَّبيعيِّ لِنَمَطِ الحياةِ ولمْ يعملْ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالولَايَةِ التَّكوينيَّةِ ولمْ يَتَخذْ المَعاجِزَ ولَا الأسرارَ الإلهيَّةِ وسائلَ منْ أجلِ إستنهاضِ الأمَّةِ، إنَّمَا كانتْ تَحركاتِهِ في عُمومِهَا مُنسجمةٌ معَ الحوادثِ والأسبابِ والمواقفِ وهو مَا أشرنَا إليهِ في بدايةِ هذا البَحثِ .
فالإمامُ تعاملَ معَ عَامَةِ النَّاسِ بِمَا يوافقُ العَقلَ ويتفِقُ معَ المَنطِقِ وينسجمُ معَ الأسبابِ والمُسبَّباتِ الّتي تَجري علَى الأرضِ بشكلٍ مَنطقيٍ وعقلائيٍ، كيفَ لَا وهو الإمامُ والحُجَّةُ وثِقلُ السَّماءِ علَى الأرضِ، فكانتْ تحركاتُهُ تتّسمُ بالحكمَةِ والتَّوازنِ ولمْ تَتجاوزُ حدودَ إدرَاكِ وأفهَام عَامَةِ النَّاسِ.
وأمَّا المَسارُ او المَنهجُ الثَّاني الّذي اتّبعَهُ الإمامُ في تعاملِهِ معَ الخَواصِّ منْ أصحَابِهِ وأهلِ بيتِهِ فكانَ مساراً معرفياً مرتبطٌ بالغَيبِ يتعاملُ معَ البصائرِ والأفهامِ والنُّفوسِ، مسارٌ أساسُهُ البُّعدُ الرُّوحيُ والأرتباطُ باللهِ جَلَّ وعَلا، قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... ﴾، سُورَةُ الأنعَامِ ، الآية: 59.
فعَنِ الإمامِ الصَّادقِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنَّهُ قالَ: (إنَّ الأرْضَ لاَ تَخْلُو إلاّ وَفيها إمامٌ، كَيْما إنْ زادَ المُؤْمِنونَ شَيْئاً رَدَّهُمْ، وإنْ نَقَصُوا شَيْئاً أتَمَّهُ لَهُمْ)، الكافي، ج1، ص1.
أفهو المنهجُ الّذي لَا يفهَمُهُ ولَا يُدرِكُ مَقامَه إلّا أولئكَ الّذينَ أرتَقوا مراتبَ المَعرفَةِ وَتَمكّنوا مِنْ إدراكِ الفُيوضَاتِ الإلهيَّةِ بقلوبٍ طَاهرَةٍ ونُفوسٍ زَكيَّةٍ، أولئكَ قدْ أدرَكوا الفَتْحَ المُشارُ إليهِ بِعينِ البَّصيرَةِ.
الحقيقةُ الثَّانيَّةُ: لقدْ كانَ الإمامُ في مشروعِهِ الإلهي ينتهجُ أسلوباً فريداً بكُلِّ أبعادِهِ منْ حيثُ التَّخطيطَ والإعدادَ والتَّهيئَةَ والتَّنفيذَ، فالفَتْحُ الّذي عَناهُ الإمامُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كانَ يحملُ مفهومَ الجَّمعِ بينَ النَصْرِ العَسكريِّ -الميداني-وبينَ الشَّهادَةِ الّتي أرادَ مِنْ خلالِهَا، نعمْ منْ خلالِ الدِّمَاءِ الّتي سالَتْ أنْ تتوقفَ عجلةُ الزَّمانِ لِيلتَحِقَ بهذا الرَّكبِ منْ أرادَ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ فينالُ بذلكَ الفَتْحُ المُبينُ،فتحٌ أرادَ بهِ الإمامُ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الجمعَ بينَ الحُسنيينِ، النّصرُ والشَّهادَةُ، وهذا مَا لمْ يُدركُهُ أحدٌ،ولقدْ أدركَهُمَا الأمامُ مَعاً.
إنّها دعوةٌ مستمرةٌ منَ الإمامِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لِمَنْ أرادَ الِّلحاقَ بهِ في أنْ يكونَ ضمنَ مشروعِ السَّماءِ، مشروعُ إعادَةُ الرُّوحَ لرِسالَةِ الإسلامِ المُحَمَّدِّيِّ العَلوي الّذي خَطَطَ لِتمزِيقِهِ شياطينَ الإنسِ أمثالَ أبناءِ آكلةِ الأكبادِ وسَليلَهُم الخَمَّارُ ومَنْ إتَبَعَهُم وسارَ علَى نهجِهِم الَى يومِ الدِّينِ .
إنَّ مَشروعَ الفَتْحِ المُبينِ قدْ كَشفَ فيهِ الإمامُ الحُجُبَ لأصحابِهِ يومَ الطَّفِ وأرَاهُم منازِلَهُم ومقاماتَهُم الرَّفيعَةِ في الجِّنانِ، فتسابقوا فرحاً وشوقا ً لِنُصرةِ الدِّينِ فَنَصرَهُم اللهُ .
لَقَد تَخَطّت ثورةُ الإمامِ المُبارَكَةِ حُدودَ الزَّمانِ والمَكانِ، فأصبَحتْ منارَةَ عِزٍّ وإباءٍ وأنَّ الدِّماءَ الزَاكياتِ الّتي أريقَتْ في كَربلاءَ إنَّمَا هَي وَهَجُ أملٍ باقٍ مَا بَقيَ الَّليلُ والنَّهارُ يُضيءُ بَصائرَ العُشَاقِ لِيَقْتَبِسَ مِنْهَا الأحرارُ مَا يُنيرُ بِهِ أبصَارِهِم ويُحقِقَ أهدافَهُم.
كُلُّ الّذينَ صَنعوا الإنتصاراتِ في التأريخِ تحولوا الَى تأريخٍ وانتصارتُهم تحولتْ الَى حوادثَ تأريخيّة تُقْرأ في بطونِ الكُتبِ ، وتُشاهَدُ في المَتاحفِ تماثيلَ وآثارَ .
أمَّا الامامُ الحُسينُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فلَمْ يبحثُ عنْ إنتصارٍ مَاديِّ محدودٍ ، لمْ يَكُنْ طالبَ سُلطَةٍ ، ولَايُريدُ أنْ يفتَحَ بُلداناً ويُسيطرُ علَى أراضٍ ويَقهَرُ شُعوباً كمَا يفعلُ الباحثونَ عنِ الإنتصَاراتِ والأمجادِ الشَّخصيّةِ .
الامامُ الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كانَ فاتحاً مِنْ طرازٍ آخرَ ، كانَ فاتحاً للقلوبِ الّتي استحكمَ فيهَا الجَّهلُ وللعقولِ المُغلَقَةِ الّتي يَلفَهَا الظَّلامُ ، ولِلأرواحِ الخَاضعَةِ لطُغيانِ بني أُمَيَّةَ وجبروتِهِم . الفتحُ الحُسَيْنِيُّ ظلَّ أثَرُهُ باقٍ الَى قيامِ السَّاعةِ ، وهذا الأثرُ لَايقوى على محوهِ مُستَبدٌّ ولاقُوةٌ غاشمةٌ .
كلُّ العروشِ سَقَطَتْ لأنَّهَا فَتحٌ آنِيٌّ دُنيويٌّ عَليهَا آثارُ الدُّنيَا الفَانيَةُ والفَتحُ الحُسينيُّ فَتحٌ الهيٌّ لَاتقوى علَى مَحوهِ أيَّةُ قُوّةٍ غاشمةٍ في هذا الوجودِ .
فسلامٌ على الفاتحِ بدمهِ القلوبَ العمياءَ ، والبصائرَ المعطوبةَ ، والفطرَ المُشَوَهَةَ ، والعقولَ الصدئةَ ، وعلى اهل بيته واصحابه ، الذينَ كتبوا بدمائِهم الزواكي ملحمةَ الخُلودِ.
السَّلامُ عَلَى الحُسينِ وعَلَى عَليِّ بنِ الحُسينِ وعَلَى أولادِ الحُسينِ وعَلَى أصحَابِ الحُسينِ .