بسم الله الرحمن الرحيم
فهمُ سلف الأمّة لحديث الغدير: الصحابيّ أبو الطفيل وأحمد بن حنبل أنموذجاً
بعض الشبهات التي طُرحت حول حديث الغدير كانت تدور بشكل أساسيّ حول دلالة الحديث وأنّه يشير إلى الولاية بمعنى المحبّة والنصرة وليس بمعنى النصّ على إمامة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكن بعض القرائن التاريخيّة تشيرُ إلى أنّ بعض المتقدّمين القريبين من زمن النصّ كانوا يفهمون معنىً آخر، أو أنّهم لم يفهموا الحديثَ بهذه البساطة التي يتناولها به بعضُ المتأخرين والمعاصرين، ومن هذه القرائن ما نُقل في وصف حال الصحابي أبي الطفيل (عامر بن واثلة) عند سماعه لحديث الغدير، وكذلك أحمد بن حنبل إمام الحنابلة عند سؤاله عن معنى الحديث.
أمّا ما يخصّ فهم أبي الطفيل: فقد روى أحمدُ بن حنبل في مسنده: (حدثنا حسين بن محمد، وأبو نعيم، المعنى، قالا: حدثنا فطر، عن أبي الطفيل، قال: جمع علي رضي الله عنه الناس في الرحبة، ثم قال لهم: أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم ما سمع، لما قام فقام ثلاثون من الناس، وقال أبو نعيم: فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذه بيده،فقال للناس: "أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟" قالوا: نعم يا رسول الله، قال: "من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه، وعادِ من عاداه"، قال: فخرجت وكأن في نفسي شيئاً، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له: إني سمعت علياً رضي الله عنه يقول: كذا وكذا، قال: فما تنكر؟ قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك له) [انظر: مسند أحمد، ج32، ص55-56، رقم الحديث 19302].
وقد رواه في كتابه (فضائل الصحابة) أيضاً، ورواه ابن حبّان في صحيحه، وغيرهما، ونكتفي في المقام بذكر الرواية الأصل من هذا الطريق، وما قاله المحققون في تصحيحها، وسنذكر ذلك مفصلاً في الوثائق المصورة الآتية.
وأمّا وجه الاستدلال بها فوَاضِحٌ؛ فإنّ أبا الطفيل عند سماعه حديثَ الغدير من أمير المؤمنين (عليه السلام) اضطرب حاله وجالَ الشكُّ في نفسه، ولذا بادره زيدُ بن أرقم عند الجواب بقوله: (فما تُنكر؟)، وجريان شيء في نفسه عند سماع الحديث يشيرُ بوضوحٍ إلى أنّه لم يفهم منه الدلالة على المحبة والنصرة وإلا لما بقي في نفسه شيء؛ لأنّ أبا الطفيل كان من محبي الإمام ومناصريه وقد شارك في حروبه كلّها، وسماعهُ للحديث قبل شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) بمائة يومٍ - كما في رواية ابن حبّان الآتية-، أي بَعْدَ عُمْرٍ قضاه في محبة أمير المؤمنين ونصرته، فلو كان الحديث يدلّ على النصرة والمحبة، فما الوجهُ في اضطراب أبي الطفيل وبقاء شيء في نفسه من هذا الحديث ولذا بادر لسؤال زيد بن أرقم عن ثبوته. وليُلاحظ أنّ جواب زيد بن أرقم (فما تُنكر؟) يوحي بأنّ حال أبي الطفيل وكلامه كانا ظاهران في الاستنكار أو الاستغراب من هذا الحديث، فأجابه بما أجابه وأخبره أنّه سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا بمجمله يقودنا إلى القول بأنّ ما فهمه أبو الطفيل من حديث الغدير لم يكن أمراً متعلقاً بالمحبة والنصرة فقط، وإنما لأمرٍ أكبر من ذلك بعثَ التعجّب في نفسه.
وأمّا ما يخصّ فهم أحمد بن حنبل: فقد روى أبو بكر الخلال بسندٍ صحيحٍ: (وأخبرني زكريا بن يحيى، أن أبا طالب حدثهم، أنه سأل أبا عبد الله عن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: «من كنت مولاه فعلي مولاه» ، ما وجهه؟ قال: «لا تكلم في هذا، دع الحديث كما جاء»)، انظر: السنة، المجلد الأول، ص346، رقم الحديث 458.
وروى بإسنادٍ آخر صحيح: (وأخبرنا أحمد بن محمد بن مط، أن أبا طالب حدثهم قال: سألت أبا عبد الله عن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: «من كنت مولاه فعلي مولاه» ، ما وجهه؟ قال: «لا تكلم في هذا، دع الحديث كما جاء»)، انظر: السنة، المجلد الأول، ص348، رقم الحديث 461.
فلو كان معنى حديث الغدير بهذا النحو من الوضوح في دلالته على المحبّة، فلِمَ ينهى ابنُ حنبل الآخرين عن البحث في دلالته ويأمرهم بروايته كما جاء دون التعرض لتفسيره وبيانه، فهل كان النبي يتكلم ليُهمل المسلمون البحثَ في دلالات حديثه؟! أم كان من اللازم أن يتمَّ التدبُّر في معاني كلامه للعمل به؟! فهل يجهلُ ابن حنبل معنى الحديث فعلاً أم أنّ نهيه عن الخوض في معناه ينطوي على حقيقةٍ لم يُرد لها الظهور؟!
الرواية عن أبي الطفيل في (مسند أحمد بن حنبل)
الرواية عن أبي الطفيل في (فضائل الصحابة) لأحمد بن حنبل
الرواية عن أبي الطفيل في (صحيح ابن حبّان)
تصحيح المحقق عامر حسن صبري التميميّ للرواية
تصحيح المحقق رياض عبد الحميد رياض للرواية
تصحيح المحقق حسين سليم أسد للرواية
تصحيح الألبانيّ للرواية