بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورحَمُةّ الله وبُركآتُهْ
اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورحَمُةّ الله وبُركآتُهْ
قَالَ البَاري عَزَّ و جَلَّ في الكِتَابِ الكَريمِ :﴿ وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾، سُورَةُ الإسْرَاءِ ، الآية 72.
قَدْ يَردْ سؤالٌ مِمَنْ يًسألُ فَيَقولُ : كيفَ يجوزُ أنْ يكونوا في الآخرةِ عُميَا ، وقَدْ تَظاهرَ الخَبَرُ عنْ الرِّسولِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قولُهُ : ( بأنَّ الخَلقَ يُحشرونَ كمَا بَدئوا سَالمينَ مِنَ الآفاتِ والعَاهاتِ )، الأمالی (للمرتضی) ، ج1، ص87 ، قالَ اللهُ تَعالَى : ﴿ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾، سُورَةُ الأعْرَافِ ، الآية 29 ، وقال عَزَّ و جَلَّ : ﴿ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾، سُورَةُ الأنْبيَاءِ ، الآية 104 ، وقالَ جَلّ وعَلا : ﴿ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾، سُورَةُ ق ، الآية 22.
الجوابُ : يُقالُ في هذهِ الآيةِ أربعةُ أجوبَةٌ:
أحدهَا : أنْ يكونَ العَمى الأوّلُ إنَّمَا هو عَنْ تأمّلِ الآياتِ ، والنَّظرُ في الدّلالاتِ والعِبَرِ الّتي أراهَا اللهُ المُكلّفينَ في أنفسِهِمْ وفيمَا يشاهدونَ ، ويكونُ العَمى الثَّاني هو عنْ الإيمانِ بالآخرةِ ، والإقرارِ بمَا يُجازَى بِهِ المُكلّفونَ فيهَا منْ ثوابٍ أو عقابٍ ، وقدْ قالَ قومٌ : إنّ الآيةَ مُتعلّقَةٌ بمَا قَبلِهَا منْ قولِهِ تَعالَى : ﴿ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ﴾، سُورَةُ الإسْرَاءِ ، الآية 66، إلى قوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً ﴾، سُورَةُ الإسْرَاءِ ، الآية 70، ثُمّ قالَ بعدَ ذلكَ : ﴿ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾، سُورَةُ الإسْرَاءِ ، الآية 72، يعني في هذهِ النِّعَمِ ، وعنْ هذهِ العِبَرِ ، فهو في الآخرةِ أعمَى ؛ أيْ هو عَمَّا غُيّبَ عنْهُ منْ أمرِ الآخرَةِ أعمَى ، ويكونُ قولُهُ : ﴿ فِي هذِهِ ﴾ كنايَةً عَنْ النّعَمِ لَا عَنْ الدُّنيَا ويُقالُ : إنَّ إبنَ عباسٍ «رحمة الله عليه» سألَهُ سائلٌ عَنْ هذهِ الآيةِ فقالَ لَهُ : إِتْلُ مَا قَبلِهَا ، ونبّهَهُ علَى التَّأويلِ الّذي ذَكرنَاهُ .
والجَوَابُ الثَّاني : ﴿ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ ﴾ ، يعني الدُّنيَا ﴿ أَعْمى﴾ ، عَنِ الإيمانِ باللهِ والمَعرفَةِ بمَا أوجبَ اللهُ عليهِ المَعرفَةَ بِهِ ؛ فهو في الآخرةِ أعمَى عَنْ الجَنّةِ والثَّوابِ ؛ بمعنَى أنَّهُ لَا يهتَدي إلَى طريقِهِمَا ، ولَا يُوصِلُ إليهِمَا ، أو عَنْ الحُجّةِ إذا سُئلَ ووقفَ ، ومعلومٌ أنّ مَنْ ضَلَّ عنْ مَعرفَةِ اللهِ تَعالَى والإيمانِ بِهِ يكونُ يومَ القيامَةِ مُنقَطِعُ الحُجَّةَ ، مفقودُ المَعَاذيرِ .
والجَوَابُ الثَّالثُ : أنْ يكونَ العَمَى الأوّلُ عنْ المَعرفَةِ والإيمانِ ، والثَّاني بِمعنَى المُبَالَغَةِ في الإخبارِ عنْ عِظَمِ مَا ينالُهُ هؤلاءِ الكُفَّارِ الجُهّالِ باللهِ منَ الخَوفِ والغَمِّ والحُزنِ الّذي أزالَهُ اللهُ عنْ المؤمنينَ العَارفينَ بقولِهِ عَزَّ و جَلَّ : ﴿ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، سُورَةُ يونسَ ، الآية 62 ، ومنْ عادَةِ العَربِ أنْ تُسمّي منْ اشتَدَّ هَمُّهُ وقَوِّيَ حُزنُهُ أعمَى سَخينُ العَينِ ، ويصفونَ المَسرورَ بأنَّهُ قريرُ العينِ ، قالَ اللهُ تعَالَى : ﴿ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ﴾، سُورَةُ السَّجْدَةِ ، الآية 17.
والجَوابُ الرَّابعُ : أنّ العَمَى الأوّلُ يكونُ عنِ الإيمانِ ، والثَّاني هو الآفةُ في العَينِ علَى سبيلِ العُقوبَةِ ؛ كمَا قالَ الله تَعالَى : ﴿ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى ﴾، سُورَةُ طَهَ ، الآيات 124 ـ 126، ومنْ يُجيبُ بِهذا الجَوَابِ يَتأوّلُ قَولُهُ تَعالَى : ﴿ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾ ،علَى أنَّ المَعنَى فيهِ الإخبارُ عنِ الاقتدارِ وعدمِ المَشقّةِ في الإعادَةِ ؛ كمَا أنّهَا معدومَةٌ في الإبتداءِ ، ويجعَلُ ذلكَ نَظيراً لقولِهِ تَعالَى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾، سُورَةُ الرُّومِ ، الآية 27 ، ويتأوّل قوله تعالى : ﴿ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾، علَى أنَّ معنَاهُ الإخبارُ عنْ قوّةِ المَعرفَةِ ، وأنَّ الجَاهلَ باللهِ في الدُّنيَا يكونُ عارفاً في الآخرَةِ ؛ والعَرَبُ تقولُ : «فلانٌ بَصيرٌ بهذا الأمرِ» و «زيدٌ أبصرُ بِكذا مِنْ عَمرو» ولَا يُريدونَ إبصارَ العَينِ ، بلْ العَلمُ والمَعرفَةُ ؛ ويشهدُ بِهذا التَّأويلِ قولُهُ تَعالَى : ﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾، سُورَةُ ق ، الآية 22 ، أي : كنتَ غافلاً عمَّا أنتَ الآنَ عارفٌ بِهِ ، فلمَّا أنْ كشفنَا عنْكَ الغِطاءَ بأنْ أعلمنَاكَ وفعلنَا في قلبِكَ المَعرفَةَ عرفتَ وعلِمْتَ .
تفسير الشريف المرتضى ، ج 3، ص 43-45.
وفي تفسيرِ العَياشي عَنْ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: سَأَلَهُ أَبُو بَصِيرٍ وَ أَنَا أَسْمَعُ: فَقَالَ لَهُ: رَجُلٌ لَهُ مِائَةُ أَلْفٍ، فَقَالَ: اَلْعَامَ أَحُجُّ، اَلْعَامَ أَحُجُّ، فَأَدْرَكَهُ اَلْمَوْتُ وَ لَمْ يَحُجَّ حَجَّ اَلْإِسْلاَمِ، فَقَالَ: ( يَا أبَا بَصِيرٍ أَ وَ مَا سَمِعْتَ قَوْلَ اَللَّهِ « وَ مَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَ أَضَلُّ سَبِيلاً » عَمِيَ عَنْ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اَللَّهِ )، وسائل الشیعة ، ج11، ص29.
فقولُهُ تَعالَى: ﴿ وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾، المقابلة بين قوليه: ﴿ في هذه ﴾ و ﴿ في الآخرة ﴾ دليلٌ على أنَّ الإشارةَ بهذهِ إلَى الدُّنيَا كمَا أنَّ كونَ الآيةُ مسوقةٌ لبيانِ التَّطابقِ بينَ الحياةِ الدُّنيَا والآخرةِ دليلٌ علَى أنَّ المُرادَ بعمَى الآخرةِ عمَى البصيرَةِ كمَا أنَّ المُرادَ بعمَى الدُّنيَا ذلكَ ، قالَ تعالَى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ ﴾، سُورَةُ الحَجِّ، الآية 46، ويؤيدُ ذلكَ أيضاً تعقيبُ عمَى الآخرةِ بقولِهِ ﴿ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾، و المَعنَى: ومنْ كانَ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيَا لَا يعرِفُ الإمامَ الحَقَّ ولَا يَسلُكُ سبيلَ الحَقِّ فهو في الحَياةِ الآخرةِ لَا يَجدُ السَّعادَةَ والفَلاحَ ولَا يهتديَ إلَى المَغفرَةِ والرَّحمَةِ .
وبما تقدم يتبين ما في قول بعضهم: إن الإشارة بقوله: " في هذه إلى النعم المذكورة والمعنى ومن كان في هذه النعم التي رزقها أعمى لا يعرفها ولا يشكر الله على ما أنعمها فهو في الآخرة أعمى .
وكذا ما ذكره بعضهم أن المراد بعمي الدنيا عمى البصيرة وبعمي الآخرة عمى البصر، وقد تقدم وجه الفساد على أن عمى البصر في الآخرة ربما رجع إلى عمى البصيرة لقوله تعالى: ﴿ يوم تبلى﴾.
السرائر وظاهر بعض المفسرين أن الأعمى الثاني في الآية تفيد معنى التفضيل حيث فسره أنه في الآخرة أشد عمى وأضل سبيلا والسياق يساعده على ذلك. تفسير الميزان ، السيد الطباطبائي ، ج 13 ، ص 169.
تعليق