زيارة الاربعين فوق الشبهات
استحباب زيارة مولانا الحسين (عليه السلام) بيوم الأربعين ، وما المقصود في القول بأن المقصود من زيارة الأربعين ( زيارة أربعين مؤمنا) ؟
إن زيارة الأربعين ثابت استحبابها ومارسها الشيعة وأخذوها خلفا عن سلف منذ واقعة الطف الى زماننا هذا .
وهناك روايتان عن الأئمة (عليهم السلام) في هذا الشأن أوردهما الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد ( المتوفى سنة 460للهجرة) وهما:
الأولى : عن صفوان بن مهران قال : قال لي مولاي الصادق صلوات الله عليه في زيارة الأربعين تزور عند ارتفاع النهار وتقول : السلام على ولي الله وحبيبه …. الخ
الثانية :عن مولانا الإمام أبي محمد الحسن العسكري أنه قال : علامات المؤمن خمس : صلاة الإحدى والخمسين ، وزيارة الأربعبن ، والتختم في اليمين ، وتعفير الجبين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم .
أما تفسير عبارة ( زيارة الأربعين) بزيارة أربعين مؤمنا الذي ذهب اليه بعضهم ، فهو تفسير غريب بلا مستند ولا دليل ولا قرينة تدعمه بل القرينة قائمة على خلافه .
قال السيد المقرم رحمه الله في مقتله داحضا هذه الدعوى ( والتصرف في هذه الجملة “زيارة الأربعين” بالحمل على زيارة أربعين مؤمنا التواء في فهم الحديث وتمحل في الاستنتاج يأباهُ الذّوْقُ السَّليم، معَ خلُوِّهِ منَ القرينةِ الدَّالَّةِ عليه، ولو كانَ الغَرَضُ هوَ الإرشادُ إلى زيارةِ أربعينَ مؤمناً لقالَ الإمامُ(ع): وزيارةُ أربعينَ
فالإتيان بالألف واللام العهدية للتنبيه على أن زيارة الأربعين من سنخ الأمثلة التي نص عليها الحديث بأنها من علائم الإيمان)
أقول: لعله نظراً لكون هذه العبارة (زيارة الأربعين) معهودة عند الشيعة وتنصرف أذهانهم عند سماعها الى زيارة الحسين (عليه السلام) في العشرين من صفر فقد اكتفى الامام بها ولم يقل ( زيارة الحسين يوم الأربعين ) نظير عبارة (زيارة عاشوراء التي لاتنصرف إلا إلى زيارته (عليه السلام) يوم العاشر من المحرم .
وهذا المعنى لزيارة الأربعين هو الذي فهمه العلماء والمحققون على مر العصور وإليك أقوال بعضهم :
شيخ الطائفة الطوسي الذي ذكر استحباب زيارة الأربعين في مصباح المتهجد على ماتقدم آنفا .
قال العلاّمة الحلّي في المنتهى كتاب الزيارات بعد الحجّ: يستحب زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر..
وقال السيد ابن طاووس في الإقبال عند ذكر زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر .
ونقل العلاّمة المجلسي في مزار البحار هذا الحديث عن ذكر فضل زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) يوم الأربعين.
ووافقهم صاحب الحدائق في باب الزّيارات بعد الحجّ فقال: وزيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر من علامات المؤمن.
وحكى الشيخ القمي في المفاتيح هذه الرواية عن التهذيب ومصباح المتهجد في الدّليل على رجحان الزيارة في الأربعين من دون تعقيب باحتمال إرادة أربعين مؤمناً.
والشيخ المفيد قال باستحباب الزيارة في العشرين من صفر في كتابه مسار الشيعة، وقال بمثل ذلك العلامة الحلّي في التذكرة والتحرير،. وقال بمثله الملا محسن الفيض الكاشاني في تقويم المحسنين.
هذه أقوالهم وأما على الصعيد العملي فأكاد أجزم بأن كل علماء الطائفة على مر الأزمنة والقرون – مع الإمكان وعدم المانع – قد زاروا الحسين (عليه السلام) بهذه الزيارة وحثوا عليها .
أليس فهم هؤلاء الأعلام وأقوالهم وفعلهم كاف في كشف حقيقة الحال وثبوت استحباب زيارة الأربعين .. وإن الفهم الآخر ( زيارة أربعين مؤمنا) هو فهم شاذ وغريب ؟
وفيما أعلم لم ترد خصوصية لزيارة أربعين مؤمنا .. نعم وردت الخصوصية في الدعاء لأربعين مؤمنا في ركعة الوتر ، وفي شهادة أربعين مؤمنا للميت بالخير والصلاح .
وأخيرا لا أدري لماذا هذا التشكيك في زيارة الحسين (عليه السلام) في العشرين من صفر ؟ ولنفترض بأنه لم ترد نصوص في شأنها أليست زيارة الحسين (عليه السلام) مستحبة في كل زمان ، وينبغي أن يشجع الناس عليها ؟
وعلى أضعف التقادير فإنه يكفي في مراعاة الخصوصية الزمانية لهذه الزيارة الإتيان بها برجاء المطلوبية شأن الكثير من المستحبات الأخرى .
وأليس تكثير السواد لزيارته (عليه السلام) فيه تقوية للدين وتعظيم للشعائر وصرخة في وجوه الطغاة والظالمين . وإن التخذيل والتثبيط عن زيارته ع فيه توهين وإضعاف للشعائر أعاذنا الله من ذلك ؟
وبعد هذا البيان ولله الحمد يتضح الأمر جليا ولم يبق أي مجال للشك في رجحان واستحباب هذه الزيارة الشريفة .
و السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين .
أربعين الإمام الحسين (عليه السّلام) زيارةٌ تجدد الأحزان نظرة تاريخيّة واجتماعيّة بقلم /محمّد طاهر
منذ أن التقى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في كربلاء بالصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري أصبحت كربلاء قبلة للزوار في يوم العشرين من صفر ـ أربعين الإمام الحسين (عليه السّلام) ـ , يؤمّها الملايين من المسلمين من الكثير من البلدان العربيّة والإسلاميّة , إضافة إلى العراق
ليوم الأربعين بعد الوفاة أهميةٌ من قِبلِ أهل الفقيد ؛ حيث يقومون بإسداء البِرِّ إليه , وعدِّ مزاياه في عَقد مجلس تأبيني يُدوَّن تخليداً لذكره . والاعتناء بهذه المناسبة عادة عربيّة إسلاميّة ترتبط بأهمية العدد (أربعين) وقدسيته .
ولم تقتصر هذه المناسبة على الإسلام فحسب ؛ فهي عادة قديمة كانت تقام في الديانات الاُخرى كالنصرانيّة واليهوديّة , والحضارات القديمة كالسومريّة والبابليّة ؛ فالحِداد على الميت أربعين يوماً طريقة مألوفة وعادة متوارثة بين الناس .
وفي اليوم الأربعين من وفاته يقام على قبره تأبين يحضره أقاربه وخاصته وأصدقاؤه ؛ فالنصارى يقيمون حفلة تأبينية على الميت بعد أربعين يوماً من وفاة فقيدهم ، يجتمعون في الكنيسة ويعيدون الصلاة عليه المسمّاة عندهم بصلاة الجنازة ، ويفعلون ذلك في نصف السنة , وعند تمامها إعادة لذكراه , وتنويهاً به وبآثاره وأعماله .
وقد اعتنى الإسلام بهذه العادة ؛ فقد رويت أحاديث شريفة في قدسية العدد أربعين , منها ما ذكره ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب , في شهادة علي (عليه السّلام) : عن أبي ذر الغفاري , عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّ الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحاً )) .
وقد روي الحديث في البحار 2 / 679 , ومجموعة الشيخ ورام 2 / 276 .
خصوصية الشعائر في أربعين الحسين
تأتي خصوصية إقامة الشعائر الحسينيّة في يوم أربعين الإمام الحسين (عليه السّلام) المصادف في العشرين من صفر ؛ كونها تشكّل إحياءً لنهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) الإصلاحية , وتعاليمه الأخلاقية , ومبادئه النبوية ؛ فإنّ قضية سيد الشهداء (عليه السّلام) هي التي ميّزت بين دعوة الحق والباطل , ولولا نهضة الحسين (عليه السّلام) ووقوفه بوجه الظلم والطغيان الاُموي لكاد الإسلام أن يندثر , حتّى قيل : الإسلام محمّدي الوجود , حسيني البقاء .
وما قام به الإمام الحسين (عليه السّلام) في نهضته الإصلاحيّة كان امتداداً لدعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله) لنشر الإسلام , وهو (عليه السّلام) الامتداد الطبيعي للنبي (صلّى الله عليه وآله) بنص حديث الرسول : (( حسين منّي وأنا من حسين )) .
وتأتي خصوصيتها أيضاً في استذكار الفاجعة التي جرت على أهل البيت (عليهم السّلام) في يوم عاشوراء , وما صاحبها من المآسي والآلام , وتعريف الناس بجور بني اُميّة وأذنابهم .
كما تتزامن إقامة الشعائر الحسينيّة في يوم الأربعين مع ذكرى رجوع الرأس الشريف من الشام إلى العراق ، ودفنه مع الجسد الطاهر في يوم العشرين من صفر كما جاء في الروايات ، ويسمى هذا اليوم في العراق (مَرَد الرأس) , فتقام الشعائر استذكاراً لهذه الحادثة الأليمة فتتجدّد الأحزان .
جابر مع الإمام السجاد (عليه السّلام)
تواترت الروايات على أن السبايا بعد أن أخروجهم من الشام توجّهوا إلى كربلاء , فوصلوها يوم العشرين من صفر ، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي ومعه جماعة من الشيعة توافدوا لزيارة قبر الحسين (عليه السّلام) ، فالتقى ركب السبايا معهم وأقاموا البكاء والنحيب .
وقد نصّت على ذلك العديد من الكتب المعتبرة ؛ فقد جاء في موسوعة آل النبي (صلّى الله عليه وآله) / 747 ، في وصف الرحلة من الشام الى المدينة : قالت زينب (عليها السّلام) للدليل مرة : لو عرجت بنا على كربلاء .
فأجاب الدليل محزوناً : أفعل .
ومضى بهم حتّى أشرفوا على الساحة المشؤومة , وكان قد مضى على المذبحة يومئذ أربعون يوماً ، وما تزال الأرض ملطّخة ببقع من دماء الشهداء , وبقية من أشلاء غضّة عفا عنها وحش الفلاة .
وناحت النوائح , وأقمن هناك ثلاثة أيام لم تهدأ لهنّ لوعة , ولم ترقأ لهنّ دمعة , ثمَّ أخذ الركب المنهك طريقه إلى مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله) .
وتقول الروايات أيضاً : إنّ يزيد أمر برد السبايا والاُسارى من الشام إلى المدينة المنوّرة في الحجاز , مصطحبين بالرؤوس , تحت إشراف جماعة من العرفاء يرأسهم النعمان بن بشير الأنصاري ، فلما بلغ الركب ارض العراق في طريقه إلى مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله) قالت زينب للدليل : مر بنا على طريق كربلاء .
ومضى بهم حتّى أشرفوا على ساحة القتل المشؤومة , وكان جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي الجليل , وجماعة من بني هاشم , ورجال من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد وردوا العراق لزيارة قبر الحسين (عليه السّلام) .
يقول السيد علي بن طاووس في كتابه اللهوف في قتلى الطفوف / 86 : فتوافدوا في وقت واحد , وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم , وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد , واجتمع عليهم أهل السواد , وأقاموا على ذلك أياماً .
أمّا قصة جابر بن عبد الله الأنصاري فتتلخص في أنه بعد أن علم بمقتل الإمام الشهيد الحسين (عليه السّلام) توجّه من المدينة المنورة نحو أرض كربلاء , وكان قد كُفّ بصره .
يقول عطية العوفي , وكان مع جابر : عندما وصلنا إلى الغاضرية على شاطئ نهر الفرات اغتسل جابر في شريعتها , ولبس أطهر ثيابه ، ثمَّ فتح صرّة فيها سعد فنشرها على بدنه , ثمَّ لم يخطُ خطوة إلاّ ذكر الله تعالى , حتّى إذا دنا من القبر قال : ألمسنيه ياعطية .
فألمستُهُ إيّاه ، فخرّ على القبر مغشياً عليه , فرششت عليه من الماء , فلمّا أفاق قال : ياحسين ! (ثلاثاً) , ثمّ قال : حبيب لا يجيب حبيبه ! ثمّ قال : وأنّى لك بالجواب وقد شُخبت أوداجك على أثباجك ، وفُرّق بين بدنك ورأسك ! أشهد أنك ابن خير النبيِّين , وابن سيد الوصيِّين , وابن حليف التقوى , وسليل الهدى , وخامس أصحاب الكسا , وابن سيد النقبا , وابن فاطمة سيدة النسا … إلخ .
إلى أن تقول الرواية : ومضى عطية ليرى مَن هم القادمون من ناحية الشام , فما أسرع أن رجع وهو يقول : يا جابر , قم واستقبل حرم رسول الله ، هذا زين العابدين قد جاء بعمّاته وأخواته .
فقام جابر حافي الأقدام , مكشوف الرأس إلى أن دنا من الإمام زين العابدين (عليه السّلام) , فحدّثه الإمام بما جرى لهم من قتل وسبي وتشريد , وكان مما قاله (عليه السّلام) : (( يا جابر , ها هنا والله قُتلت رجالنا , وذُبحت أطفالنا , وسُبيت نساؤنا , وحُرقت خيامنا )) .
ومنذ ذلك اليوم , وهو العشرين من صفر , أصبح هذا التاريخ مشهوداً ؛ فتتوافد مئات الآلاف من الزائرين على كربلاء لزيارة الإمام الحسين (عليه السّلام) وإقامة الشعائر , وتجديد هذه الذكرى المؤلمة .
الزيارة .. الشعائر والإحصائيّات
منذ أن التقى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في كربلاء بالصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري أصبحت كربلاء قبلة للزوار في يوم العشرين من صفر ـ أربعين الإمام الحسين (عليه السّلام) ـ يؤمّها الملايين من المسلمين من الكثير من البلدان العربيّة والإسلاميّة , إضافة إلى العراق .
وأصبح الزوّار يتزايدون سنة بعد اُخرى , وتشير الإحصائيات إلى أنّ عدد الزوار يوم الأربعين سنة 1968 بلغ أكثر من نصف مليون زائر ، وارتفع عددهم في بداية السبعينات إلى حوالي مليون زائر , حتّى بدأت سلطات نظام البعث البائد بمحاولات عقيمة لمنع الزوار من أداء زيارة الأربعين ؛ خوفاً من النقمة , وتحسباً من الثورة ضد الظلم والطغيان .
وقد ذهب في سبيل ذلك آلاف المؤمنين بين شهيد ومسجون ومُعذّب على أيدي أزلام نظام الدكتاتور صدام ، ولكن بعد رياح التغيير التي هبّت على العراق , ونهاية الدكتاتورية الصداميّة انفسح المجال للمسلمين لزيارة الإمام الحسين (عليه السّلام) حتّى وصلت أعداد الزائرين في (زيارة الأربعين) خلال السنوات التي أعقبت 2003 لأكثر من خمسة ملايين زائر ، بينما بعض وسائل الإعلام قدّرت أعداد الزائرين بثمانية ملايين زائر ، جاء أغلبهم من مدن العراق المختلفة , وكذلك من الدول العربيّة والإسلاميّة وخاصة من إيران والهند وباكستان والبحرين والكويت والسعودية .
وخلال إقامة الشعائر الحسينيّة في يوم الأربعين في كربلاء يصل عدد المواكب الحسينيّة إلى ألفَي موكب أحياناً ، يتوزّعون بين مقرّات المواكب والحسينيات والمساجد ، وكذلك الفنادق والمقاهي والمطاعم , بحيث تضطّر الاُلوف من الزائرين إلى قضاء ليلة زيارة الأربعين في الصحنين الشريفين للحسين والعباس (عليهما السّلام) ، إضافة إلى الشوارع والأزقّة .
كما تضطّر بعض المواكب الوافدة إلى كربلاء إلى أن تنصب خياماً خارج المدينة أو في أطرافها , وتنظيم اُمورها لتقديم المنام والمأكل والمشرب لأفرادها وضيوفها من الزائرين .
وخلال إقامة مواكب العزاء في كربلاء يتبادل أفراد المواكب الزيارات فيما بينهم ؛ للتعارف , وتقديم الخدمات لبعضهم البعض , والاستماع للخطب والقصائد التي تقام بهذه المناسبة والتي تعبّر عن اعتزازهم بتضحيات الإمام الحسين وأخيه العباس (عليهما السّلام) من أجل الإسلام , وحبّهم وتفانيهم في خدمة الزائرين .
زيارةُ أربعين سيّد الشهداء الإمام الحسين؛ للشیخ محمد جمیل العاملی
علاجُ التَّشكيكِ في زيارةِ الأربعين
ورَدَ عن مولانا الإمام الحسن العسكريّ(ع) أنَّهُ قال: [علاماتُ المؤمنِ خَمْس: صلاةُ إحدى وخمسين وزيارةُ الأربعين والجَهْرُ ببسْمِ اللهِ الرَّحمانِ الرَّحيم والتَّختُّمُ باليمين وتعفيرُ الجبين].
الثَّابتُ عندَ الإمامية بأنَّ المُرادَ مِنَ الفِقرةِ المذكورةِ في الحديث “زيارةُ الأربعين” هو زيارةُ الإمامِ الحسين(ع) في العشرينَ من صَفَر، إلّا أنَّ بعضَ الّذينَ لا يُعجِبُهُم زيارةُ الإمامِ الحسين(ع) يومَ العِشرين من صفَر قالوا: إنَّ المُرادَ مِنَ الفقرة هو زيارةُ أربعينَ مؤمناً، فجعلوا زيارةَ أربعينَ مؤمناً مُستَحبّاً دونَ زيارةِ الإمامِ الحسين(ع) بل إنَّ زيارةَ أربعينَ مؤمناً أهمُّ من زيارةِ الإمامِ الحسين(ع).
وقبلَ الإستدلالِ على مُرادِنا، ينبغي أن نبحثَ في نقطتين:
الأولى: بيانُ دعوى هؤلاءِ المُشَكِّكينَ ونَقضِها.
الثّانية: الغايةُ مِن زيارةِ الإمامِ الحسين(ع) يومَ الأربعين أي في العشرين من صَفَر.
النّقطة الأولى: نقضُ دعوى الخصْم.
خلالَ تَتبُّعي لكلامِ أصحابِ الدَّعوى المذكورة، لم أعثُر على دليلٍ واحدٍ قد يكونُ مُستَنداً لهُم لإثباتِ دعواهُم، بل غايةُ ما عَثرْتُ عليهِ أنَّهُم فسَّروا زيارةَ الأربعينَ بـ “أربعينَ مؤمناً” (*) وذلكَ لأنَّ الإمامَ العسكريّ (ع) لم يتَعرَّض للآثارِ الأُخرويَّةِ المُتَرَتِّبةِ على الزِّيارَةِ الأربعينيَّة، مع أنَّ أهلَ البيتِ (ع) عندَ الحثِّ على زيارةِ الإمامِ المظلومِ وغيرهِ مِن أئمَّةِ الهُدى يذكرونَ ما يتَرتَّبُ عليها مِنَ الثَّواب.
هذا غايةُ ما وجَدناهُ مِن دعاوى هؤلاء.
الإيرادُ على الدَّعوى المذكورة:
أولاً:
إنَّ الإمامَ العسكريَّ (ع) في هذا الحديث إنَّما هو بصَدَدِ بيانِ علائِمِ المُؤمِنِ الّتي يمتازُ بها عن غيرِهِ، وجعلَ منها زيارةُ الأربعينَ الحسينيَّةِ على صاحبها آلافُ التَّحيَّةِ والسَّلامِ، ولم يكُنِ الإمامُ العسكريّ (ع) بصددِ بيانِ ما يترتَّبُ على الزّيارةِ منَ الآثارِ الأُخرويَّةِ (**). بلِ الحديثُ في مقامِ بيانِ الآثارِ الدُّنيويَّةِ الظَّاهرةِ على المُؤمِنِ أو هوَ في مقامِ بيانِ الصِّفاتِ الّتي يتَّصِفُ بها المُؤمنُ، وإن كانَ يظهرُ عندي أنَّ الأئمَّةَ (ع) قد بيَّنوا ووَضَّحوا الآثارَ الأُخرويَّةَ لزيارةِ الإمامِ الحسين(ع) مُطلقاً سواءٌ أكانت في زيارةِ الأربعين أم في غيرِها، فلا داعي للإمامِ العسكريّ(ع) أن يُكرِّرَها في هذا الحديث، فإنَّ آباءَهُ الكِرام بيَّنوها في أحاديثِهُمُ الشَّريفة، فبيانهُ لها قد يدخلُ في تحصيلِ الحاصِل، لأنَّ الشِّيعةَ كانوا ولا يزالونَ يعرفون فوائدَ زيارةِ الإمامِ الحسين (ع) الأُخرويَّةِ بشكْلٍ واضح.
ثانياً:
إنَّ استنتاجَ هؤلاءِ على دعواهُم يأباهُ الذّوْقُ السَّليم،معَ خلُوِّهِ منَ القرينةِ الدَّالَّةِ عليه،ولو كانَ الغَرَضُ هوَ الإرشادُ إلى زيارةِ أربعينَ مؤمناً لقالَ الإمامُ(ع):”وزيارةُ أربعينَ مؤمناً”
فمَع عدمِ تقدُّمِ الإشارةِ إلى أربعينَ مؤمناً،وعدمُ وجودِ قرينةٍ تُساعِدُ عليهِ،لا يصُحُّ حينئذٍ صرْفُ “الأربعين” إلى أربعينَ مؤمناً.
ثالثاً:
إنَّ زيارةَ أربعينَ مؤمناً ممّا حثَّ عليهِ الإسلامُ بل أكثرَ من أربعين على فتراتٍ مُتقطِّعةٍ، فهيَ من علائمِ الإيمانِ عندَ الخاصَّةِ والعامَّة، ولم يُخَصَّ بها المؤمنونَ المُوالونَ ليمتازوا عن غيرِهِم، نَعَمْ زيارةُ الإمامِ الحسين (ع) يومَ الأربعينَ مِن صَفَرٍ ممّا يدعو إليها الإيمانُ الخالِصُ لأهلِ البيتِ (ع)، ويُؤكِّدُها الشَّوقُ لزيارةِ الإمامِ الحسين (ع)، ومَعلومٌ أنَّ الّذينَ يحضَرونَ في الحائِرِ الأطهَرِ بعدَ مُرورِ أربعينَ يوماً مِن مَقتَلِ سيِّدِ شبابِ أهلِ الجنَّةِ هم خصوصُ المُشايعينَ لهُ السَّائرينَ على أثَرهِ ومنهجِه.
ويشْهَدُ لهُ اتِّفاقُ سائِرِ علماءِ الإماميَّةِ (مذ استشهدَ الإمامُ الحسين (ع) إلى يومنا هذا) وعدمُ تباعدِهِم عن فهْمِ زيارةِ الإمامِ الحسين (ع) في العشرين من صفر من هذا الحديثِ المبارَكِ، حيث فهموا منه زيارة الامام عليه السلام وليس زيارة اربعين مؤمناً من هؤلاء المحققين :
الشَّيخ أبو جعفر الطّوسيّ في التَّهذيب ج6 ص47، فإنَّهُ ـ رحِمَهُ الله ـ بعدَ أن روى الأحاديثَ في فضلِ زيارتِهِ المُطلقة، ذكَرَ بعدَها الزِّياراتِ المُقيَّدةِ بأوقاتٍ خاصَّةٍ ومنها يومُ عاشوراء، وبعدهُ روى هذا الحديث (علاماتُ المؤمِن خمْس). وفي مصباح المتهجد ذكرـ رحمه الله تعالى ـ شهرَ صفر وما فيهِ مِنَ الحوادِثِ ثمَّ قال: وفي يومِ العشرينِ منهُ رجوعُ حُرَمِ أبي عبدِ اللهِ (ع) من الشَّامِ إلى المدينة، وورودُ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريّ (رضي الله تعالى عنه) إلى كربلاءَ لزيارةِ الإمامِ أبي عبدِ اللهِ(ع)، فكانَ أوَّلَ مَن زارَهُ منَ النَّاسِ وهي زيارةُ الأربعين.
أقول: إنَّ جابر زارَ الإمامَ يومَ الاربعين، والإمامُ السَّجّادُ (ع) وعقيلةُ الهاشميّينَ والسّبايا زاروا الإمامَ المظلومَ يومَ الأربعين، فزيارةُ الإمامِ السَّجّادِ (ع) يومَ الأربعينِ دليلٌ على الإستحبابِ، لأنّ الإمامَ معصوم عن الخطأ فكل تصرفاته وما يصدر عنه حكمة وصواب، ففِعْلُهُ وقولُهُ وتقريرُهُ حُجَّةٌ، ولو لم يكُن يومُ الأربعينِ مُستَحَبّاً لما فَعَلَهُ الإمامُ السَّجَّادُ وعقائِلُ الوحيِ والطَّهارةِ صلوات الله عليهم أجمعين ؟!.
وقال العلاّمة الحلّي في المنتهى كتاب الزيارات بعد الحجّ: يستحب زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر.. ثمّ قال: روى الشيخ عن الإمام أبي محمَّد العسكري (عليه السَّلام) أنّه قال: علامات المؤمن خمس..
وقال السيد ابن طاووس في الإقبال عند ذكر زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر قال: روينا بالإسناد إلى جدّي أبي جعفر الطّوسي فيما رواه بالإسناد إلى مولانا الحسن بن عليّ العسكري (عليه السَّلام) قال: علامات المؤمن خَمس…
ونقل العلاّمة المجلسي في مزار البحار هذا الحديث عن ذكر فضل زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) يوم الأربعين، ووافقهم صاحب الحدائق في باب الزّيارات بعد الحجّ فقال: وزيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر من علامات المؤمن.
وحكى الشيخ القمي في المفاتيح هذه الرواية عن التهذيب ومصباح المتهجد في الدّليل على رجحان الزيارة في الأربعين من دون تعقيب باحتمال إرادة أربعين مؤمناً.
والشيخ المفيد قال باستحباب الزيارة في العشرين من صفر في كتابه مسار الشيعة، والعلاّمة الحلّي في التذكرة والتحرير، وملا محسن الفيض في تقويم المحسنين.
رابعاً: يَثبت استحباب زيارة العشرين من صفر بالاطلاقات الدالة على استحباب زيارته مطلقاً، وفي كلّ شهر، فقد روى الشيخ الطوسي ـ بعد حديث الإمام العسكري (عليه السَّلام)ـ حديثاً عن داود بن فرقد قال: قلت للإمام أبي عبد الله (عليه السَّلام): ما لِمَن زار الإمام الحسين (عليه السَّلام) في كلّ شهر من الثواب؟ قال: له من الثواب ثواب مائة ألف شهيد مثل شهداء بدر(1).
وصفر داخل ضمن قوله (عليه السَّلام): في كلّ شهر، فتُستحبّ زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر على وجه التحديد بقرينة حديث الإمام العسكري (عليه السَّلام): “زيارة الأربعين”؛ أي في اليوم المعهود وهو العشرون من صفر.
النقطة الثانية: الغاية من زيارة أربعين الإمام الحسين يوم العشرين من صفر؛ أي زيارة الأربعين.
يمكننا أنْ نصنّف الغاية من زيارته الأربعينيّة كلّ عام إلى ثلاثة مستويات:
المستوى الأوّل: تخليد ذكراه (عليه السَّلام) وتجديد الحزن عليه.
بيان ذلك: إنّ النواميس المطردة مواظبة على الاعتقاد بالفقيد بعد أربعين يوماً مضين من وفاته بإسداء البِرِّ إليه وتأبينه وعدّ مزاياه في حفلاتٍ تُعقَد وذكريات تُدَوَّنُ تخليداً لذِكْرِه، في حين أنّ الخواطر تكاد تنساه، والأفئدة أوشكت أنْ تُهْمِلَهُ، فبذلك تُعاد إلى ذكراه البائدة صورةٌ خالدةٌ بشِعْرٍ أو بخطابٍ بليغٍ تتضمّنه الكتب حتى يعود من أجزاء التاريخ، فيصير الفقيدُ حيّاً كلّما تُلِيَتْ هاتيكَ النُّتَف من الشعر، أو وقف الباحث على ما أُلقيت فيه من كلماتٍ تأبينيّةٍ بين طيّات الكتب فيقتصّ أثره في فضائله وفواضله، وهذه السنّة الحسنة تزداد أهميّةً كلّما ازداد الفقيدُ عَظَمَةً، وكَثُرَتْ فضائله، وهي في رجالات الإصلاح والمقتدى بهم من أكابر الدين أهمّ وآكد؛ لأنّ نَشْرَ مزاياهم وتعاليمهم يحدو ويحثّ إلى اتّباعهم واحتذاء مثالهم في الإصلاح وتهذيب النفوس.
و يشهد له ما ورد عن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله : إنّ الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحاً.
وعن زرارة عن مولانا الإمام الصّادق (عليه السَّلام): إنّ السّماء بكت على الحسين (عليه السَّلام) أربعين صباحاً بالدّم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسّواد، والشّمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً، وما اختضبت امرأةٌ منّا ولا ادّهَنَتْ ولا اكتَحَلَتْ ولا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد وما زلنا في عَبْرَة من بعده.
يؤكد هذه الطريقة المألوفة والعادة المستمرّة بين النّاس من الحداد على الميّت أربعين يوماً، فإذا كان يوم الأربعين أُقيم على قبره الاحتفال بتأبينه، يحضره أقاربُه وخاصتُهُ وأصدقاؤُه، وهذه العادة لم يختص بها المسلمون، فإنّ النصارى يقيمون حفلة تأ بينيّة يوم الأربعين من وفاة فقيدهم يجتمعون في الكنيسة ويعيدون الصّلاة عليه المسماة عندهم بصلاة الجنازة، ويفعلون ذلك في نصف السّنة وعند تمامها، واليهود يعيدون الحداد على فقيدهم بعد مرور ثلاثين يوماً وبمرور تسعة أشهر وعند تمام السنة، كلّ ذلك إعادةً لذكراه وتنويهاً به وبآثاره وأعماله إنْ كان من العظماء ذوي الآثار والمآثر…
وإحياء النصارى واليهود ذكرى الأربعين لموتاهم لا يستلزم إنكارها، إذ ليس من الضروري أنْ تكون كلُّ الأفكار الموجودة في تاريخ النصارى واليهود سيئةً، قد تكون بعض الأفكار عندهم لها أساس ديني يتوافق مع شريعتنا فلا يجوز حينئذٍ ردّه لكونه يتوافق مع النصارى واليهود، فإذا قام الدّليل الشرعي عندنا على صحّة فعلٍ أو عملٍ معيَّنٍ حتى لو توافق مع المخالفين لنا فلا يجوز ردّه لأنّ ردّه يقتضي ردَّ الدّليل الشرعي الذي قام على صحّة الفعل المعيَّن.
وعلى كلّ حال؛ فلا يجد المنقِّب في الفئة الموصوفة بالإصلاح والصّلاح رجلاً اكتنفته المآثر بكلّ معانيها، وكانت حياتُه وحديثُ نهضته وكارثةُ قتله، دعوةً إلهيّةً وطقوساً إصلاحيّةً، وأنظمةً اجتماعيّةً وتعاليمَ أخلاقيّة، ودروساً دينيّة إلاّ سيّدَ الشّهداء أبا عبد الله الحسين عليه آلآف التحيّة والسّلام، شهيد الله تعالى… فهو أولى من كلّ أحد بأنْ تُقامَ له الذكريات، وتشدَّ الرحالُ للمثول حول مرقده الأقدس في يوم الأربعين من قتله حصولاً على تلكم الغايات الكريمة.
وما يفعله الناس من الحفلات الأربعينية الأولى على موتاهم فلا يكررونها كلّ سنة كما يكرّرونها لأجل الإمام الحسين (عليه السَّلام)، من جهة كون مزايا أولئك الرِّجال محدودة منقطعة الآخر، بخلاف سيّد الشّهداء (عليه السَّلام) فإنّ مزاياه لا تُحَدُّ، وفواضله لا تُعَدُّ، ودرس أحواله جديدٌ كلّما ذُكِر، واختصاصُ أثره يحتاجه كلُّ جيلٍ، فإقامة المآتم عند قبره في الأربعين من كلّ سنة إحياءٌ لنهضته المقدَّسة، وتعريفاً بالقساوةِ التي ارتكبها الأمويون ولفيفُهم، ومهما أمعن الخطيبُ أو الشّاعرُ في قضيته، تُفتح له ابوابٌ من الفضيلة كانت موصدة عليه قبل ذلك، ولهذا اطردت عادة الشيعة على تجديد العهد بتلكم الأحوال يومَ الأربعين من كلّ سنة، ولعلّ رواية مولانا أبي جعفر (عليه السَّلام): “إنّ السّماء بكت على الإمام الحسين (عليه السَّلام) أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء”(2)؛ تلميحٌ إلى هذه العادة المألوفة بين النّاس، وحديث الإمام الحسن العسكري (عليه السَّلام): “علامات المؤمن خَمس..” يرشدنا إلى تلك العادة المطردة المألوفة للناس، فإنّ تأبين سيّد الشّهداء (عليه السَّلام)، وعقد الاحتفالات لذِكْرِهِ في هذا اليوم إنما يكون ممن يَمِتُّ به بالولاء والمشايعة، ولا ريب في أنّ الذين يتصلون به وينتسبون إليه بالمشايعة هم المؤمنون المعترفون بإمامته (عليه السَّلام)، إذاً فمن علامة إيمانهم وولائهم لسيّد شباب أهل الجَنَّة المنحور على مجزرة الشّهادة الإلهيّة المثول في يوم الأربعين من شهادته عند قبره الأطهر لإقامة المأتم وتجديد العهد بما جرى عليه وعلى أهل بيته وصحبه من الفوادح العظيمة(3).
يتبع
تعليق