الدين والفطرة
يكون الوجدان التوحيدي والوجدان الأخلاقي من وجهة نظر الدين والعلم دعامتين أساسيتين للتربية الانسانية السليمة، فإن دعوات الأنبياء اعتمدت على هذين الأساسين القويين بمعونة العقل. فالدين يستند إلى الفطرة في باطن الانسان. وإن العرض الديني الذي كان يصدر من قبل الأنبياء كان في مقابل الطلب الطبيعي عند الناس. ولهذا السبب فإن الدين استقام وأرسى قواعده على الرغم من جميع الموانع والمشاكل التي لاقاها في طريقه.
تمر اليوم قرون طويلة على ظهور رسل السماء، ولا تزال شعلة الإيمان متوهجة في قلوب الناس، لأن المصدر الأصيل لهذه الشعلة المتوقدة هو: فطرة الانسان، فما دام على وجه الأرض إنسان، وما دامت هناك فطرة، فإن هذا المشعل الوهاج لا ينطفىء بل هو مستمر في إشعاعه.
وهنا يجب أن نبين أن الوجدان التوحيدي والأخلاقي... هذه الحقيقة التي نجدها في كمين كل انسان، ليس ظاهرة متصنعة، ولم يوجد على أثر الوراثة الاجتماعية طيلة قرون، وبفضل التعاليم الدينية والتربوية بل إنه أمر غريزي ونداء فطري منبعث من باطن الانسان، وجد مع وجود الانسان، وسيبقى إلى الأبد معه.
قد يمكن للبعض أن يكافحوا بعض ميولهم الفطرية في ظروف خاصة ويكبتوا تلك الغرائز في نفوسهم، ولكن كفاحهم ذلك وكبتهم هذا لا يمكن أن يزيل الحقيقة الفطرية، ويمحو الغريزة الانسانية التي جبل عليها جميع البشر.
فالغريزة الجنسية مثلاً أمر فطري غير قابل للانكار، ولكن وجد على مر الأجيال ملايين الأفراد من تاركي الدنيا في أوروبا والمرتاضين في القارة الهندية، كافحوا هذه الغريزة وخنقوها في نفوسهم بالضغط والاكراه إلى درجة أن بعضهم أخذ لا يحس في نفسه أي ميل جنسي أصلاً، أفيستطيع هؤلاء أن يسحقوا الحقيقة الفطرية للغريزة الجنسية بهذا العمل؟! هل يحق لهؤلاء أن ينكروا وجود الميل الجنسي في البشر؟!.
وكذلك أمر الذين يتجاهلون الفطرة الايمانية والأخلاقية في أنفسهن ويكافحون غريزة التدين حياة طويلة ويعيشون ملحدين، فانهم لا يستطيعون أن ينكروا وجود فطرة الايمان والأخلاق في الانسان، فلا صلة بين انحرافهم عن صراط الفطرة المستقيم وبين حقيقة الوجدان الطبيعي والبناء الفطري القائم على الايمان والأخلاق.
إن الاسلام يعتبر الأسس الرصينة للايمان والأخلاق من الثروات الفطرية الانسانية، ويرى أن التوصل إلى وجود الله، ومعرفة الخير والشر إنما هو جزء من تكوين الانسان.
إحياء الفطرة
إن أهم واجبات الأنبياء هو إيقاظ الجوانب الفطرية عند الانسان واستغلال الثروات الالهامية فيه. يقول الامام علي عليه السلام في هذا الصدد: "فبعث الله فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته ويجتمعوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول"2.
الفرق بين التذكير والتعليم
ربما تكون قد حفظت قصيدة قبل عشرين سنة، ونسيتها على أثر الإهمال والغفلة، وليست لديك أية التفاتة إلى شيء منها أصلاً، ويصادف أن يقرأ شخص تلك القصيدة أمامك فبمجرد أن يبدأ بقراءة البيت الأول تحس بأنس وقرب إلى تلك القصيدة فتعمل حافظتك وتجتهد لتذكر الأبيات التي نسيتها... وفي الواقع ان الذي قرأ لك الأشعار نبهك إلى حقيقة موجودة في ضميرك لكنها منسية. هذا الشخص يسمى بـ (المذكر)، ويسمى عمله (تذكيراً). أما إذا نظم شخص قصيدة حديثة وقرأها لك وعلمها إياك بيتاً بيتاً، فيقال له المعلم ويسمى عمله تعليماً.
من هنا ندرك السر في تسمية النبي صلّى الله عليه وآله في القرآن الكريم باسم المذكر أحياناً، وباسم المعلم أحياناً أخرى. إذ أنه صلّى الله عليه وآله في عمله الديني والتهذيبي يقوم بكلا الدورين، فعندما يوقظ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله الجوانب الفطرية في النفس الانسانية، وينبه الناس إلى ضمائرهم الباطنة، يعبر عنه القرآن الكريم بالمذكر: ﴿"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ"﴾(الغاشية:21). وعندما يأتي بتعاليم جديدة ونظم غير موجودة في الفطرة الانسانية يسمى عمله تعليماً: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:151).
الأساس الرصين للفطرة
إن أولى الأمور الفطرية عند الانسان في نظر الاسلام هو معرفة الله فلقد جاء في القرآن الكريم والنصوص المتواترة عن المعصومين عليهم السلام اعتبار معرفة الله أوضح البديهيات في فطرة البشر.
وإن وجود المذاهب المختلفة والعقائد المتضاربة في جميع العصور بين جميع الشعوب والأقوام دليل واضح على وجود غريزة التدين في فطرة الانسان والكل يبحثون عن ضالتهم المنشودة:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾(الروم:30).
هذا هو الأساس الرصين للفطرة، ويظهر في الميل الغريزي للتدين ومعرفة الله جل وعلا، وعلى سبيل الاستشهاد نورد النصوص التالية:
1- عن زرارة قال: "سألت أبا جعفر عليه السلام: ما الحنيفية؟ قال: هي الفطرة التي فطر الناس عليها... فطرهم على معرفته"3.
2- عن الامام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: "فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا"قال: " فطرهم على التوحيد"4.
3- عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه"5.
يستفاد من هذا الحديث أنه يوجد الأساس الأول لتقبل الدين في فطرة جميع الأطفال، ويستغل الأبوان ـ وهما القائمان على تربية الطفل هذه الثروة الفطرية ويربيان الطفل على الدين الذي يريدانه. فإن لم تكن غريزة التدين موجودة في فطرة الانسان لم يكن معنى لتأثير توجيه الوالدين في اعتناق الطفل لدين معين طيلة حياته.
4- عن الامام الصادق عليه السلام: "ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع: المعرفة، والجهل، والرضا، والغضب، والنوم، واليقظة"6.
فحين يولد الطفل تكون صفحة خاطره بيضاء صافية لا يوجد فيها أي معرفة: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾(النحل:78) لكن الله تعالى قد جهز الطفل بالغرائز كالشهوة والغضب والنوم واليقظة لاستمرار حياته. ففي هذا الحديث يرى الامام الصادق عليه السلام أنه لما كان الطفل فارغاً من أي علم أو معرفة فإن فطرة المعرفة تعتبر من الافاضات الالهية في الطفل، ولذلك قد ذكرها في عداد الغرائز الفطرية.
5- عن محمد بن حكيم، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "المعرفة من صنع من هي؟ قال: من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع"7.
6- عن أبي ربيحة، قال: "سئل أمير المؤمنين عليه السلام: بما عرفت ربك؟ قال: بما عرفني نفسه!"8.
7- عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه "سئل عن المعرفة أمكتسبة هي؟ قال: لا، فقيل له: فمن صنع الله وعطائه هي؟ قال: نعم، وليس للعباد فيها صنع"9.
يستفاد من النصوص المتقدمة، والروايات الأخرى الواردة في الباب أن الإسلام يعتبر ـ بكل صرا حة ـ معرفة الله أمراً فطرياً عند الانسان، ويرى أنها من الثروات الطبيعية فيه، شأنها في ذلك شأن بقية الغرائز.
مطالعة كتاب الخلقة
يسلك الأنبياء بين الناس بالنسبة إلى المعرفة الالهية دور المذكر لا المعلم فانهم يقومون بإزاحة أستار الغفلة عن الضمير الباطن والفطرة الانسانية، إنهم جاؤوا ليوصلوا المعرفة الفطرية الاجمالية إلى مرحلة الايمان الاستدلالي العقلي التفصيلي عن طريق الارشاد إلى التفكير والتدبر في الآيات، وعن طريق مطالعة كتاب الخلقة، حيث تتجلى مظاهر الدقة والاتقان في كل ذرة من موجودات هذا الكون الفسيح، وبذلك ليؤمن الناس بعظمة خالقهم ويخضعوا له في مقام العبودية ويطيعوا أوامره.
إن المعرفة الفطرية قابلة للتوضيح بأسلوبين:
1- إدراك القدرة اللامتناهية:
يدرك كل فرد من أفراد البشر من أي طبقة كان، وإلى أي عنصر انتمى بوجود قدرة لا متناهية وقوة عظيمة مسيطرة على الكون كله، وذلك بفضل وجدانه الفطري... قدرة عظيمة لا توصف وقوة ثابتة لا تتغير، قدرة فوق جميع القدرات، وقوة يرجع إليها كل فرد عند اليأس من السنن الطبيعية والعادية للأشياء، وفعندما تغلق بوجهه جميع أبواب الأمل والرجاء يجد باب تلك القدرة مفتوحاً ويستعين بتلك القدرة اللامتناهية، يدرك بوجدانه أن تلك الذات المجهولة، تلك الحقيقة المستترة، تلك القدرة اللامتناهية إذا أرادت حلت المشكلة وفتحت جميع الأبواب. هذا الادراك ليس ناشئاً من العقل والبرهان، بل إنه ناشئ من الوجدان والفطرة وهو موجود في باطن كل فرد، ويكون جزءاً أساسياً من كيانه، هذا الادراك الفطري هو الأساس الأول للتدين... ولقد عرف الأنبياء هذه الحقيقة المجهولة باسم (الله).
" قال رجل للصادق عليه السلام: يابن رسول الله، دلني على الله ما هو؟ فقد اكثر علي المجادلون وحيروني... فقال له: يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟
قال: نعم!
قال: وهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟!
قال: نعم.
قال: فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال: نعم!
قال الصادق عليه السلام: فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي، وعلى الاغاثة حيث لا مغيث"10.
ولقد أشار علماء العصر الحديث إلى هذه الحقيقة بألفاظ وكلمات مختلفة:
يقول ماكس مولر: "إن الاحساس اللامتناهي يوجب نشوء العقيدة والدين"11.
ويقول انيشتين: "إن عقيدتي هي عبارة عن الحمد المتواضع الضئيل لروح فائقة لا حدية"12.
أما جان جاك روسو فيقول: "ليس طريق الايمان بالله منحصراً في العقل وشكوكه وأوهامه، بل إن الشعور الفطري هو أفضل طريق لا ثبات هذا الموضوع13.
والذين لهم أدنى معرفة بأسلوب تفكير فرويد وأتباعه يعلمون أنهم كانوا مصرين على إنكار الفطريات الايمانية والأخلاقية، وأنهم يعتبرون الدين والمذهب أمراً من صنع البشر. أما في مقام المعرفة الفطرية فقد وقعوا في مأزق حرج واضطروا إلى التراجع قليلاً والتحدث بأسلوب أهدأ وأقل إثارة...
"لا يمكن الانكار أنه يوجد بعض الأشخاص يقولون أنهم يحسون في أنفسهم إحساساً لا يستطيعون وصفه بصورة جيدة. هؤلاء يتحدثون عن إحساس يتصل بالأبدية".
"هذا التصور الذهني ينعكس من إحساس أبدي معروف عند العرفاء الكبار، وفي التفكير الديني الهندي. ويحتمل أن يكون أساس الشعور الديني الذي يظهر بصورة العقائد والمذاهب المختلفة".
"إن فرويد يتردد في هذا الموضوع، ويقر بأنه لم يستطع بتحليلاته النفسية أبداً أن يجد أثراً لمثل هذه الاحساسات في نفسه. ولكنه يضيف رأساً وبصراحة كاملة أن هذا لا يسمح له بإنكار هذا الاحساس بالنسبة إلى الآخرين"14.
2- ربط المعلول بالعلة:
يستطيع كل فرد أن يدرك بواسطة وجدانه الفطري ومن دون حاجة إلى معلم أو مرب، أن كل معلول يحتاج إلى علة، ولا يوجد أثر بلا مؤثر.
المصنوع يحتاج إلى صانع، والبناء يحتاج إلى بناء، ان الوجدان الفطري الذي يربط بين الأثر والمؤثر طبيعي إلى درجة أن الطفل بمجرد أن يصبح قادراً على التكلم يسأل أمه باستمرار عن علل الحوادث المختلفة، هذه الأسئلة ليست ذات صلة بالتفكير ولا ناجمة من المحاسبة العقلية، لأنه لا يدرك المسائل العقلية بعد. وهكذا فان أكثر القبائل البشرية الوحشية تملك هذا الوجدان الفطري. يقول الشريف الرضي رحمه الله عند شرحه لبعض روايات الفطرة:
"وهذا يدلك على أن فطرة إبن آدم ملهمة معلمة من الله بأن الأثر دال دلالة بديهية على مؤثره بغير ارتياب"15.
ما أكثر الأفراد الذين استفادوا من كنز المعرفة الفطرية عندهم بفضل إيمانهم ووعيهم، وتوصلوا إلى وجود الله الخالق الحكيم عن طريق التفكير والتدقيق في آية أو عدة آيات الهية، ووقفوا خاضعين له في مقام العبودية مطيعين أوامره ونواهيه... وعلى العكس فما أكثر الأفراد الذين لم يلتفتوا لنداء الفطرة المنبعث من أعماقهم وتجاهلوا الحقيقة، ولم يتوفقوا لعبودية الله والخضوع له حتى يوماً واحداً، طيلة حياتهم. وكذلك ما أكثر الأفراد الذين حاولوا إحياء المعرفة الفطرية في نفوسهم، ولكنهم ضلوا عن الطريق المستقيم، وعبدوا الجماد والنبات والحيوان، أو الشمس والقمر والنجوم بدلاً من خالق الكون.
ولأجل أن يتضح معنى المعرفة الفطرية للقراء الكرام أكثر نعقد مقارنة بين صنع الله وصنع البشر من حيث الدلالة على وجود الصانع ونتوصل ضمن المقارنة إلى بعض النتائج المفيدة.
إن القرآن الكريم يرى في الكون والموجودات كلها أنها صنع الله وتنظيمه... ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾(النمل:88). إذن فالله تعالى هو صانع العالم وجميع الموجودات مصنوعة له.
ولقد استعمل القرآن الكريم مادة الصنع بالنسبة إلى أعمال البشر أيضاً في عدة مواضع، فقال في موضوع سفينة نوح: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ...﴾(هود:38). وفي قصور فرعون والفراعنة يقول: ﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ﴾(الأعراف:137). وفي الأشياء السحرية التي صنعها سحرة مصر لمعاندة موسى ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا﴾(طه:69). وفي صنع داود للدروع: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾(الأنبياء:80).
يكون الوجدان التوحيدي والوجدان الأخلاقي من وجهة نظر الدين والعلم دعامتين أساسيتين للتربية الانسانية السليمة، فإن دعوات الأنبياء اعتمدت على هذين الأساسين القويين بمعونة العقل. فالدين يستند إلى الفطرة في باطن الانسان. وإن العرض الديني الذي كان يصدر من قبل الأنبياء كان في مقابل الطلب الطبيعي عند الناس. ولهذا السبب فإن الدين استقام وأرسى قواعده على الرغم من جميع الموانع والمشاكل التي لاقاها في طريقه.
تمر اليوم قرون طويلة على ظهور رسل السماء، ولا تزال شعلة الإيمان متوهجة في قلوب الناس، لأن المصدر الأصيل لهذه الشعلة المتوقدة هو: فطرة الانسان، فما دام على وجه الأرض إنسان، وما دامت هناك فطرة، فإن هذا المشعل الوهاج لا ينطفىء بل هو مستمر في إشعاعه.
وهنا يجب أن نبين أن الوجدان التوحيدي والأخلاقي... هذه الحقيقة التي نجدها في كمين كل انسان، ليس ظاهرة متصنعة، ولم يوجد على أثر الوراثة الاجتماعية طيلة قرون، وبفضل التعاليم الدينية والتربوية بل إنه أمر غريزي ونداء فطري منبعث من باطن الانسان، وجد مع وجود الانسان، وسيبقى إلى الأبد معه.
قد يمكن للبعض أن يكافحوا بعض ميولهم الفطرية في ظروف خاصة ويكبتوا تلك الغرائز في نفوسهم، ولكن كفاحهم ذلك وكبتهم هذا لا يمكن أن يزيل الحقيقة الفطرية، ويمحو الغريزة الانسانية التي جبل عليها جميع البشر.
فالغريزة الجنسية مثلاً أمر فطري غير قابل للانكار، ولكن وجد على مر الأجيال ملايين الأفراد من تاركي الدنيا في أوروبا والمرتاضين في القارة الهندية، كافحوا هذه الغريزة وخنقوها في نفوسهم بالضغط والاكراه إلى درجة أن بعضهم أخذ لا يحس في نفسه أي ميل جنسي أصلاً، أفيستطيع هؤلاء أن يسحقوا الحقيقة الفطرية للغريزة الجنسية بهذا العمل؟! هل يحق لهؤلاء أن ينكروا وجود الميل الجنسي في البشر؟!.
وكذلك أمر الذين يتجاهلون الفطرة الايمانية والأخلاقية في أنفسهن ويكافحون غريزة التدين حياة طويلة ويعيشون ملحدين، فانهم لا يستطيعون أن ينكروا وجود فطرة الايمان والأخلاق في الانسان، فلا صلة بين انحرافهم عن صراط الفطرة المستقيم وبين حقيقة الوجدان الطبيعي والبناء الفطري القائم على الايمان والأخلاق.
إن الاسلام يعتبر الأسس الرصينة للايمان والأخلاق من الثروات الفطرية الانسانية، ويرى أن التوصل إلى وجود الله، ومعرفة الخير والشر إنما هو جزء من تكوين الانسان.
إحياء الفطرة
إن أهم واجبات الأنبياء هو إيقاظ الجوانب الفطرية عند الانسان واستغلال الثروات الالهامية فيه. يقول الامام علي عليه السلام في هذا الصدد: "فبعث الله فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته ويجتمعوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول"2.
الفرق بين التذكير والتعليم
ربما تكون قد حفظت قصيدة قبل عشرين سنة، ونسيتها على أثر الإهمال والغفلة، وليست لديك أية التفاتة إلى شيء منها أصلاً، ويصادف أن يقرأ شخص تلك القصيدة أمامك فبمجرد أن يبدأ بقراءة البيت الأول تحس بأنس وقرب إلى تلك القصيدة فتعمل حافظتك وتجتهد لتذكر الأبيات التي نسيتها... وفي الواقع ان الذي قرأ لك الأشعار نبهك إلى حقيقة موجودة في ضميرك لكنها منسية. هذا الشخص يسمى بـ (المذكر)، ويسمى عمله (تذكيراً). أما إذا نظم شخص قصيدة حديثة وقرأها لك وعلمها إياك بيتاً بيتاً، فيقال له المعلم ويسمى عمله تعليماً.
من هنا ندرك السر في تسمية النبي صلّى الله عليه وآله في القرآن الكريم باسم المذكر أحياناً، وباسم المعلم أحياناً أخرى. إذ أنه صلّى الله عليه وآله في عمله الديني والتهذيبي يقوم بكلا الدورين، فعندما يوقظ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله الجوانب الفطرية في النفس الانسانية، وينبه الناس إلى ضمائرهم الباطنة، يعبر عنه القرآن الكريم بالمذكر: ﴿"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ"﴾(الغاشية:21). وعندما يأتي بتعاليم جديدة ونظم غير موجودة في الفطرة الانسانية يسمى عمله تعليماً: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:151).
الأساس الرصين للفطرة
إن أولى الأمور الفطرية عند الانسان في نظر الاسلام هو معرفة الله فلقد جاء في القرآن الكريم والنصوص المتواترة عن المعصومين عليهم السلام اعتبار معرفة الله أوضح البديهيات في فطرة البشر.
وإن وجود المذاهب المختلفة والعقائد المتضاربة في جميع العصور بين جميع الشعوب والأقوام دليل واضح على وجود غريزة التدين في فطرة الانسان والكل يبحثون عن ضالتهم المنشودة:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾(الروم:30).
هذا هو الأساس الرصين للفطرة، ويظهر في الميل الغريزي للتدين ومعرفة الله جل وعلا، وعلى سبيل الاستشهاد نورد النصوص التالية:
1- عن زرارة قال: "سألت أبا جعفر عليه السلام: ما الحنيفية؟ قال: هي الفطرة التي فطر الناس عليها... فطرهم على معرفته"3.
2- عن الامام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: "فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا"قال: " فطرهم على التوحيد"4.
3- عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه"5.
يستفاد من هذا الحديث أنه يوجد الأساس الأول لتقبل الدين في فطرة جميع الأطفال، ويستغل الأبوان ـ وهما القائمان على تربية الطفل هذه الثروة الفطرية ويربيان الطفل على الدين الذي يريدانه. فإن لم تكن غريزة التدين موجودة في فطرة الانسان لم يكن معنى لتأثير توجيه الوالدين في اعتناق الطفل لدين معين طيلة حياته.
4- عن الامام الصادق عليه السلام: "ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع: المعرفة، والجهل، والرضا، والغضب، والنوم، واليقظة"6.
فحين يولد الطفل تكون صفحة خاطره بيضاء صافية لا يوجد فيها أي معرفة: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾(النحل:78) لكن الله تعالى قد جهز الطفل بالغرائز كالشهوة والغضب والنوم واليقظة لاستمرار حياته. ففي هذا الحديث يرى الامام الصادق عليه السلام أنه لما كان الطفل فارغاً من أي علم أو معرفة فإن فطرة المعرفة تعتبر من الافاضات الالهية في الطفل، ولذلك قد ذكرها في عداد الغرائز الفطرية.
5- عن محمد بن حكيم، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "المعرفة من صنع من هي؟ قال: من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع"7.
6- عن أبي ربيحة، قال: "سئل أمير المؤمنين عليه السلام: بما عرفت ربك؟ قال: بما عرفني نفسه!"8.
7- عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه "سئل عن المعرفة أمكتسبة هي؟ قال: لا، فقيل له: فمن صنع الله وعطائه هي؟ قال: نعم، وليس للعباد فيها صنع"9.
يستفاد من النصوص المتقدمة، والروايات الأخرى الواردة في الباب أن الإسلام يعتبر ـ بكل صرا حة ـ معرفة الله أمراً فطرياً عند الانسان، ويرى أنها من الثروات الطبيعية فيه، شأنها في ذلك شأن بقية الغرائز.
مطالعة كتاب الخلقة
يسلك الأنبياء بين الناس بالنسبة إلى المعرفة الالهية دور المذكر لا المعلم فانهم يقومون بإزاحة أستار الغفلة عن الضمير الباطن والفطرة الانسانية، إنهم جاؤوا ليوصلوا المعرفة الفطرية الاجمالية إلى مرحلة الايمان الاستدلالي العقلي التفصيلي عن طريق الارشاد إلى التفكير والتدبر في الآيات، وعن طريق مطالعة كتاب الخلقة، حيث تتجلى مظاهر الدقة والاتقان في كل ذرة من موجودات هذا الكون الفسيح، وبذلك ليؤمن الناس بعظمة خالقهم ويخضعوا له في مقام العبودية ويطيعوا أوامره.
إن المعرفة الفطرية قابلة للتوضيح بأسلوبين:
1- إدراك القدرة اللامتناهية:
يدرك كل فرد من أفراد البشر من أي طبقة كان، وإلى أي عنصر انتمى بوجود قدرة لا متناهية وقوة عظيمة مسيطرة على الكون كله، وذلك بفضل وجدانه الفطري... قدرة عظيمة لا توصف وقوة ثابتة لا تتغير، قدرة فوق جميع القدرات، وقوة يرجع إليها كل فرد عند اليأس من السنن الطبيعية والعادية للأشياء، وفعندما تغلق بوجهه جميع أبواب الأمل والرجاء يجد باب تلك القدرة مفتوحاً ويستعين بتلك القدرة اللامتناهية، يدرك بوجدانه أن تلك الذات المجهولة، تلك الحقيقة المستترة، تلك القدرة اللامتناهية إذا أرادت حلت المشكلة وفتحت جميع الأبواب. هذا الادراك ليس ناشئاً من العقل والبرهان، بل إنه ناشئ من الوجدان والفطرة وهو موجود في باطن كل فرد، ويكون جزءاً أساسياً من كيانه، هذا الادراك الفطري هو الأساس الأول للتدين... ولقد عرف الأنبياء هذه الحقيقة المجهولة باسم (الله).
" قال رجل للصادق عليه السلام: يابن رسول الله، دلني على الله ما هو؟ فقد اكثر علي المجادلون وحيروني... فقال له: يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟
قال: نعم!
قال: وهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟!
قال: نعم.
قال: فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال: نعم!
قال الصادق عليه السلام: فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي، وعلى الاغاثة حيث لا مغيث"10.
ولقد أشار علماء العصر الحديث إلى هذه الحقيقة بألفاظ وكلمات مختلفة:
يقول ماكس مولر: "إن الاحساس اللامتناهي يوجب نشوء العقيدة والدين"11.
ويقول انيشتين: "إن عقيدتي هي عبارة عن الحمد المتواضع الضئيل لروح فائقة لا حدية"12.
أما جان جاك روسو فيقول: "ليس طريق الايمان بالله منحصراً في العقل وشكوكه وأوهامه، بل إن الشعور الفطري هو أفضل طريق لا ثبات هذا الموضوع13.
والذين لهم أدنى معرفة بأسلوب تفكير فرويد وأتباعه يعلمون أنهم كانوا مصرين على إنكار الفطريات الايمانية والأخلاقية، وأنهم يعتبرون الدين والمذهب أمراً من صنع البشر. أما في مقام المعرفة الفطرية فقد وقعوا في مأزق حرج واضطروا إلى التراجع قليلاً والتحدث بأسلوب أهدأ وأقل إثارة...
"لا يمكن الانكار أنه يوجد بعض الأشخاص يقولون أنهم يحسون في أنفسهم إحساساً لا يستطيعون وصفه بصورة جيدة. هؤلاء يتحدثون عن إحساس يتصل بالأبدية".
"هذا التصور الذهني ينعكس من إحساس أبدي معروف عند العرفاء الكبار، وفي التفكير الديني الهندي. ويحتمل أن يكون أساس الشعور الديني الذي يظهر بصورة العقائد والمذاهب المختلفة".
"إن فرويد يتردد في هذا الموضوع، ويقر بأنه لم يستطع بتحليلاته النفسية أبداً أن يجد أثراً لمثل هذه الاحساسات في نفسه. ولكنه يضيف رأساً وبصراحة كاملة أن هذا لا يسمح له بإنكار هذا الاحساس بالنسبة إلى الآخرين"14.
2- ربط المعلول بالعلة:
يستطيع كل فرد أن يدرك بواسطة وجدانه الفطري ومن دون حاجة إلى معلم أو مرب، أن كل معلول يحتاج إلى علة، ولا يوجد أثر بلا مؤثر.
المصنوع يحتاج إلى صانع، والبناء يحتاج إلى بناء، ان الوجدان الفطري الذي يربط بين الأثر والمؤثر طبيعي إلى درجة أن الطفل بمجرد أن يصبح قادراً على التكلم يسأل أمه باستمرار عن علل الحوادث المختلفة، هذه الأسئلة ليست ذات صلة بالتفكير ولا ناجمة من المحاسبة العقلية، لأنه لا يدرك المسائل العقلية بعد. وهكذا فان أكثر القبائل البشرية الوحشية تملك هذا الوجدان الفطري. يقول الشريف الرضي رحمه الله عند شرحه لبعض روايات الفطرة:
"وهذا يدلك على أن فطرة إبن آدم ملهمة معلمة من الله بأن الأثر دال دلالة بديهية على مؤثره بغير ارتياب"15.
ما أكثر الأفراد الذين استفادوا من كنز المعرفة الفطرية عندهم بفضل إيمانهم ووعيهم، وتوصلوا إلى وجود الله الخالق الحكيم عن طريق التفكير والتدقيق في آية أو عدة آيات الهية، ووقفوا خاضعين له في مقام العبودية مطيعين أوامره ونواهيه... وعلى العكس فما أكثر الأفراد الذين لم يلتفتوا لنداء الفطرة المنبعث من أعماقهم وتجاهلوا الحقيقة، ولم يتوفقوا لعبودية الله والخضوع له حتى يوماً واحداً، طيلة حياتهم. وكذلك ما أكثر الأفراد الذين حاولوا إحياء المعرفة الفطرية في نفوسهم، ولكنهم ضلوا عن الطريق المستقيم، وعبدوا الجماد والنبات والحيوان، أو الشمس والقمر والنجوم بدلاً من خالق الكون.
ولأجل أن يتضح معنى المعرفة الفطرية للقراء الكرام أكثر نعقد مقارنة بين صنع الله وصنع البشر من حيث الدلالة على وجود الصانع ونتوصل ضمن المقارنة إلى بعض النتائج المفيدة.
إن القرآن الكريم يرى في الكون والموجودات كلها أنها صنع الله وتنظيمه... ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾(النمل:88). إذن فالله تعالى هو صانع العالم وجميع الموجودات مصنوعة له.
ولقد استعمل القرآن الكريم مادة الصنع بالنسبة إلى أعمال البشر أيضاً في عدة مواضع، فقال في موضوع سفينة نوح: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ...﴾(هود:38). وفي قصور فرعون والفراعنة يقول: ﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ﴾(الأعراف:137). وفي الأشياء السحرية التي صنعها سحرة مصر لمعاندة موسى ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا﴾(طه:69). وفي صنع داود للدروع: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾(الأنبياء:80).
تعليق