إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

المَأمُونُ وَغَدْرِهِ بالإمامِ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلامُ):-

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المَأمُونُ وَغَدْرِهِ بالإمامِ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلامُ):-

    بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
    اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
    السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورَحَمُةّ اللهِ وَبَرَكآتُهْ

    سَلَكَ بَنو العَبَّاسِ في خِلافَتِهِم نَفسَ السِّياسَةِ عِندَمَا استَقَرَتْ لَهُم الخِلَافَةُ وأبْعَدوا العَلويِّيِنَ عَنْهَا لَكنَّهُم لَمْ يَنسوا أنْ يَلجؤوا إلَى العَلويِّيِنَ كُلَّمَا اضَطَرَبَ عَرشُهُم وتَزَعزَعَ مُلكَهُم وهذا الإسلوبُ اتَبَعَهُ المَأمُونُ في عَقْدِ ولَايَةِ العَهدِ للإمامِ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلامُ) وَهو أحَدُ الأسبابِ في ذلكَ كَمَا سَتأتي بقيَّةُ الأسبابِ الأُخرَى ، فَمُنذُ أنْ إستَولَى العَبَّاسِيِّونَ عَلَى زمامِ السُّلطَةِ لَمْ تُفَارِقُهُم عُقْدَةُ الحِقْدِ عَلَى العَلويِّيِنَ فمَارَسوا أبشعَ الأساليبِ القَمعيَّةِ لإبادَةِ العَلويِّيِنَ عنْ بَكرَةِ أبيهِم وفي عَرضٍ مُوجَزٍ لِسياسَةِ كُلِّ خَليفَةٍ تِجَاهَ العَلويِّيِنَ ــــ قبلَ المَأمُونِ ـــــ تَتَّضِحُ السَاديَّةُ الّتي جُبِلَ عَلَيْهَا بَنو العَبَاسِ وَشَغَفُهُم بِسَفْكِ الدِّمَاءَ ،فَقدْ سَلّطَ السَّفاحُ أبوالعَبَّاسِ عبدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ بنِ العَّباس بنِ عبدِ المُطَّلبِ علَى العَلويِّيِنَ جَلاوزتَهُ لِقتلِهِم وكانَ يَضعُ عَلَيْهِم الجَواسيسَ والعُيونَ، أمَّا المَنصورُ أبو جَعفَر بنُ مُحَمَّدِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ بنِ العَّباس بنِ عبدِ المُطَّلبِ فَقدْ إتَبَعَ سِياسَةٍ هَوجَاءٍ تِجَاهَ العَلويِّيِنَ فكانَ يضعَهُم في الإسطوانَاتِ وَيَبنيهَا عَلَيْهِم وَيُسَمِرَهُم في الحِيطَانِ وَيترِكَهُم يَموتونَ جُوعاً ثُمَّ يَهدِمُ المِطْبَقَ علَى مَنْ تَبَقَى مِنْهُم حَياً ، وهُمْ في أغلالِهِم إلَى الكَثيرِ مِنَ الأساليبِ البَشِعَةِ، وَتُعَدُّ سِياسَةُ المَنصورِ تِجاهَ العَلويِّيِنَ مِنْ أقبحِ صَفحَاتِ التَّاريخِ العَباسيِّ ومِنْ أقسَى فَتراتِ العَلويِّيِنَ في عَهدِهِم، أمَّا المَهديُّ مُحَمَّدُ بنُ المنصورِ ثالثِ خُلفاءِ بني العَبَّاسِ فَقدْ كانَ يَتَّهِمُ مَنْ يُواليَ أهلَ البيتِ بالإلحَادِ وهيَ ذَريعَةٌ للإيقاعِ بِهِم وقَتلِهِم، أمَّا موسى الهَاديُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ المنصورِ رَابِعِ خُلفاءِ بني العَبَّاسِ فقد عاش العَلويِّيِنَ في عصرِهِ عَصْرَ رُعْبٍ وكانَ يَتَشَدَّدُ في طَلَبِهِم وقَتلِهِم، أمَّا هَارونُ الرَّشيْدُ بنِ المَهديِّ مُحَمَّدِ بنِ المنصورِ خَامِسِ خُلفاءِ بني العَبَّاسِ فليسَ أدَلُّ مِنْ قَولِ الخَوارزميِّ في وصفِ سياستِهِ القَمْعِيِّةِ الدَّمويَّةِ تجاهَ العَلويِّيِنَ حيثُ قالَ: (وَقَدْ حَصَدَ شَجَرَةَ النُّبُوَّةَ وَاقْتَلَعَ َغَرْسَ الْإمَامَةِ) ومَنْ أرادَ التَّوسعَ فَليرجِعْ الَى كتابِ (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرجِ الاصفهانيِّ الّذي نقلَ بعضَ جرائِمِ العَبَّاسِيِّينَ بحقِّ العلويِّينَ لأنَّ جرائِمَهُم لَا تُعَدُّ ولَا تُحْصَى حتَّى قالَ الشَّاعِرُ:
    تاللهِ مَا فَعَلَتْ أُميَّةُ فيهِمُ ************** مِعْشَارَ مَا فَعَلَتْ بنو العبَّاسِ
    وهذهِ الجَرائِمُ إعترفَ بِهَا المَأمُونُ نَفسَهُ في الكِتابِ الّذي أرسلَهُ إلَى العَبَّاسِيِّينَ ، مِنَ اَلطَّرَائِفِ اَلْمَشْهُورَةِ مَا بَلَغَ إِلَيْهِ اَلْمَأْمُونُ فِي مَدْحِ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ مَدْحِ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلَيهِمُ السَّلاَمُ ذَكَرَهُ اِبْنُ مِسْكَوَيْهِ صَاحِبُ اَلتَّارِيخِ اَلْمُسَمَّى بِحَوَادِثِ اَلْإِسْلاَمِ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ نَدِيمَ اَلْفَرِيدِ ، حيث قال: (وَ اَللَّهِ لَوْ كَانَ مَا فِي أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنَ اَلْمَنَاقِبِ وَ اَلْفَضَائِلِ وَ اَلْآيِ اَلْمُفَسِّرَةِ فِي اَلْقُرْآنِ خَلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ أَوْ غَيْرِهِ لَكَانَ مُسْتَأْهِلاً مُتَأَهِّلاً لِلْخِلاَفَةِ مُقَدَّماً عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ بِتِلْكَ اَلْخَلَّةِ ثُمَّ لَمْ يَزَلِ اَلْأُمُورُ تَتَرَاقَى بِهِ إِلَى أَنْ وَلِيَ أُمُورَ اَلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَعْنِ بِأَحَدٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ إِلاَّ بِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ تَعْظِيماً لِحَقِّهِ وَ صِلَةً لِرَحِمِهِ وَ ثِقَةً بِهِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ اَلَّذِي يَغْفِرُ اَللَّهُ لَهُ ثُمَّ نَحْنُ وَ هُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ كَمَا زَعَمْتُمْ حَتَّى قَضَى اَللَّهُ تَعَالَى بِالْأَمْرِ إِلَيْنَا فَأَخَفْنَاهُمْ وَ ضَيَّقْنَا عَلَيْهِمْ وَ قَتَلْنَاهُمْ أَكْثَرَ مِنْ قَتْلِ بَنِي أُمَيَّةَ إِيَّاهُمْ وَيْحَكُمْ إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ إِنَّمَا قَتَلُوا مِنْهُمْ مَنْ سَلَّ سَيْفاً وَ إِنَّا مَعْشَرَ بَنِي اَلْعَبَّاسِ قَتَلْنَاهُمْ جُمَلاً فَلَتُسْأَلَنَّ أَعْظُمُ اَلْهَاشِمِيَّةِ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَ لَتُسْأَلَنَّ نُفُوسٌ أُلْقِيَتْ فِي دِجْلَةَ وَ اَلْفُرَاتِ وَ نُفُوسٌ دُفِنَتْ بِبَغْدَادَ وَ اَلْكُوفَةِ أَحْيَاءً هَيْهَاتَ إِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ `وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ....الخ بحار الأنوار ، ج49، ص208 ، ولمْ يَكُنْ المَأمُونُ بالّذي يتفطّرُ قلبُهُ أَلماً عَلَى تِلكَ المآسي الّتي حَلّتْ بأهلِ البيتِ (عَلَيْهِمُ السَّلامُ) وهو يَصفُ مَا فعلَ أسلَاُفُه مِنْ جرائمٍ بِحَقِّ العَلويِّيِنَ إنَّمَا إقتضَتْ سياسَتُهُ أنْ ينتصرَ شكلياً للعَلويِّيِنَ لأسبابِ سَنوضَّحُهَا فكانتْ رِسالتُهُ تلكَ كلمةُ حَقٍّ يُرادُ بِهَا بَاطلٌ، ولكنْ مَاهَي الأسبابُ الّتي دعَتْ المَأمُونَ لأنْ يمالئ العَلويِّيِنَ ويُشيدُ بِفضلِهِم ويُنَدِّدُ بالجَرائِمِ الّتي اُرتُكِبَتْ بحقِّهِم ومِنْ ثَمَّ يَعقُدُ ولايةَ العهدِ للامامِ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلامُ)؟ فلمْ يَكنْ المَأمُونُ ذلكَ الزَّاهدُ بالخِلافَةِ وقدْ قَتَلَ مِنْ أجلِهَا أخاهُ حتَّى يعقدُهَا لألَدِّ خصومِهِ كَمَا أنَّهُ لمِ يَكُنْ أفضلَ مِمَّنْ سَبَقَهُ مِنَ الخُلفاءِ العَبَّاسِيِّينَ في سياستهِ القَمعيَّةِ ، فَمِنَ الطَّبيعيِّ أنْ تواجِهَ سياسةَ العَبَّاسِيِّينَ القَمعيَّةِ سخطَ النَّاسِ وقيامَ الثَّوراتِ وفي مُقدمَتِهَا الثَّوراتِ العَلويَّةِ ففي عهدِ المَنصورِ ثارَ إبراهيمُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الحَسنِ المُثنَى بنِ الحَسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ ، قتيلُ باخمرَى(منطَقَةٌ بينَ البَصرَةِ والكُوفَةِ) وأخوهُ مُحَمَّدٌ ذو النَّفسِ الزَّكيَّةِ ثُمَ خرجَ عيسَى بنُ زيدٍ بنِ عليٍّ الشَّهيدِ وفي أيامِ الهَاديِّ خرجَ الحُسينُ بنُ عليٍّ العَابدِ بنِ الحَسنِ المُثلَثِ بنِ الحَسنِ المُثنَى صاحبُ فَخٍّ وفي عهدِ الرَّشيدِ خرجَ يَحيَى بنُ زيدٍ بنِ عليٍّ الشَّهيدِ قتيلُ الجوزجَانِ وكُلَّ هذهِ الثَّوراتِ إلَى جانبِ الثَّوراتِ غيرِ العَلويَّةِ قدْ ضَعضَعتْ أركانَ الخِلافَةَ العَبَّاسِيِّةِ وازدادَ سَخطُ النَّاسِ علَى سياستِهِم الجَائِرَةِ في الحُكمِ ، أمَّا الثَّوراتُ غيرِ العَلويَّةِ فقدْ ثارَ حَاتمُ بنُ هرثمَةِ في أرمينيَّةِ، ونَصرُ بنُ شبثِ بنِ كَعبِ بنِ ربيعَةِ ـــــ الّذي إستمرتْ ثُورتُهُ لِمدَّةِ إثنتي عشرةِ سنَةٍ ـــــ في سِميسَاطِ منْ مُدنِ الأناضولِ ، إضافةً إلَى الحركاتِ الأُخرَى كَحركَةِ الزطِ (الغَجَر) في جَنوبِ العِراقِ ، والخرميَّة حركَةٌ سُميتْ بإسمِ قائدِهَا بابَك الخَرمي في آذربيجان، وثورة المصريِّينَ وغيرَهَا ولكنْ هذهِ الحَركاتُ لمْ تكنْ ذاتُ خُطورَةٍ كبيرةٍ كالّتي تُشكِلُهُ الثّوراتُ العَلويَّةِ كونَ القائمينَ بِهَا ينتسبونَ إلَى الرَّسولِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) ولكونِ المُدنِ الّتي يقومونَ فيهَا بثورتِهِم حساسَةٌ وقريبةٌ منْ مركزِ الخِلافَةِ .
    في تلكَ الأوضاعِ الخَطرةِ والحرجَةِ كانَ كرسيُ الخلافةِ العَبَّاسِيِّةِ تَتَّقاذفُهُ الأمواجُ في مهبِ الرِّيحِ ولكنَّ المأمونَ الّذي عُرفَ بدهائِهِ ومكرِهِ لَا يُمكنُ أنْ يستسلِمَ بهذهِ السُّهولَةِ لهذهِ الثَّوراتِ مَهمَا بلغتْ ضَراوتُها ويتركَ الخلافَةَ وقدْ قَتلَ أخاهُ وخطَّطَ لسنواتٍ طِوالٍ في سبيلِ الوصولِ إليهَا، لِذا فقدْ اقتضتْ السياسَةُ العَبَّاسِيِّةُ أنْ تُشرِكَ العلويِّينَ ألدُّ خصومِ العَبَّاسِيِّينَ في الخلافةِ لإخمادِ الثَّوراتِ العلويَّةِ وغيرِهَا والحصولِ علَى شرعيَّةٍ للخلافةِ وإكتسابِ ثِقَّةِ النَّاسِ وإمتصاصِ نقمتِهِم وهكذا تَحتِّمَ على سياسةِ السَّيفِ والقَمعِ والدَّمِ والتَّعذيبِ والتَّنكيلِ أنْ تُخفي أساليبَهَا الوحشِّيَّةِ لفترةٍ منَ الزَّمنِ لتحوكَ المؤامراتِ والدسائسِ للتَّخلُّصِ منْ مناوئيهَا بعدَ عجزهَا عن مقارعتِهِم في ميادينِ النِّزالِ ، فرأى المأمونُ أنْ يعقدَ ولايةَ العهدِ للإمامِ الرِّضَا(عَلَيْهِ السَّلامُ) سيد العَلويَّينَ لكي ينالَ تأييدَ النَّاسِ وتَرجعَ للخلافةِ قُوَّتُهَا ونفوذُهَا كما أقامَ أسلافَهُ خلافتِهِم بالدِّعايَّةِ للعلويِّينَ والبَيعَةِ (للرضا من آل محمد) فهو يعلمُ مَا للإمامِ منْ قاعدةٍ شعبيَّةٍ واسعةٍ، وقويَّةٍ وما يحظى بهِ منْ تقديرٍ واحترامٍ من قِبَلِ مختلفِ شرائحِ المُجتمعِ ، واضافةً إلَى الاهدافِ والمآربِ الّتي ذكرنَاهَا والّتي كانَ المأمونُ يسعَى لتحقِّيقِهَا منْ خلالِ تقليدِهِ ولايةِ العهدِ للإمامِ الرِّضَا فقدْ كانَ يَسعى لجعلِ الامامِ الرِّضَا(عَلَيْهِ السَّلامُ) تحتَ المُراقبَةِ الشَّدَّيدَةِ وإبعادِهِ عنِ النَّاسِ والشِّيعَةِ منْ أصحابِهِ وخواصِّهِ وقطعِ صِلَاتِهِ معَهُم ليُمهِدَ بذلكَ الطَّريقَ إلَى التَّخَلُّصِ منَ الامامِ .
    لقدْ كانَ الإمامُ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلامُ) في امتناعِهِ وقبولِهِ وطريقةِ حياتِهِ ولياً للعهدِ، يتخذُ المواقفَ المناسبَةِ لهذا الهدفِ، ويتخذُ الخطواتِ المؤديَّةِ إليهِ، وسطَ دهشةِ المدهوشينَ وسخطِ الساخطينَ وتربصِ المتربصينَ ، لقدْ كانَ يعيَ أنَّ البيعةَ المعروضةَ عليهِ هي بيعةُ الموتِ، وكانَ يعيَ مأزقَ المأمونِ والخلافةِ العَبَّاسِيِّةِ ، وكانَ يعيَ أهدافَ المأمونِ منْ عرضِ ولايةِ العهدِ، وكانَ يعيَ مأزقَهُ هو بهذا العَرضِ الّذي يحملُ خطرَ الاعترافِ بشرعيَّةِ حُكمِ المأمونِ، ومنْ ثَمَّ الاعترافُ بشرعيَّةِ الخلافةِ العبَّاسيَّةِ، وكانَ يعيَ طبيعةَ الشِّراكَ الّتي ستنصبُ في طريقهِ، وليسَ أقلُّهَا شأناً وخطراً محاولةُ إدخالِهِ في جهازي حكمٍ وإدارةٍ لمْ يُشكلُهُمَا هو، ولَا يتلاءمانِ معَ توجهاتِهِ في الفِكرِ والسياسةِ والأخلاقِ ، لقدْ كانَ يعيَ كُلُّ ذلكَ, ولذا فقدْ كانَ موقفُهُ الأوَّلُ منْ العرضِ هو الرَّفضُ والإباءُ، واستمرتْ محاولاتُ المأمونِ وبطانتِهِ في الإقناعِ، واستمرَ هو على امتناعِهِ إلى أنْ واجهَ التَّهديدَ المُبطنَ والصَّريحَ بالقَتلِ، فقَبِلَ ولايةَ العهدِ (وهو باك حزين) كمَا تقولُ كثيرٌ منَ الرِّواياتِ: ففِي عُيُونِ اَلْأَخْبَارِ فِي بَابِ ذِكْرِ مَوْلِدِ اَلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): مَلَكَ عَبْدُ اَللَّهِ اَلْمَأْمُونُ عِشْرِينَ سَنَةً وَ ثَلَثَةٍ وَ عِشْرِينَ يَوْماً، فَأَخَذَ اَلْبَيْعَةَ فِي مُلْكِهِ لَعَلِيِّ بْنِ مُوسَى اَلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بِعَهْدِ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ رِضَاءٍ، وَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُهَدِّدَهُ بِالْقَتْلِ وَ أَلَحَّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فِي كُلِّهَا يَأْبَى عَلَيْهِ، حَتَّى أَشْرَفَ مِنْ تَأَبِّيهِ عَلَى اَلْهَلاَكِ، فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): ( اَللَّهُمَّ اِنَّكَ قَدْ نَهَيْتَنِي عَنِ اَلْإِلْقَاءِ بِيَدِي إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ قَدْ أُكْرِهْتُ وَ اُضْطُرِرْتُ كَمَا أَشْرَفْتُ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ اَللَّهِ اَلْمَأْمُونِ عَلَى اَلْقَتْلِ مَتَى لَمْ أَقْبَلْ وَلاَيَةَ عَهْدِهِ وَ قَدْ أُكْرِهْتُ وَ اُضْطُرِرْتُ كَمَا اُضْطُرَّ يُوسُفُ وَ دَانِيَالُ عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ إِذْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اَلْوَلاَيَةَ مِنَ طَاغِيَةِ زَمَانِهِ. اَللَّهُمَّ لاَ عَهْدَ إِلاَّ عَهْدُكَ. وَ لاَ وَلاَيَةَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِكَ، فَوَفِّقْنِي لِإِقَامَةِ دِينِكَ وَ إِحْيَاءِ سُنَّةِ نَبِيِّكَ. فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْمَوْلَى وَ اَلنَّصِيرُ وَ نِعْمَ اَلْمَوْلَى أَنْتَ وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ، ثُمَّ قَبِلَ وَلاَيَةَ اَلْعَهْدِ مِنَ اَلْمَأْمُونِ وَ هُوَ بَاكٍ حَزِينٌ عَلَى أَنْ لاَ يُوَلِّيَ أَحَداً وَ لاَ يَعْزِلَ أَحَداً وَ لاَ يُغَيِّرَ رَسْماً وَ لاَ سُنَّةً، وَ أَنْ يَكُونَ فِي اَلْأَمْرِ مُشِيراً مِنْ بَعِيدٍ )، تفسير نور الثقلين ، ج1، ص179 .
    وقدْ شرحَ الإمامُ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلامُ) قبولَهُ لبعضِ أصحابِهِ وفي مناسباتٍ متنوعةٍ بهذا التَّعليلِ ، إنَّ الرفضَ مفهومٌ، لأنَّهُ ينسجمُ معَ وضعِهِ العامِ ومعَ فهمِهِ لأهدافِ المأمونِ، ومعَ وعيهِ لأهدافِهِ هو من حياتِهِ، ولكنَّ القبولَ يحتاجُ إلَى تفسيرٍ ، إنَّ التَّهديدَ بالقتلِ ـ بما هو تهديدٌ للحياةِ الشَّخصيَّةِ ـ ليسَ سبَّباً كافياً لفهمِ القبولِ .

    إنَّ موقفَ الإمامِ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلامُ) يشبهُ منْ وجوهٍ موقفَ الإمامِ الحُسينِ (عَلَيْهِ السَّلامُ) بصيغةٍ تُناسبُ شخصيَّةِ المأمونِ وعصرِهِ، وقد تحمّلَ الإمامُ الحُسينُ (عَلَيْهِ السَّلامُ) خيارَ الشَّهادةِ ، وعلينا أنْ نبحثَ عنْ سبَّبٍ أعمقٍ منَ المحافظةِ علِى الحياةِ الشخصيَّةِ وراءَ قبولِ الإمامِ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلامُ) بولايةِ العَهدِ، وأوفقُ بشخصيتِهِ كإمامٍ معصومٍ، وأوفقُ بالهدفِ الثابتِ للأئمةِ المعصومينَ (عَلَيْهِمُ السَّلامُ)، بل إنَّنَا نرى أنَّ المحافظةَ علَى الحياةِ الشخصيَّةِ لَا تدخلُ في الأسبابِ الحقِّيقيَّةِ للقبولِ، لأنَّنَا نرى أنَّ مجردَ ولادةَ فكرةِ ولايةِ العَهدِ في ذهنِ المأمونِ كانتْ حُكماً بالقتلِ علَى الإمامِ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلامُ)، ونقدّرُ أنَّ الإمامَ كانَ يعيَ هذا، ولَعلَّهُ لذلكَ لمْ يَصحبُ أحداً منَ آلهِ إلَى (مرو) ظناً بهم أنْ ينزلَ بِهم مَا سينزلَ بِهِ ، لقدْ كانَ محكوماً بالقتلِ إنْ لمْ يقبلُ، وكانَ محكوماً بالقتلِ إنْ قَبِلَ، والفرقُ بينَ الحَالتينِ هو فعليَّةُ التَّنفيذِ وتأجيلِ التَّنفيذِ ،ونُقَدِّرُ أنَّ إباءَهُ ورفضَهُ كانَ لكشفِ المزيدِ منْ مكنوناتِ خِطَةِ المأمونِ ونواياهُ، وشبكةُ العلاقاتِ الّتي تُديرُ عمليةَ ولايةِ العهدِ منْ خلالِ أطرافِهَا، ولمْ يكنْ رفضُهُ لولايةِ العهدِ مُجردَ رَدَّ فعلٍ ساذجٍ وبسيطٍ ، يجبْ أنْ نرى في الإمامِ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلامُ) وموقفَهُ ـ معَ مُلاحظَةِ اختلافِ العصورِ والعهودِ وطبيعةِ الخَصمِ ـ مشابهةٌ قوَّيَّةٌ منَ الإمامِ الحَسنِ (عَلَيْهِ السَّلامُ) وموقفَهُ ،والفروقُ بينهُمَا ناشئةٌ منْ أنَّ الإمامَ الحسنَ (عَلَيْهِ السَّلامُ) واجهَ الحُكمَ بالموتِ بصيغةِ التَّعجيلِ أو بصيغةِ التَّأجيلِ وهو يسلبُ مَا في يدِهِ، وواجهَ الإمامُ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلامُ) الحكمَ بالموتِ بصيغةِ التَّعجيلِ أو بصيغةِ التَّأجيلِ منْ خلالِ عرضٍ كاذبٍ بأنْ يأخذَ في المستقبلِ حَقَّهُ المسلوبِ، ولكنْ لِيُسلَبُ الآنَ أساسَ شرعيَّةِ هذا الحَقُّ، فاختارَ صيغةِ التَّأجيلِ ـ كالإمامِ الحسنِ (عَلَيْهِ السَّلامُ) ـ، لأنَّهَا أوفقُ بهدفِ الأئمةِ (عَلَيْهِمُ السَّلامُ) الّذي خَطا إليهِ الإمامُ الحسينُ (عَلَيْهِ السَّلامُ) من خلالِ صيغةِ التَّعجيلِ، لأنَّها أوفقُ بظروفِهِ وظروفِ الأمَّةِ في عصرِهِ، وأوصلَ إلَى الهدفِ الثَّابتِ للأئمةِ المعصومينَ (عَلَيْهِمُ السَّلامُ)، وأشَدُّ تدميراً لِخصمِهِ يزيدَ وللنِّظامِ الأمويِّ .
    فسَلامُ اللهِ عَلَيْهِ ، يومَ وُلِدَ، ويومَ اُستشهدَ، ويومَ يُبعَثُ حيا .

  • #2
    اللهم صل على محمد وال محمد
    احسنتم ويبارك الله بكم
    شكرا لكم كثيرا
    مأجورين
    ​​​

    تعليق


    • #3
      جزاكم الله خيرا ووفقنا وإياكم لخدمة المذهب الطاهر الشريف

      تعليق

      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
      حفظ-تلقائي
      Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
      x
      يعمل...
      X