بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورحَمُةّ الله وبُركآتُهْ
اٰللـــٌّٰـهٌمٓ صَلِّ عٓـلٰىٰ مُحَمَّدٍ وُاّلِ مُحَمَّدٍ
السَلآْم عَلْيُكّمٌ ورحَمُةّ الله وبُركآتُهْ
يَسألُ سائِلٌ : لِمَاذا يَجبُ علَى المُقلِّدِ أنْ يلتزِمَ بِتقليدِ فَقيهٍ مُعيّنٍ، ولَا يحقُّ لَهُ الرُّجوعَ إلَى فقيهٍ آخرٍ مَا دامَ ذلكَ الفَقيهُ حَيٌّ يُرزَقُ؟
ألَا تَعتقدَ بأنّهُ نوعٌ مِنَ التَّسلّطِ علَى حُرّيَّةِ الفَردِ، وإلغاءِ بندٍ منْ بنودِ حُرّيَّةِ الفَردِ؟
والجوابُ :- الرأيُ المُتّبعُ عنْدَ المُحقّقينَ منْ عُلماءِ الشِّيعَةِ هو تَقليدُ الأعلمِ - مَعَ فرضِ عَدالَتِهِ - فالفقيهُ إذا كانَ أعلَمَاً لَا وجهَ للرُّجوعِ مِنْهُ إلَى الآخرينَ؛ إذْ لَا حُجّيَّةَ لرأي غيرِ الأعلَمِ بالنِّسبَةِ لِلمُقلِّدِ, والقَدَرِ المُتيَقّنِ منْ حُجّيَّةِ كَلامِ غيرِ المَعصومِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الأحكامِ في عَصرِ الغَيبَةِ هو: قولِ الأعلَمِ منَ الفُقهَاءِ ،
نَعمْ، لَو تبدّلَ الحَالُ، وأصبحَ غيرُ الأعلَمِ أعلماً، أو إرتفعَتْ صِفَةُ العَدالَةِ عندَ الأعلمِ، فيجبُ حينئذٍ الرُّجوعَ والعدولَ إلَى غيرِهِ مِمّنْ إتصَفَ بالمواصفاتِ المَذكورَةِ, أي: الأعلميَّةُ والعَدالَةُ .
وأمّا مَا ذَكرتُموُهُ مِنْ سَلْبِ حُرِّيَّةِ الفَردِ, فَهو في غيرِ مَحلّهِ, فإنّ العَقلَ بإستقلَالِهِ - فضلاً عَنْ الشَّرعِ والقَواعِدِ الأُصوليَّةِ - يؤيّدُ مُتابعَةَ الأعلَمِ في كُلِّ مَجالٍ, أمَا تَرَى أنّ الإنسانَ في مَجالاتِ الحَيَاةِ عندمَا يَرَى موضعاً مُختلِفاً فيهِ يبحثُ عَنْ رأي الأكثرِ خِبرةً واختصاصاً في الموضوعِ , فهلْ هذا يُعتبرُ سَلباً لِحُرّيَّتِهِ؟!
يَتحَدَثُ صَاحِبُ «العُروَة» مُقَسِماً لِحالِ المُكلَفِ العَادي في مَعرِفَةِ تَكليفِهِ أو حُكمِهِ الشَّرعي والقيامِ بتنفيذِهِ فيقولُ: «يجبُ علَى كُلِّ مُكلَفٍ في عباداتِهِ ومُعاملَاتِهِ أنْ يكونَ مُجتهداً أو مُقلداً أو مُحتاطاً» .
ويتحدَثُ بَعضُ الشُرّاحِ عَنْ هذهِ العِبَارةِ بقولِهِم: إنَّ صاحبَ «العُروَةُ الوُثقَى» إبتدأَ بقولِهِ «أنْ يكونَ مُجتهِداً» لأنَّ الإجتهادَ أشرفُ مِنَ التَّقليدِ .
الإجتهادُ مَلَكَةٌ يُحصِّلُهَا الإنسانُ بِجِدِّهِ وإجتهادِهِ لِيتمكَنَ بِهَا مِنْ إستنباطِ الحُكمِ الشَّرعي منْ مَظانِّهِ، فيعرفُ الحُكمَ الشَّرعي ويرتبطُ بِهِ مُباشَرَةً مِنْ دونِ وَاسطَةٍ .
فالإجتهَادُ أشرَفُ مِنَ التَّقليدِ لِمَا فيهِ مِنْ إِعمَالِ الذِّهنِ، وإستقلاليَّةِ الإنسانِ، ومُباشَرَتِهِ لِدليلِ الحُكمِ الشَّرعيِّ، أمَّا التَّقليدُ فهوَ حَاجَةٌ والحَاجَةُ لَا شَرَفَ فيهَا، لكنَّهَا هُنَا وَسيلَةُ غيرِ القَادِرِ بِذاتِهِ للوصولِ إلَى حُكمِ اللهِ، فيلجأُ إلَى مَنْ لَهُ هذهِ الإمكانيَّةِ والقُّدرَةِ وهوَ الفَقيهُ الجَامِعُ للشَّرائطِ .
إستدلَّ الفُقهاءُ علَى جوازِ التَّقليدِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ بالأدلّةِ القَاطعَةِ مِنَ الكِتابِ والسُنّةِ والعَقلِ :
أمّا الكِتَابُ : فبآياتٍ عَديدَةٍ مِنْهَا قولُهُ تَعالَى : ﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، سُورَةُ النَّحْلِ ، الآية43، سُورَةُ الأنْبِياءِ ، الآية 7.
وقولُهُ تَعالَى : ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾، سُورَةُ التَّوبَةِ، الآية122.
وأمّا السُنّةُ : فرواياتٌ كثيرَةٌ وهيَ بَالغَةٌ حَدَّ التَّواترِ الإجمَالي : عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ اَلْكُلَيْنِيِّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ أَنَّهُ قَالَ : سَأَلْتُ اَلشَّيْخَ اَلْكَبِيرَ - أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيَّ أَنْ يُوصِلَ لِي كِتَاباً قَدْ سَأَلْتُ فِيهِ مَسَائِلَ أَشْكَلَتْ عَلَيَّ فَوَرَدَ اَلتَّوْقِيعُ بِخَطِّ مَوْلاَنَا صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): ( ..... وَ أَمَّا اَلْحَوَادِثُ اَلْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَ أَنَا حُجَّةُ اَللَّهِ......)، الغيبَةُ (للطوسی)، ج۱،ص۲۹۰.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ الهَادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قَالَ: سَأَلْتُهُ و قُلْتُ: من أعامل، و عَمَّنْ آخُذُ، و قَوْلَ مَنْ أَقْبَلُ؟ فَقَالَ لَهُ: ( اَلْعَمْرِيُّ ثِقَتِي، فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ فَعَنِّي يُؤَدِّي، و مَا قَالَ لَكَ فَعَنِّي يَقُولُ، فَاسْمَعْ لَهُ و أَطِعْ، فَإِنَّهُ اَلثِّقَةُ اَلْمَأْمُونُ..... الخبر )، الکافي ج1، ص329.،
وقولُ الإمامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : لأبانَ إبنَ تَغلِب :
( إجْلِسْ فِى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ، وأَفْتِ النَّاسَ ، فَإنِّى أُحِبُّ أَنْ يُرَي فِى شِيعَتِى مِثْلُكَ )، مُستدرَكُ الوسائِلِ ، 17، 315 ، ح 14.
وأمّا العَقلُ : فقدْ إستدَلَّ بالسِّيرَةِ العَقلائيَّةِ منْ رُجوعِ الجَّاهِلِ إلَى العَالمِ في كُلِّ عِلْمٍ وفَنٍّ وحِرفَةٍ ومِهنَةٍ ، وقدْ أمضَى الشَّارِعُ هذهِ السِّيرَةِ حيثُ لَمْ يَردَعُ عَنْهَا .
ولأنَّ التَّقليدَ عِبارَةٌ عنْ حَاجَةِ الجَاهلِ في الرُّجوعِ إلَى العَالَمِ، فإنَّ مَا يُستشَفُّ مِنْ كلمَاتِ العُلمَاءِ هو التَّعاملُ مَعَهَا بِضيقٍ شَديدٍ، وضِمْنِ قُيودٍ مُعَيَّنَةٍ، معَ دَفعِ المُكَلَفِ في العَديدِ مِنَ القَضايَا والأمورِ لإعْمَالِ رأيهِ وتَفكيرِهِ لِيتوصَلَ هوَ إلَى رأي خاصٍ بِهِ، مِنْ دونِ أنْ يخضعَهُ لِدائرَةِ الإتِّبَاعِ والتَّقليدِ، وبذلكَ أوجدوا لِلمُكَلَفِ مَساحاتٍ واسعَةٍ يستطيعُ فيهَا مُفارَقَةِ الفَقيهِ، بمعنَى عدمِ تَقلِيدِهِ، مُعتمداً عَلَى نَفْسِهِ، وسنتحَدَثُ فِيهَا في هذا المَقالِ ورُبَمَا في مَقالاتٍ لَاحقَةٍ .
لَقدْ أكَدَّ العُلماءُ أنَّ مَحَلَ التَّقليدِ ومورِدِهِ هو الأحكامُ الفَرعيَّةِ العَمليَّةِ، مِنْ صَلاةٍ وصَومٍ، وزكَاةٍ وحَجٍّ، وخُمسٍ وجِهَادٍ، وأمرٍ بِالمَعروفِ ونهيٍ عَنْ المُنكَرِ، وتولّيٍّ لأوليَاءِ اللهِ، وتبرّيٍ منْ أعدائِهِم، وَيَتَّسعُ الأمرُ لِيشمَلَ المُعاملَاتِ وأحكامِهَا، مِنْ جوازٍ وحُرمَةٍ وغيرِ ذلكَ، وكذلكَ الأمورِ العَمليَّةِ الّتي يَبتليَ بِهَا الإنسانُ في حياتِهِ
رُبَّمَا يَتَّفِقُ جميعُ الفُقهَاءُ علَى إستثنَاءِ جميعِ أصولِ الدِّينِ مِنْ مَسألةِ التَّقليدِ، وهي الأمورُ العَقديَّةِ الكُبرَى أو مَا تُسمَى بأصولِ الدِّينِ، فلَا يقبلونَ التَّقليدَ فِيهَا .
وَيُمكنُ الرُّجوعَ إلَى نَصِّ المَسألَةِ في كتابِ «العُروَةُ الوُثقَى» لِلعَلَّامَةِ الفَقيهِ السَّيدِ مُحَمَّدٍ كاظمٍ الطَّبَاطَبَائيِّ اليَزدي، لِلوقوفِ عَلَى مَجموعةٍ مِنَ الإستثناءاتِ الخَارجَةِ عَنْ وجوبِ التَّقليدِ، والّتي يكونُ المُكلَفُ حُراً طَليقاً فيهَا، يَستطيعُ إعْمَالَ ذِهنِهِ فيهَا، أو إلتِمَاسَ المَعرفَةِ مِنْ آخرٍ غيرَ مَرجعَهُ إذا إستقرَبَ مَا عِندَهُ مِنْ رأيٍ واطمأنَ لِحُكمِهِ وَقَطْعِهِ
هُناكَ عبارَة دقيقَةٌ وواضحَةٌ في مَوقعِ المَرجِعِ الفَقيهِ سَمَاحَةِ آيةِ اللهِ العُظمَى السَّيِّدِ عليِّ السِيستَانيِّ: «لَابُدَّ أنْ تكونَ عقيدَةُ المُسلِمِ في بابِ أصولِ الدِّينِ عَنْ بصيرَةْ وَوَعيٍ، فَلَا يُمكِنُ أنْ يُقلِدَ غيرَهُ فيهَا بِمعنَى أنْ يَقبَلُ قَولَ غيرَهُ بِهَا مُجرَدَ أنَّهُ يقولُ بِهَا» ، تُعطي هذهِ العِبارَةُ حُريَةً واسعَةً لِلمُكلَفِ في كُبرياتِ قَضايَا الدِّينِ والإعتقادِ، فلَا يُوجَدُ سَمْعٌ وطَاعَةٌ في هذا المَوضوعِ بِقَدَرِ مَا يَجبُ علَى الإنسانِ مِنْ التَّفكرِ والتَّأمُلِ للوصولِ إلَى النَتائِجِ بقناعَةٍ ومَعرفَةٍ وليسَ بِتقليدٍ ومُتابَعَةٍ .
وبعبارة أوضح: إنّ أصل التقليد هو الرجوع إلى أهل الاختصاص, وبما أنّ أهل الاختصاص مختلفون في مستوياتهم العلمية وفي مقدار تخصّصهم, فالعقل يحكم بالرجوع إلى الأعلم منهم والأكثر خبرة في تخصّصه .
تعليق