بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
قال عليه السلام: علمت أنّ رزقي لا يأكله غيري فإطمئننتُ.
لا يخفى إنّ الاطمئنان القلبي يعني اليقين وهو علم العلم الذي لا شبهة ولا شك ولا ريب فيه، وإنّه العلم المنعقد بالقلب الّذي يعبّر عنه بالإيمان والعقيدة، فإذا كان كالجبل الرّاسخ لا تحركه وتزحزحه العواصف من الشبهات والشکوك، كان اليقين والاطمئنان القلبي، فهو المقام والمرتبة الثالثة في السير والسلوك والعرفان الإسلامي الأصيل الذي يبتني على القرآن الكريم والعترة الطاهرة محمد وآل محمد^، وأما المقام الأول فهو العلم وهو عقد الموضوع بالمحمول کقولنا (الله موجود) والمقام الثاني هو الإمان وهو إنعقاد العلم بالقلب والذي یسمی بالعقیدة والثالث هو الیقین والإطمئنان القلبي وهو الیقین والعلم بالقلب...
... ومن هذا المنطلق ما ورد في دعوة إبراهيم الخليل وسؤاله من ربه في قوله: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ فقال سبحانه ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾ فقال ﴿ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ قال إبراهيم الخليل× كان عنده العلم بالمعاد وإحياء الأموات، وآمن بذلك بقلبه وبكلّ وجوده، إلّا أنّه أراد زيادة اليقين ليطمئن قلبه، ثم المرتبة الرابعة بعد ذلك في مقام ذُلّ العبودية وعِزّة الربوبية هو وصوله إلى مقام الكشف والشهود وقرب الفرائض والنوافل فيكون العبد عين الله وسمعه، كما يكون الباري عز وجّل سمع العبد وبصره، كما هو واضح عند أهله وثابت في محله.
ثم الرزق وهو ما ينتفع به إنما هو بالأصالة والاستقلال، وفي النهاية: 2: 219: الارزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم، وفي المفردات: الرزق: يقال للعطاء الجاري تارة دنيوياً كان أم اخروياً، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة، يقال: أعطى السلطان رزق الجند، ورُزقت علماً.. من الله الرزاق اللّبن السائغ الطاهر اللّذيذ المقوي المتكون من دم الأمّ في ثديها، ثم الرزق تارة مضموناً کالقوت واللّبن في ثدي الأم وأُخرى الرّزق المقسوم الذي قسّمه الله بين عباده، فمنهم من كان غنياً ومنهم من كان فقيراً، وجعل الفقر والغنى للإمتحان والاختبار إنا بلوناكم أيكم أحسن عملاً، فأمر الغني بالشكر والسّعة على الفقراء، كما أمر الفقراء بالقناعة وبالصبر على الفقر، وثالثة: الرّزق الموعود الذين أمر الله سبحانه أن يسأل من فضله وزيادة رزقه، كما وعد زيادة الرزق لمن أتقى، فإنه من يتقي الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب من الأرزاق الماديّة والمعنوية كالحج والزيارة والشهادة في سبيله والأخلاق الحسنة وغير ذلك.
ومن الرزق القوت والطعام والأكل والشرب ليتقّوى العبد على الحياة الدّارجة، والتي يدّبّ بها ويعيش ويُوجب الحركة وبقاء الجسد وقوته فهو من الرزق المضمون، فما كان رزقك في علم الله سبحانه، فإنّه لا يأكله غيرك، وهذا من سنن الله في تكوين الإنسان، ولن تجد لسُّنة الله تحويلاً ولا تبديلاً، فمن علم وأيقن بذلك كيف لا يطمئن قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ (الذاريات: 58).
﴿ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً ﴾ (المائدة: 88).
﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ (آل عمران: 27).
﴿ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾ (الإسراء: 31).
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾ (سبأ: 36).
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق: 2 ـ 3).﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ ﴾ (البقرة: 60).
﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ (الذاريات: 22).
عن العترة الطاهرة وفي الوحي القديم: يابن آدم خلقتك من تراب ثم من نطفة، فلم أعي بخلقك أو يعييني ورزقک أُسوّقه إليك في حينه) (البحار: 103: 26).
2ـ عن الصادق عليه السلام كان فيما وعظ لقمان إبنه: يا بنّي ليعتبر من قصر يقينه وضعفت نيّته في طلب الرزق، أنّ الله خلقه في ثلاثة أحوال من أمره، وأتاه رزقه ولم يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة، أنّ الله تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة... في رحم أُمّه.. ومن بين أمّه.. ومن بين أمّه... من كسب أبويه حتى إذا كبر وعقل واكتسب لنفسه ضاق به أمره، وظنّ الظنون بربّه، وجحد الحقوق في ماله، وقتّر على نفسه وعياله، مخافة إقتار رزقه، وسوء يقين بالخَلق من الله تبارك وتعالى. (البحار: 71: 131).
3 ـ قال الإمام الصادق لبعض أصحابه في عيادته له في مرضه ووصيته له بحسن الظّن بالله تعالى، عند شكواه من غمّ بناته، قال عليه السلام: الذي ترجوه لتضعيف حسناتك ومحو سيئاتك، فارجه لإصلاح حال بناتك.أقول: يعني الرب واحد فمن ترجوه ليغفر ذنوبك ويبدل السيئات حسنات والحسنات درجات والدرجات جنات عاليات، فاطلب منه أن يرزق بناتك ويصلح حالهنّ، فليكن رجاءك وأملك بالله الواحد الأحد سبحانه وتعالى.
وإن الله سبحانه هو الذي قسّم أرزاق العباد، وأحصى آثارهم وأعمالهم، وعدد أنفسهم، فلا يملك إمساك الأرزاق وإدرارها إلّا الرزاق جلّ جلاله﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ ﴾ (الشورى: 27) بل سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ... ﴾ (النحل: 71) ﴿ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾(النساء: 22).
وما هذا التقسيم الإلهي إلّا عن عدل وحكمة، وما كان الغنى والفقر إلّا أليات للإبتلاء والاختبار ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.
4 ـ قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: وقدّر الأرزاق فكثّرها وقللّها، قسّمها على الضيق والسّعة، فعدل فيها ليبتلي من أراد، بميسورها ومعسورها، وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها. (نهج البلاغة: خطبة 91).
5 ـ وقال: في قوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾: ومعنى ذلك أنّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين السّاخط لرزقه، والرّاضي بقسمه... (النّهج: حكم: 93). هذا في الرزق المقسوم وأما الرزق المضمون وهو القوت الذي يوجب الحياة، فهذا عام لجميع من يدبّ على الأرض من الحيوانات والإنسان، قال سبحانه ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ (هود: 6) ﴿ وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ...﴾ (العنكبوت: 60).
6 ـ قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: لكل ذي رمق قوت (البحار: 77: 381).
7 ـ وقال: انظروا إلى النّملة في صغر جثّتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البّصر... مكفولة برزقها، مرزوقة بقوتها، لا يغفلها المنّان، ولا يحرمها الديّان، ولو في الصّفا اليابس، والحجر الجامس. (النهج: خطبة: 185).
8 ـ... فهذا غراب وهذا عقاب، وهذا حمام وهذا انِعام، وكلّ طائر بإسمه، وكفُل له برزقه (النهج خ 185).
9 ـ عياله الخلائق، ضمن أرزاقهم، وقدّر أقواتهم (النهج: خطبة 91).
10ـ وقال الإمام زين العابدين عليه السلام في التحميد لله عز وجل: (... وجعل لكلّ روحٍ منهم قوتاً معلوماً مقسوماً من رزقه ما لا ينقص من زاده ناقص، ولا يزيد من نقص منهم زائد.
11ـ هذا ولابد من السّعي والطلب في الرزق، كما قال الإمام الصادق عليه السلام: اغدو إلى عزّك، وقال عليه السلام: لا تدع طلب الرزق من حِلّه، فإنه عون لك على دينك، واعقل راحلتك وتوكّل.
وإذا رزق الله مريم العذراء رطباً ألا أنه أمرها كذلك أن تهزّ الجذع، فلابدّ من عمل وحركة حتى يتساقط الرزق الإلهي كالرّطب الجَني.
12ـ قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: (اطلبوا الرزق فإنه مضمون لطالبه) (البحار: 77: 421).
13ـ قال أبو عبيدة للإمام الصادق عليه السلام: (اُدع الله لي أن لا يجعل رزقي على أيدي العباد. فقال : أبى الله عليك ذلك، إلّا أن يجعل أرزاق العباد بعضهم من بعض، ولكن ادع الله أن يجعل رزقك على أيدي خيار خلقه، فإنّه من السعادة (البحار: 78: 244).
وهذا الطلب للرزق لا يعني الإنهماك في الطّلب في الليل والنهار حتى يتغافل عن الواجبات والفرائض الأُخرى.
14ـ قال رسول الله‘: لا تتشاغل عمّا فُرض عليك بما قد ضمن لك، فإنه ليس بفائتك ما قد قسّم لك، ولست بلاحق، ما قد زوي عنك (البحار: 77: 188).
15ـ وقال الإمام العسكري عليه السلام: لا يشغلك رزق مضمون عن عمل مفروض (البحار: 78: 384).
16ـ وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام في نهجه: قد تكفّل لكم بالرّزق، وأمرتم بالعمل، فلا يكوننّ المضمون لكم طلبه أولى من المفروض عليكم عمله، مع أنه والله لقد اعترض الشك، ودَخل اليقين، حتى كأن الذي ضُمن لكم قد فرض عليكم، وكأنّ الذي قد فرض عليكم قد وضع عنكم.(النهج خ: 114).
فيستحب الإجمال في الطلب، ويكره الحرص، فإنه وما كان الإنسان حريصاً، فلا يؤثر ذلك في رزقه المضمون والمقسوم، كما.
17ـ قال الإمام الصادق عليه السلام: (إذا كان الرزق مقسوماً فالحرص لماذا؟).
18ـ عن مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام:
دع الحرص على الدنيا * وفي العيش فلا تطمع
فإن الرزق مقسوم * وكدّ المرء لا ينفع
فقیر كلّ من يطمع * غنی کل من یقنع
19ـ وعن مولانا الإمام الحسين عليه السلام:
فإن تكن الدنيا تعدّ نفيسة * فدار ثواب الله أعلى وأنبلُ
وإن تكن الأرزاق قسماً مقدّرا * فقلّة حرص المرء في الرزق أجمل
20ـ وقال أمير المؤمنين عليه السلام: إعلموا أن عبداً وإن ضعفت حيلته، ووهنت مكيدته، أنّه لن يزداد على ما قدّر الله له.كم من متعب نفسه مقتر عليه، ومقتصد في الطلب قد ساعدته المقادير. (البحار: 103: 25).
تعليق