قفوا نبكِ من ذكرى الأحبة في البقيع
فعسى تطوف عيوننا بالكعبة العصماء في عمق النجيع
وترفّ أفئدةُ لنا، كحمائم الطف الملطّخة النصوع
وتطير تبحث عن ربيع..
بلى.. ولطالما سألني القلب عن معنى (البقيع)، فحار مني اللبّ، وأنا أبحث في معاجم الروح وقواميس السماء، فما وجدت لها إلا معنىً واحداً، هي (بقاع) الجنان، انكسرت ألِفها مع انكسار الضلع الأول، فغدت (بقيعاً)، ثم انفرجت حروفها لتضمّ كل تلك الضلوع، وتنوح من بعيد على تلك الربوع، وتناجي الأحبة الغرباء المبحرين في يمّ الصقيع..
وتتوالى أسماء العترة الهادية: "ما منا إلا مسمومٌ أو مقتول" صدقت يا أبا البتول، وما منكم إلا غريبٌ في الأقطار قد غدا للغرباء وطنا، أو قريرٌ في الجوار قد حُرم أن يكون لهم سكن.
ترى، ما الحكمة في ذلك؟!
أن يكون جوارك الآمن وجنتك العلية، لمحبيك ومحبي بضعتك الزكية، غربة.. لا تستهلّ فيه دموعهم وتنتفض عنده قلوعهم إلا سراً وتقية، بينما تنطلق الأفئدة هناك، في تلك الجنان القصية، لتمتلئ الأصوات والآهات والصدور بالزفرات، فلا تخاف الأذية؟!
وأقلّب صفحات التاريخ مراراً، أنقّب فيها عن كنوزٍ غدت عندنا أسراراً، فرمنا اكتشافها عسانا نحوز انتصاراً.. وأي انتصارٍ ذاك، حينما تشرق السطور بأنوار الطور الساطعة من الرقّ المنشور، المنزل على نبيٍّ محبورٍ بقدرٍ مقدور..
بلى.. ويهلّ من جانب ضلع البقيع المكسور نور.. وأمعن النظر، فإذا هو باقر العلم الأكبر، خامس الأئمة الغرر سادات البشر، سميّ النبي ووريث علمه وعلم الوصي، ابن الخيرتين من هاشم، علويّ ابن علويَّين، أمه فاطمة بنت الحسن الزكي، وأبوه زين العابدين علي بن الحسين (عليهم جميعاً أفضل السلام) ولا نبالغ إن قلنا: إنه أكرم نسب، فهو وليد السبطين، ولا عجب.
ويكفينا معرفةً بفضله، سوى كرم محتد آبائه المتصل بنبي الرحمة عبر الأئمة، قول ولده الإمام الصادق(عليه السلام) في أمه:
"كانت جدتي صدّيقةً لم يُدرك في آل الحسن مثلها".
ويزيدنا بياناً بحالها ما ذكر على لسان ولدها الباقر(عليه السلام) نفسه:
"كانت أمي قاعدةً عند جدار، فتصدّع الجدار، وسمعنا هدةً شديدة، فأشارت بيدها وقالت: "لا وحق المصطفى ما أُذن لك في السقوط"، فبقي معلّقاً حتى جازته، فتصدّق عنها أبي بمئة دينار".
إيه يا أم الأئمة، تقسمين على الجماد فيطيعك، أفلا أقسمتِ على تلكم القلوب القاسية التي حال بينها وبين حب أوليائك هوى النفس، لعلها تتصدع وتتدكدك؟!
كلا، بل هي قلوبٌ أشد قسوةً من الحجارة، فذا طاغية بني أمية يقتل أطهار بني هاشم، ويتطاول على الآل الأكارم، ويسبيك ويسبي بعلك وابنك فيمن يسبي من آل الرسول، بعدما تذوقون حر المصاب وفقد الأحباب.
وها أنت يا مولاتي تساندين سيدتك زينب الكبرى في حفظ ركب الطهر من أزلام العهر، وتحوطين زوجك العليل وطفلك الأثيل من ذاك الشر، فتكونين واحدةً من تلكم النساء العظيمات اللواتي صنَّ الرسالة والإمامة من الكيد والمكر.
وأما سيد عصره، عالم آل محمد، من بقر العلم وشقّه وأظهره، فذاك لبّ الحديث وجوهره، وقد سبق إليه باللقب جده النبي الأكرم(ص) إذ قال لصاحبه جابر بن عبد الله الأنصاري:
"يا جابر، إنك ستبقى حتى تلقى ولدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)، المعروف في التوراة بالباقر، فإذا لقيته فأقرئه عني السلام".
بلى.. هو الباقر، من تفتّحت عيناه في حجر جده سيد الشهداء(عليه السلام)، فرأى ظلامته وعاش مأساة كربلاء، وسبي طفلاً ابن أربعٍ في من سُبي من آل أحمد الأصفياء، ثم عاد إلى مدينة جده وقد خبر على صغر سنه عمق البلاء، وعايش أباه زين العابدين(عليه السلام)، وتتلمذ على يديه الحانيتين، حتى شاهد بأم العين استشهاده مسموماً بعد حين، أسوة بجده المجتبى الأمين.
وكان له من خلاف الأمويين على الحكم فرصة في إظهار علم آبائه الدفين، وتخريج الفقهاء والعلماء والعابدين، حتى قيل فيه:
"ما رأينا العلماء عند أحدٍ أصغر علماً منهم في مجلس أبي جعفرٍ الباقر(عليه السلام)"
ولكنه كما وعد جده المصطفى(ص)، لم يسلم من سمهم الزعاف، فها هو هشام بن عبد الملك الأموي يرسل إليه يستدعيه إلى دمشق، هو وولده الصادق(عليه السلام)، ظاناً أنه قادرٌ على الإنقاص من قدره أمام أهل الشام، بعدما رآه من عظمته في عيون أهل الحجاز، ولكنه خسئ وتُبّر عمله، فحبسه فصار أهل السجن مريدين له، فأشخصه إلى المدينة مسرعاً عساه يكتفي أمره، وأرسل قبله من يشيع في الناس أنه ساحر، فلما مرّ على (مدين) غلّق أهلها أبوابهم في وجهه، فدعا عليهم كدعاء نبيهم شعيب(عليه السلام)، وكاد ينزل بهم عذاب كعذابه، لولا أن تداركوا الأمر ففتحوا له مرعوبين، وقد اكتشفوا مكانته من حيث أريد لهم أن يكونوا عنه غافلين.
علي حسين الخباز, [٠٥/٠٥/٢٠٢٢ ١٠:٥٩ م]
لقد كاد له الطاغية من كل جانب، فكان كيده في تضليل، حتى إذا أعياه أمره، أوعز إلى عامله على المدينة أن يدس له السم، لتكتمل مسيرة الشهادة الحسينية بشهيد جديد، عاش كربلاء في طفولته، وكرّ على البلاء في شبابه وكهولته، فكان مصيره مصير آبائه الأتقياء النجباء من آل النبي وعترته، صالحٌ بعد صالح، وشهيد في إثر شهيد، حتى يحكم الله بين الحق والباطل بما يريد، وهو خير الحاكمين.