عند التأمّل فيما خاطب به الإمام الصادق عليه السلام، أبا الفضل العباس، في الزيارة المرورية بسندٍ صحيح متّفق عليه، وهو الإمام العارف بأساليب الكلام ومقتضيات الأحوال، تظهر لنا الحقيقة، ونعرف منزلة للعبّاس سامية لا تعدو منزلة المعصومين، فقال عليه السلام في صدر سلام الإذن:
* «سَلامُ الله وَسَلامُ مَلائِكَتِهِ المُقَرَّبِينَ وَأَنْبِيائِهِ المُرْسَلِينَ وَعِبادِهِ الصَّالِحِينَ وَجَمِيعِ الشُّهَداء وَالصِّدِّيقِينَ وَالزَّاكِياتُ الطَّيِّباتُ فِيما تَغْتَدِي وَتَرُوحُ عَلَيْكَ يا ابْنَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ».
فإنّه أشار بهذا إلى مصبّ سلام الله الذي هو رحمته المتواصلة والعطف الغير محدود الذين لا انقطاع لهما.
وسلام الملائكة المشاهدين لمقادير الرجال في ملأ القدس وحظيرة الجلال.
وسلام الأنبياء الذين لا يعدون مرضات الله ووحيه في أفعالهم وتروكهم.
وسلام الصالحين والشهداء الذين أدركوا بفضل الاتصال بالرسل وأوصيائهم، أو بالتجرّد ومشاهدة الحقائق الثابتة في عالم الغيوب، زيادة على ما عرفوه من مقام أبي الفضل وفضله.
فكُلّ هؤلاء يتقرّبون إلى الله تعالى بالدعاء له، لما عرفوا أنّه من أقرب الوسائل إليه، وحيث كانت خالصة للزلفة، ماحضة في التقرّب إليه جلّ ذكره، عادت زاكية طيّبة بنصّ الزيارة: «الزَّاكِياتُ الطَّيِّباتُ».
* ثُمّ قال عليه السلام: «أَشْهَدُ لَكَ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّصْدِيقِ وَالوَفاءِ وَالنَّصِيحَةِ لِخَلَفِ النَّبِيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ المُرْسَلِ».
هاهنا أثبت لأبي الفضل منزلة التسليم التي هي من أقدس منازل السالكين، وفوق مرتبة الرضى والتوكّل، فإنّ أقصى مرتبة الرضى أن يكون محبوب المولى سبحانه محبوباً له، موافقاً لطبعه، فالطبع ملحوظ فيه.
صاحب التوكّل مسلوب الإرادة، وأمّا صاحب التسليم فلا يرى لغير الله وجوداً مع الله فضلاً عن نفسه.
وهذه المرتبة فوق مرتبة التوكّل التي هي فوق مرتبة الرضى، لا تحصل إلاّ بالبصيرة النافذة، والوصول إلى أعلى مراتب اليقين، تلك المرتبة التي أخبر عنها أمير المؤمنين عليه السلام: «لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً».
أمّا العناوين الثلاثة وهي: «التصديق، والوفاء، والنصيحة» فلا شكّ أنّ الإمام يريد أن أبا الفضل في أرقى مراتبها، لانبعاثها عن التسليم، وهو حقّ اليقين، فإنّه المناسب لتصديقه بأخيه الحجّة، وبنهضته في ذلك الموقف الحرج، وهكذا وفاؤه ونصيحته، فإنّ وفاء شخص لآخر كما يمكن أن يكون لأجل الأُخوة والرحم والصحبة، ويمكن أن يكون لأجل المعرفة التامّة، بما أوجب الله له من الحرمة والحقّ على الأُمة.
وحيث إنّ الإمام أثبت لأبي الفضل أرقى مرتبة السالكين، وهي التسليم اللازم لحقّ اليقين، فلا بدّ أن يكون ما صدر منه من التصديق بنهضة أخيه والوفاء لحقّه والمناصحة في العمل، منبعثاً عن حقّ اليقين بذلك الأمر الواجب، لا لأجل أنّ الحسين أخوه أو رحِمه أو ابن رسول الله، فإنّ هذه المرتبة وإن مُدح عليها الشخص، إلاّ أنّ المرتبة الأُولى أرقى وأرفع، ولا ينالها إلاّ ذوو النفوس القدسيّة ممّن وجبت لهم العصمة.
ويؤيّد ذلك تعقيب العناوين الثلاثة بقوله عليه السلام: «لخلف النّبي المرسل»، فإنّه لو لم يرد هذا لقال في الخطاب: (لأخيك) أو (للحسين) أو (لابن أمير المؤمنين)، فالتعبير بخلف النّبيّ لا يُراد منه إلاّ أنّ الدافع لأبي الفضل على التسليم والتصديق والوفاء والنصيحة بالمفادات إلاّ كون الحسين إماماً مفروض الطاعة، وهذا مغزى لا يبعث إليه إلاّ البصيرة المميّزة لشرف الغايات المتحرّية لكرائمها.
ثُمّ إنّ من تخصيص الإمام الخطاب له دون غيره من الشهداء بقوله: «لَعَنَ الله مَنْ جَهِلَ حَقَّكَ وَاسْتَخَفَّ بِحُرْمَتِكَ» نعرف أنّ غيره من الشهداء لم يُدرك هذا المدى، وإن كان لكُلّ منهم حقّاً وحرمة، إلاّ أنّ شبل أمير المؤمنين كانت معارفه أوسع، وإيمانه أثبت، فكان له حقّ في الدين، وحقّ على الأُمّة لا يُنكر، فاستحقّ بكُلّ منهما اللعن على جاهله والمستخفّ به.
* ثُمّ قال الصادق عليه السلام في الزيارة المتلوة داخل الحرم: «أَشْهَدُ وَأُشْهِدُ الله أَنَّكَ مَضَيْتَ عَلى ما مَضى بِهِ البَدْرِيُّونَ».
لقد جرى التشبيه بالبدريّين مجرى التقريب إلى الأذهان، في الإشادة بموقف أبي الفضل من البصيرة، فإنّ أهل بدر أظهر أفراد أهل البصائر؛ لأنّهم قابلوا طواغيت قريش على حين ضعف في المسلمين، وقلّة في العدّة والعتاد، فخاضوا غمرات الموت تحت راية النبوّة، بقوّة الإيمان، وعتاد البصيرة.
فلو كان في المجاهدين مَن هو أوفر فضلاً من أبي الفضل العبّاس لكان هذا الدعاء، أو الإخبار عن أمره، شططاً من القول، خارجاً عن ميزان العدل، تعالى عنه كلام المعصوم، فإذاً لم يكن غيره من المجاهدين مطلقاً أوفر فضلاً، ولا أكثر جزاءً، ولا أوفى بيعة إلاّ مَن أخرجه الدليل من الأئمّة المعصومين.
* ثُمّ إنّ هناك مرتبة أُخرى ثبتت لأبي الفضل، خصّه بها الإمام الصادق عليه السلام بقوله: «أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بالَغْتَ فِي النَّصِيحَةِ وَأَعْطَيْتَ غايَةَ المَجْهُودِ، فَبَعَثَكَ الله فِي الشُّهَداء، وَجَعَلَ رُوحَكَ مَعَ أَرْواحِ السُّعَداءِ، وَأَعْطاكَ مِنْ جِنانِهِ أَفْسَحَها مَنْزِلاً وَأَفْضَلَها غُرَفاً».
فإنّ المبالغة في أمثال المقام عبارة عن بلوغ الأمر إلى حدوده اللازمة. ولا شكّ أنّ كُلّ واحد من شهداء الطفّ قد بالغ في النصيحة، ولم يألُ جهداً في أداء ما وجب عليه، ولكُلِّ منهم في ذلك المشهد الدامي شواهد من أقواله وأعماله. لكنّ «شهيد العلقمي» لمّا كانت بصيرته أنفذ، وعلمه أوفر، وإيمانه أثبت، كان مداه أبعد، وغايته أسمى، وحدوده أوسع، ولذلك خاطبه الصادق عليه السلام بهذا الخطاب، وخصّه بالمبالغة في التضحية، فكان هذا كفضيلة مخصوصة به.
وهناك درجة أربى وأربع أشار إليها الصادق بقوله: «وَرَفَعَ ذِكْرَكَ فِي عِلّيِّينَ».
فإنّ «حامي الشريعة» لم يبرح مواصلاً في الخدمات، حتّى أقبل إلى الله تعالى متلفّعاً بدم الشهادة، شهادة صكّ نبأها مسامع الملكوت،