مختصر من حياة الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام)
1ـ ولادته (عليه السلام): الإمام أبو جعفر محمد بن علي الجواد (عليه السلام) ، ولد في يوم الجمعة العاشر من شهر رجب سنة (195هـ) في المدينة المنورة . ووردت في دعاء الناحية المقدّسة إشارة إلى أن ولادته في رجب: (( اللهم إنّي أسألك بالمولودَين في رجب ؛ محمد بن علي الثاني وابنه علي بن محمّد المنتجب ))(1).
اسمه الكريم : محمّد ، وكنيته المشهورة أبو جعفر ، وألقابه : التقي والجواد ، وقيل أيضاً : المختار والمنتجب والمرتضى والقانع والعالم وغيرها . والده الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ، ووالدته اُمّ ولد اسمها : سبيكة ، وسمّاها الإمام الرضا (عليه السلام) خيزران . وكانت من أهل النوبة ومن قبيلة مارية القبطية أُم إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وكانت أفضل نساء زمانها ، وقد أشار إليها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بقوله: (( بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيّبة ))(2). وأمّا كيفية ولادته (عليه السلام) فترويها حكيمة بنت الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) أنها قالت : لمّا حضرت ولادة خيزران اُمّ أبي جعفر (عليه السلام) ، دعاني الرضا (عليه السلام) فقال لي: (( ياحكيمة إحضري ولادتها ، وادخلي وإيّاها والقابلة بيتاً )) . ووضع لنا مصباحاً وأغلق الباب علينا ، فلمّا أخذها الطلق طفي المصباح وبين يديها طست ، فاغتممت بطفي المصباح ، فبينما نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر (عليه السلام) في الطست ، وإذا عليه شيء رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتّى أضاء البيت ، فأبصرناه ، فأخذته فوضعته في حجري ونزعت عنه ذلك الغشاء ، فجاء الرضا (عليه السلام) ففتح الباب وقد فرغنا من أمره ، فأخذه فوضعه في المهد وقال لي: (( يا حكيمة ، إلزمي مهده )) . قالت: فلمّا كان في اليوم الثالث رفع بصره إلى السماء ثم نظر إلى يمينه ويساره ، ثم قال: (( أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله )). فقمت ذعرة فزعة ، فأتيت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت له: لقد سمعت من هذا الصبي عجباً ! فقال: (( وما ذاك؟ )) فأخبرته الخبر فقال: (( يا حكيمة ، ما تروى من عجائبه أكثر ))(3). وروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: (( قد وُلد شبيه موسى بن عمران فالق البحار ، فيبكي عليه أهل السماء ، ويغضب الله تعالى على عدوّه وظالمه فلا يلبث إلاّ يسيراً حتّى يُعجّل الله به إلى عذابه الأليم وعقابه الشديد ))(4). والمشهور أنّ الإمام الجواد (عليه السلام) شديد الأدَمة(5) . وقيل : أبيض معتدل(6).
2ـ فضائله ومناقبه ومعاجزه (عليه السلام): روى العلاّمة المجلسي وغيره أنّه كان عمرُ الإمام الجواد (عليه السلام) عند وفاة أبيه (عليه السلام) تسع سنين ، وقيل : سبع سنين . ولمّا استُشهد أبوه كان في المدينة ، وشكّ بعضُ الشيعة في إمامته ؛ لصغر سنّه حتّى حجّ العُلماء والأفاضل والأشراف وأماثل الشيعة في أطراف العالم ، ثم جاؤوا إلى الإمام (عليه السلام) بعد إتمام مناسكهم ، فزالت شبهاتهم وشكوكهم بعد ما رأوا غزارة علمه وكثرة معاجزه وكراماته ، وأقرّوا بإمامته. وقد رُوي أنه (عليه السلام) أجاب عن ثلاثين ألف مسألة غامضة في مجلسٍ واحد أو مجالس متوالية(7). وأراد المأمون ـ بعد أن أخذ الناس بلومه والطعن عليه ؛ لقتله الإمام الرضا (عليه السلام) ـ أن يدفع تهمة الخطأ والجرم عنه ، فكتب ـ بعدما جاء من خراسان إلى بغداد ـ الى الإمام محمد الجواد (عليه السلام) يدعوه بإعزاز وإكرام ، فلمّا وصل الإمام الجواد ، خرج المأمون يوماً للصيد قبل أن يلقى الإمام ، فاجتاز بطرف البلد ، وهناك صبيان يلعبون ومحمد الجواد (عليه السلام) واقف عندهم ، فلمّا أقبل المأمون فرَّ الصبيان ووقف محمّد الجواد (عليه السلام) وعُمره إذ ذاك تسع سنين ، فلمّا قرُب منه الخليفة نظر إليه ـ وكان الله تعالى ألقى في قلبه مسحة القبول ـ فقال له: ياغلام ما منعك أن لا تفرّ كما فرَّ أصحابُك ؟ فقال له محمّد الجواد (عليه السلام) مُسرعاً: (( يا أمير المؤمنين ، فرَّ أصحابي خوفاً ، والظنّ بك حسن . إنّه لا يفرُّ مِنك مَن لا ذنب له . ولم يكن بالطريق ضيقٌ فانتهي عن أمير المؤمنين )). فأعجب المأمون كلامه وحسن صورته ، فقال: ما اسمُك ياغلام ؟ فقال: (( محمّد بن عليّ الرضا )) . فترحَّم الخليفة على أبيه ، وساق جواده إلى ناحية وجهته(8). وروى الطبري عن الشلمغاني أنّه قال : حجّ إسحاق بن إسماعيل في السنة التي خرجت الجماعة إلى أبي جعفر (عليه السلام) . قال إسحاق : فأعددتُ لي في رقعةٍ عشر مسائل لأسأله عنها ، وكان لي حمل . فقلتُ: إذا أجابني عن مسائلي سألتُه أن يدعو الله لي أن يجعله ذكراً ، فلمّا سأله الناس قمت والرقعة معي لأسأله عن مسائلي ، فلمّا نظر إليَّ قال لي : (( يا أبا يعقوب سمّه أحمد )) . فولد لي ذكر وسمّيته أحمد ، فعاش مُدّةً ومات(9). ومن معاجزه (عليه السلام) ما رواه الشيخ الكليني وغيره عن محمّد بن أبي العلاء أنّه قال : سمعتُ يحيى بن أكثم ـ قاضي سامراء ـ بعدما جهدت به وناظرتُه وحاورتُه ، وواصلتُه وسألته عن عُلوم آل محمّدٍ (ص) فقال : بينا أنا ذات يوم دخلتُ أطوف بقبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فرأيتُ محمّد بن عليّ الرضا (عليه السلام) يطوف به ، فناظرتهُ في مسائل عندي فأخرجها إليّ . فقلتُ له : والله إنّي اُريد أن أسألك مسألة ، والله لأستحي من ذلك . فقال لي : (( أنا اُخبرك قبل أن تسألني ، تسألني عن الإمام ؟ )) فقلت: هو والله هذا . فقال : (( أنا هو )) . فقلتُ : علامة ؟ فكان في يده عصا فنطقت وقالت: إنّ مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجّة(10). وروى أيضاً بهذا المعنى عُمارة بن زيد أنه قال: رأيت محمّد بن علي (عليهما السلام) فقلت له: يابن رسول الله ما علامة الإمام؟ قال: (( إذا فعل هكذا ، ووضع يده على صخرةٍ فبان أصابعُه فيها ، ورأيتُه يمدّ الحديدة بغير نارٍ ويطبع على الحجارة بخاتَمه))(11) . وروى إسماعيل بن العبّاس الهاشمي أنّه قال: جئتُ إلى أبي جعفر (عليه السلام) يوم عيد ، فشكوتُ إليه ضيق المعاش ، فرفع المصلّى وأخذ من التراب سبيكة من ذهب فأعطانيها ، فخرجت بها إلى السوق فكان فيها ستة عشر مثقالاً من ذهب(12).3ـ شهادته (عليه السلام): لمّا استدعى المأمون الإمام الجواد (عليه السلام) بعد وفاة أبيه إلى بغداد وزوّجه ابنته ، مكث الإمام ببغداد مدّة فضاق صدره من سوء معاشرة المأمون ، فاستأذنه في الذهاب إلى الحجّ ، فتوجّه إلى بيت الله الحرام ومن هناك عاد إلى مدينة جدّه وبقي هناك إلى أن مات المأمون ، واغتصب الخلافة بعده أخوه المعتصم . وكان ذلك في السابع عشر من شهر رجب سنة (218هـ) . فلمّا استوى المعتصم على الملك ، وسمع فضائل ومناقب الإمام الجواد (عليه السلام) ، وبلغة غزارة عِلمه ، اضطرمت نار الحسد في قلبه ، وصمّم على القضاء على الإمام عليه السلام فاستدعاه إلى بغداد ، فلمّا توجّه الإمام إلى بغداد جعل وصيّه وخليفته ابنه علي النقيّ (عليه السلام) ، ونصَّ على إمامته عند كبار الشيعة وثقات الأصحاب ، وسلّم إليه كتب العلوم الإلهية والأسلحة التي كانت للنبي (صلّى الله عليه وآله) وسائر الأنبياء (عليهم السلام) . ثم ودع الإمام أهله وولده وترك حرم جدّه (صلّى الله عليه وآله) وذهب إلى بغداد بقلبٍ حزين ، ودخلها يوم الثامن والعشرين من شهر محرّم سنة (220هـ) وقتله المعتصم في أواخر هذه السنة بالسُّمّ . وأما كيفية شهادته (عليه السلام) ، فقد وقع الخلاف فيها لكن الأشهر أنّ زوجته اُم الفضل بنت المأمون سمّته بعد تحريض عمّها المعتصم ؛ لأنها كانت تضمر العداء والبغض للإمام ؛ لميله (عليه السلام) إلى الجواري دونها ، وكان يرجّح أُمّ الإمام علي النقي (عليه السلام) عليها ، فكانت دائمة الشكاية منه عند أبيها وهو لا يستمع إليها ، وقد عزم بعد أن قتل الإمام الرضا (عليه السلام) على ترك أذى أهل بيت الرسالة (عليهم السلام) وعدم التعرّض لهم للحفاظ على الملك(13). وكيف ما كان فقد نقل عن كتاب عيون المعجزات : أنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر (عليه السلام) ، وأشار على ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه ؛ لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر (عليه السلام) وشدّة غيرتها عليه ، فأجابته إلى ذلك وجعلت سُمّاً في عنب رازقي ووضعته بين يديه . فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي ، فقال: (( ما بكاؤك؟ واللهِ ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر وبلاء لا ينستر )). فماتت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها ، حيث صار ناسوراً فيه فأنفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك العلّة التي احتاجت إلى الاسترفاد ـ يعني الاستعانة ـ ورُوي أن الناسور كان في فرجها(14). ثم غُسّل الامام عليه السلام وكُفّن ودُفن في مقابر قريش خلف رأس جدّه الإمام موسى (عليه السلام) ، وصلّى عليه ظاهراً الواثق بالله ، ولكنّ الحقيقة هي إنّ الإمام علي النقي (عليه السلام) جاء من المدينة بطيّ الأرض وتولّى أمر تجهيزه وتكفينه والصلاة عليه(15). ووقع الخلاف في تأريخ إستشهاد الإمام الجواد (عليه السلام) ، والأشهر أنّه استُشهد في آخر شهر ذي القعدة سنة (220هـ) ، وقيل غير ذلك(16). وكان ذلك بعد سنتين ونصف من موت المأمون كما قال الأمام نفسه : (( الفرج بعد المأمون بثلاثين شهراً )) . وعمره الشريف خمس وعشرون سنة وأشهر(17).
.
المصادر
1) بحار الأنوار 50 / 14.
(2) الارشاد 2 / 276.
(3) مناقب آل أبي طالب 3 / 499.
(4) عيون المعجزات / 108.
(5) نوادر المعجزات / 173.
(6) بحار الأنوار 50 / 15.
(7) مناقب آل أبي طالب 2 / 490.
(8) الفصول المهمة / 266 عنه موسوعة الامام الجواد (عليه السلام) 1 / 424.
(9) الكافي 1 / 353.
(10) الكافي 1 / 353.
(11) دلائل الامامة / 400.
(12) الثاقب في المناقب / 526.
(13) مروج الذهب 3 / 464.
(14) بحار الأنوار 50 / 17.
(15) بحار الأنوار 50 / 13.
(16) حلية الأبرار 1 / 13 ، وبحار الأنوار 50 / 2 .
(17) بحار الأنوار 50 / 64 .
1ـ ولادته (عليه السلام): الإمام أبو جعفر محمد بن علي الجواد (عليه السلام) ، ولد في يوم الجمعة العاشر من شهر رجب سنة (195هـ) في المدينة المنورة . ووردت في دعاء الناحية المقدّسة إشارة إلى أن ولادته في رجب: (( اللهم إنّي أسألك بالمولودَين في رجب ؛ محمد بن علي الثاني وابنه علي بن محمّد المنتجب ))(1).
اسمه الكريم : محمّد ، وكنيته المشهورة أبو جعفر ، وألقابه : التقي والجواد ، وقيل أيضاً : المختار والمنتجب والمرتضى والقانع والعالم وغيرها . والده الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ، ووالدته اُمّ ولد اسمها : سبيكة ، وسمّاها الإمام الرضا (عليه السلام) خيزران . وكانت من أهل النوبة ومن قبيلة مارية القبطية أُم إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وكانت أفضل نساء زمانها ، وقد أشار إليها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بقوله: (( بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيّبة ))(2). وأمّا كيفية ولادته (عليه السلام) فترويها حكيمة بنت الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) أنها قالت : لمّا حضرت ولادة خيزران اُمّ أبي جعفر (عليه السلام) ، دعاني الرضا (عليه السلام) فقال لي: (( ياحكيمة إحضري ولادتها ، وادخلي وإيّاها والقابلة بيتاً )) . ووضع لنا مصباحاً وأغلق الباب علينا ، فلمّا أخذها الطلق طفي المصباح وبين يديها طست ، فاغتممت بطفي المصباح ، فبينما نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر (عليه السلام) في الطست ، وإذا عليه شيء رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتّى أضاء البيت ، فأبصرناه ، فأخذته فوضعته في حجري ونزعت عنه ذلك الغشاء ، فجاء الرضا (عليه السلام) ففتح الباب وقد فرغنا من أمره ، فأخذه فوضعه في المهد وقال لي: (( يا حكيمة ، إلزمي مهده )) . قالت: فلمّا كان في اليوم الثالث رفع بصره إلى السماء ثم نظر إلى يمينه ويساره ، ثم قال: (( أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله )). فقمت ذعرة فزعة ، فأتيت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت له: لقد سمعت من هذا الصبي عجباً ! فقال: (( وما ذاك؟ )) فأخبرته الخبر فقال: (( يا حكيمة ، ما تروى من عجائبه أكثر ))(3). وروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: (( قد وُلد شبيه موسى بن عمران فالق البحار ، فيبكي عليه أهل السماء ، ويغضب الله تعالى على عدوّه وظالمه فلا يلبث إلاّ يسيراً حتّى يُعجّل الله به إلى عذابه الأليم وعقابه الشديد ))(4). والمشهور أنّ الإمام الجواد (عليه السلام) شديد الأدَمة(5) . وقيل : أبيض معتدل(6).
2ـ فضائله ومناقبه ومعاجزه (عليه السلام): روى العلاّمة المجلسي وغيره أنّه كان عمرُ الإمام الجواد (عليه السلام) عند وفاة أبيه (عليه السلام) تسع سنين ، وقيل : سبع سنين . ولمّا استُشهد أبوه كان في المدينة ، وشكّ بعضُ الشيعة في إمامته ؛ لصغر سنّه حتّى حجّ العُلماء والأفاضل والأشراف وأماثل الشيعة في أطراف العالم ، ثم جاؤوا إلى الإمام (عليه السلام) بعد إتمام مناسكهم ، فزالت شبهاتهم وشكوكهم بعد ما رأوا غزارة علمه وكثرة معاجزه وكراماته ، وأقرّوا بإمامته. وقد رُوي أنه (عليه السلام) أجاب عن ثلاثين ألف مسألة غامضة في مجلسٍ واحد أو مجالس متوالية(7). وأراد المأمون ـ بعد أن أخذ الناس بلومه والطعن عليه ؛ لقتله الإمام الرضا (عليه السلام) ـ أن يدفع تهمة الخطأ والجرم عنه ، فكتب ـ بعدما جاء من خراسان إلى بغداد ـ الى الإمام محمد الجواد (عليه السلام) يدعوه بإعزاز وإكرام ، فلمّا وصل الإمام الجواد ، خرج المأمون يوماً للصيد قبل أن يلقى الإمام ، فاجتاز بطرف البلد ، وهناك صبيان يلعبون ومحمد الجواد (عليه السلام) واقف عندهم ، فلمّا أقبل المأمون فرَّ الصبيان ووقف محمّد الجواد (عليه السلام) وعُمره إذ ذاك تسع سنين ، فلمّا قرُب منه الخليفة نظر إليه ـ وكان الله تعالى ألقى في قلبه مسحة القبول ـ فقال له: ياغلام ما منعك أن لا تفرّ كما فرَّ أصحابُك ؟ فقال له محمّد الجواد (عليه السلام) مُسرعاً: (( يا أمير المؤمنين ، فرَّ أصحابي خوفاً ، والظنّ بك حسن . إنّه لا يفرُّ مِنك مَن لا ذنب له . ولم يكن بالطريق ضيقٌ فانتهي عن أمير المؤمنين )). فأعجب المأمون كلامه وحسن صورته ، فقال: ما اسمُك ياغلام ؟ فقال: (( محمّد بن عليّ الرضا )) . فترحَّم الخليفة على أبيه ، وساق جواده إلى ناحية وجهته(8). وروى الطبري عن الشلمغاني أنّه قال : حجّ إسحاق بن إسماعيل في السنة التي خرجت الجماعة إلى أبي جعفر (عليه السلام) . قال إسحاق : فأعددتُ لي في رقعةٍ عشر مسائل لأسأله عنها ، وكان لي حمل . فقلتُ: إذا أجابني عن مسائلي سألتُه أن يدعو الله لي أن يجعله ذكراً ، فلمّا سأله الناس قمت والرقعة معي لأسأله عن مسائلي ، فلمّا نظر إليَّ قال لي : (( يا أبا يعقوب سمّه أحمد )) . فولد لي ذكر وسمّيته أحمد ، فعاش مُدّةً ومات(9). ومن معاجزه (عليه السلام) ما رواه الشيخ الكليني وغيره عن محمّد بن أبي العلاء أنّه قال : سمعتُ يحيى بن أكثم ـ قاضي سامراء ـ بعدما جهدت به وناظرتُه وحاورتُه ، وواصلتُه وسألته عن عُلوم آل محمّدٍ (ص) فقال : بينا أنا ذات يوم دخلتُ أطوف بقبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فرأيتُ محمّد بن عليّ الرضا (عليه السلام) يطوف به ، فناظرتهُ في مسائل عندي فأخرجها إليّ . فقلتُ له : والله إنّي اُريد أن أسألك مسألة ، والله لأستحي من ذلك . فقال لي : (( أنا اُخبرك قبل أن تسألني ، تسألني عن الإمام ؟ )) فقلت: هو والله هذا . فقال : (( أنا هو )) . فقلتُ : علامة ؟ فكان في يده عصا فنطقت وقالت: إنّ مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجّة(10). وروى أيضاً بهذا المعنى عُمارة بن زيد أنه قال: رأيت محمّد بن علي (عليهما السلام) فقلت له: يابن رسول الله ما علامة الإمام؟ قال: (( إذا فعل هكذا ، ووضع يده على صخرةٍ فبان أصابعُه فيها ، ورأيتُه يمدّ الحديدة بغير نارٍ ويطبع على الحجارة بخاتَمه))(11) . وروى إسماعيل بن العبّاس الهاشمي أنّه قال: جئتُ إلى أبي جعفر (عليه السلام) يوم عيد ، فشكوتُ إليه ضيق المعاش ، فرفع المصلّى وأخذ من التراب سبيكة من ذهب فأعطانيها ، فخرجت بها إلى السوق فكان فيها ستة عشر مثقالاً من ذهب(12).3ـ شهادته (عليه السلام): لمّا استدعى المأمون الإمام الجواد (عليه السلام) بعد وفاة أبيه إلى بغداد وزوّجه ابنته ، مكث الإمام ببغداد مدّة فضاق صدره من سوء معاشرة المأمون ، فاستأذنه في الذهاب إلى الحجّ ، فتوجّه إلى بيت الله الحرام ومن هناك عاد إلى مدينة جدّه وبقي هناك إلى أن مات المأمون ، واغتصب الخلافة بعده أخوه المعتصم . وكان ذلك في السابع عشر من شهر رجب سنة (218هـ) . فلمّا استوى المعتصم على الملك ، وسمع فضائل ومناقب الإمام الجواد (عليه السلام) ، وبلغة غزارة عِلمه ، اضطرمت نار الحسد في قلبه ، وصمّم على القضاء على الإمام عليه السلام فاستدعاه إلى بغداد ، فلمّا توجّه الإمام إلى بغداد جعل وصيّه وخليفته ابنه علي النقيّ (عليه السلام) ، ونصَّ على إمامته عند كبار الشيعة وثقات الأصحاب ، وسلّم إليه كتب العلوم الإلهية والأسلحة التي كانت للنبي (صلّى الله عليه وآله) وسائر الأنبياء (عليهم السلام) . ثم ودع الإمام أهله وولده وترك حرم جدّه (صلّى الله عليه وآله) وذهب إلى بغداد بقلبٍ حزين ، ودخلها يوم الثامن والعشرين من شهر محرّم سنة (220هـ) وقتله المعتصم في أواخر هذه السنة بالسُّمّ . وأما كيفية شهادته (عليه السلام) ، فقد وقع الخلاف فيها لكن الأشهر أنّ زوجته اُم الفضل بنت المأمون سمّته بعد تحريض عمّها المعتصم ؛ لأنها كانت تضمر العداء والبغض للإمام ؛ لميله (عليه السلام) إلى الجواري دونها ، وكان يرجّح أُمّ الإمام علي النقي (عليه السلام) عليها ، فكانت دائمة الشكاية منه عند أبيها وهو لا يستمع إليها ، وقد عزم بعد أن قتل الإمام الرضا (عليه السلام) على ترك أذى أهل بيت الرسالة (عليهم السلام) وعدم التعرّض لهم للحفاظ على الملك(13). وكيف ما كان فقد نقل عن كتاب عيون المعجزات : أنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر (عليه السلام) ، وأشار على ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه ؛ لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر (عليه السلام) وشدّة غيرتها عليه ، فأجابته إلى ذلك وجعلت سُمّاً في عنب رازقي ووضعته بين يديه . فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي ، فقال: (( ما بكاؤك؟ واللهِ ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر وبلاء لا ينستر )). فماتت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها ، حيث صار ناسوراً فيه فأنفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك العلّة التي احتاجت إلى الاسترفاد ـ يعني الاستعانة ـ ورُوي أن الناسور كان في فرجها(14). ثم غُسّل الامام عليه السلام وكُفّن ودُفن في مقابر قريش خلف رأس جدّه الإمام موسى (عليه السلام) ، وصلّى عليه ظاهراً الواثق بالله ، ولكنّ الحقيقة هي إنّ الإمام علي النقي (عليه السلام) جاء من المدينة بطيّ الأرض وتولّى أمر تجهيزه وتكفينه والصلاة عليه(15). ووقع الخلاف في تأريخ إستشهاد الإمام الجواد (عليه السلام) ، والأشهر أنّه استُشهد في آخر شهر ذي القعدة سنة (220هـ) ، وقيل غير ذلك(16). وكان ذلك بعد سنتين ونصف من موت المأمون كما قال الأمام نفسه : (( الفرج بعد المأمون بثلاثين شهراً )) . وعمره الشريف خمس وعشرون سنة وأشهر(17).
فإنّا لله وإنّا إليه راجعون وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون.
.
المصادر
1) بحار الأنوار 50 / 14.
(2) الارشاد 2 / 276.
(3) مناقب آل أبي طالب 3 / 499.
(4) عيون المعجزات / 108.
(5) نوادر المعجزات / 173.
(6) بحار الأنوار 50 / 15.
(7) مناقب آل أبي طالب 2 / 490.
(8) الفصول المهمة / 266 عنه موسوعة الامام الجواد (عليه السلام) 1 / 424.
(9) الكافي 1 / 353.
(10) الكافي 1 / 353.
(11) دلائل الامامة / 400.
(12) الثاقب في المناقب / 526.
(13) مروج الذهب 3 / 464.
(14) بحار الأنوار 50 / 17.
(15) بحار الأنوار 50 / 13.
(16) حلية الأبرار 1 / 13 ، وبحار الأنوار 50 / 2 .
(17) بحار الأنوار 50 / 64 .
تعليق